الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حكاية السجن الذي تحوّل متحفاً

حكاية السجن الذي تحوّل متحفاً
5 سبتمبر 2015 00:12
مختار بوروينة (الجزائر) نادراً ما يتم تحويل اقتراحات المثقفين أو مطالباتهم بموضوع ما إلى قرار سياسي، لكن قرار السلطات الجزائرية تحويل سجن «سركاجي» أو «بربروس»، سيئ الذكر، إلى متحف للذاكرة الوطنية وتاريخ الجزائر، يبدو من المرات النادرة التي يستجيب فيها السياسي للثقافي. كم هو جميل أن يتحول سجن إلى متحف أو مدرسة أو مركز ثقافي؟ كم يمتلك هذا الفعل من دلالات إنسانية وثقافية، وكم يجعلنا نتفاءل بأن تكون الأيام الآتية أفضل سواء لجهة علاقة الثقافي بالسياسي، أو لجهة دفع الثقافة لتكون في واجهة الفعل الحضاري... هنا، محاولة لاستجلاء جوانب هذا القرار. بعد أن غنى الفنان العالمي الشاب خالد عن أول شهيد يعدم بمقصلة السجن، وصوَّر المخرح الجزائري السعيد ولد خليفة وقائع مسار «أحمد زبانة» في فيلم تاريخي، وظهرت تفاصيل جناح المقصلة الموجود بمتحف المجاهد بمقام الشهيد في فيلم «سركاجي» للمخرج محمد صحراوي، يتحول المكان الفعلي الموسوم بالدم إلى متحف في نوع من محاربة ثقافة النسيان. ويوضح وزير العدل الطيب لوح أن قرار تحويل السجن إلى متحف نابع من هدف استراتيجي وطني، ومن طلبات مخرجين سينمائيين ومنتجين للقيام بتصوير أفلام داخل سجن «سركاجي» الذي يبقى من أهم المعالم الشاهدة على ممارسات التعذيب وتنفيذ أحكام الإعدام اللاإنسانية بالمقصلة ضد المئات من المجاهدين والمناضلين أو «الخاوة» (الأخوة في الكفاح) كما كان يطلق عليهم، والذين زج بهم في زنزاناته المظلمة والباردة قبل تنفيذ أحكام الإعدام فيهم. وقال المخرج السينمائي محمد الزاوي لـ«الاتحاد» أن كل ما يمكن أن يحول السجون إلى متاحف أمر جيد، وجميل أن يتحول إلى متحف عوض أن يبقى سجنا، مستدلاً بما قام به في فيلمه الوثائقي «عائد إلى مونلوك» الذي يروي قصة المقاوم الجزائري مصطفى بودينة الذي يعود إلى زنزانته بسجن مونلوك (فرنسا) رفقة مدير المتحف حيث يستعيد ذكرياته الأليمة في هذا السجن ويتحدث عن رفاقه الذين حكم عليهم بالإعدام من قبل السلطات الاستعمارية. وكانت تلك أول مرة في تاريخ العلاقات الجزائرية الفرنسية التي يعود فيها سجين جزائري إلى زنزانته دون أي قرار سياسي بل بمبادرة من سي مصطفى الذي ألف كتابا حول «الناجون من المقصلة»، وهو الرجل الذي حكم عليه بالإعدام مرتين خلال حرب الجزائر. وبين سجن «مونولوك» الذي يحكي قصة الحرب العالمية الثانية عامة، و»سجن سركاجي» الذي يحكي قصة الثورة الجزائرية خاصة، يضع مصطفى بودينة نفسه، من خلال إشرافه على جمعية قدماء المحكوم عليهم بالإعدام التي تتخذ من وقفتها السنوية بسجن «سركاجي» محطة للذكرى والحديث مع الأجيال الصاعدة عن مشاهد ووقفات الشهامة لمواجهة الخوف الدائم من ذلك الفجر الفاجع الذي يطرق فيه سجانه الباب ليقتاد المحكومين عليهم بالإعدام إلى المقصلة. في سجن «سركاجي» قام الجيش الفرنسي بإعدام ما لا يقل عن 58 مناضلا في سبيل القضية الوطنية من بينهم 48 بالمقصلة ويتقدمهم أحمد زبانة، أول من نفذ في حقه الإعدام بالمقصلة في 19 يونيو 1956، وفرناند ايفتون المناضل الوحيد من أصول أوروبية والذي أعدم (13 فبراير 1957) و سعيد تواتي وبوعلام رحال وطالب عبد الرحمن وغيرهم. وتذكر السيدة ز. أوكرين إحدى القاطنات بحي القصبة أن السجن كان مكانا مروعا، وكان تنفيد إعدام الشهيد زبانة في غاية البشاعة حيث أعدم ثلاث مرات كونه بقي حيا بعد محاولتين قبل أن يستشهد في المحاولة الثالثة تحت هتافات «تحيا الجزاير» المنبعثة من حناجر المجاهدين داخل الزنزانات كلما نفذ حكم الإعدام في أحد منهم.. كما تذكر ز. أوكرين إعدام الشهيد بوعلام رحال (20 سنة) الذي طلب أن يعدم رميا بالرصاص بدلا من المقصلة لكن السلطات الفرنسية رفضت. ومن بين المناضلين الذين مروا من هذا السجن، الشاعر مفدي زكريا الذي كتب قصيدة «من جبالنا» التي كانت النشيد الوطني للجزائر المكافحة، وهنري علاق وجميلة بوحيرد ورابح بيطاط وآن شتينر وزهرة ظريف وبن يوسف بن خدة وعبان رمضان والمئات من (الأخوة في الكفاح). و غداة الاستقلال اقترح الرئيس الراحل أحمد بن بلة تحويل السجن إلى متحف، وتم غلقه لمدة قصيرة وصنف معلما تاريخيا إلى أنه أعيد فتحه سنة 1965 وبنفس التسمية: «سجن سركاجي»، الذي يعود بنائه إلى 1856م فوق حصن من العهد العثماني بأعالي الجزائر العاصمة. حاليا، تم تكليف لجنة متخصصة بالدراسات التقنية والقانونية المتعلقة بتحويل هذا المكان الى متحف بعد غلقه وتحويل المساجين كلهم في نوفمبر 2014، وبما يتماشى مع مخطط تأهيل القطاع المحمي لقصبة الجزائر. في تصريح لأحد المجاهدين من جيل الثورة، يقول المدعو «كتو» لـ «الاتحاد» أن كل شيء صادق ويمكنه أن يساعد على فهم التاريخ والذاكرة يجب أن يرحب به، حتى الكتابات والأدبيات الأجنبية والصحفية لهذه المرحلة يجب أن تكون داخل المتحف، مع تفعيل التنسيق بين المهندسين والمؤرخين والفنانين وأصحاب الذاكرة حتى تعود الروح للمتحف - السجن المكان الشاهد على الإعدام بالمقصلة في حق دعاة الحرية والاستقلال، مع الأمل أن يشمل القرار أيضا سجن «الكدية» بمدينة قسنطينة، وهو الذي يخلد تفاصيل هروب أحد كبار شهداء الكفاح الجزائري من قبضة المستعمر والعودة إلى ميدان الكفاح، وقد أبدع المخرج السينمائي أحمد راشدي في تصوير الوقائع والجزئيات بشكل دقيق وباحترافية مذهلة في فيلم ضخم عن «إبن بولعيد» أحد مفجري ثورة أول نوفمبر. وكان الوالي السابق للولاية قد تراجع عن قرار هدم سجن «الكدية» بعد تدخل قوي من رفقاء إبن بولعيد وجمعيات فاعلة، لكن المرفق لن يبقى مستغلا كسجن وسط المدينة وإنما سيحول إلى متحف للثورة بعد شروع وزارة العدل في استخراج أرشيف السجن المتعلق بفترة ما قبل الثورة وعرضه على الجهات المختصة قبل وضعه تحت إشراف وزارة الثقافة. في انتظار ذلك، يبقى القرار الرسمي معلقا، عكس ما حصل مع سجن «سركاجي»، فيما يؤكد وزير الثقافة عز الدين ميهوبي انه سيتم قريبا إنشاء مرصد وطني يتكون من خبراء ومختصين في التراث الوطني تحت وصاية وزارة الثقافة، يمكن أن يرقى في المستقبل إلى مجلس وطني يشرف على جميع المتاحف الوطنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©