الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العين الناقدة

العين الناقدة
2 يناير 2013 21:17
في دراسة له حملت عنوان: “المثقّفون الأميركيون والمثال الدّيمقراطي”، يرسم المفكّر دانيال جيراي صورة للدّيمقراطيّة الأميركيّة خلال القرن العشرين من خلال أربعة من كبار المفكّرين الذين كان لهم تأثير في المشهد السياسي الأميركي، وكانت لهم مواقف تجاه العديد من القضايا التي واجهتها بلادهم على مستويات متعدّدة ومختلفة. أوّل هؤلاء هو الفيلسوف ويليام جيمس (1842-1910)الذي ولّد مذهباً فلسفيّاً جديداً حمل اسم “البراغماتيّة”، وكان من المدافعين عن تعدّد الاعتقادات الدينيّة. وقد أثّر ويليام جيمس في شعراء، وروائيّين من أمثال روبرت فروست، وجرتريد شتاين، وفي علماء اجتماع وفلاسفة من أمثال روبرت بارك، والان لوك. والثّاني هو المفكّر الزنجيّ ويليام إدوارد بورغهاردت دوبوا (1868-1963) الذي تمكّن بفضل دراساته القّيّمة في مجال التاريخ وعلم الاجتماع من أن يصبح أحد رموز نضال الزّنوج من أجل الديمقراطيّة والمساواة.. يحتلّ نعوم تشومسكي المولود عام 1928 المرتبة الثالثة. وقد اشتهر بكتاباته النقّديّة الحادّة ضدّ الإمبرياليّة الأميركيّة، وضدّ النّخب المثّقّفة المساندة لها. وأمّا سوزان سونتاغ (1933-2004) فقد فرضت نفسها في المشهد الفكري، والثّقافي بفضل كتاباتها عن الفنّ، وعن المفهوم الديمقراطي في المجال الثّقافي. صورة المثقف في مقدّمة دراسته المذكورة، يشير دانيال جيراي إلى أنّ هناك عددا كبيرا من المثقّفين اختاروا أن يكون لهم دور في مجال النّقد الاجتماعي للمساهمة الفعليّة في الديّمقراطيّة. وقد كتب في ذلك يقول: “لم يكن للديمقراطيّة في أيّ يوم من الأيام معنى ثابت، غير أنها كانت دائما وأبدا مفهوما يخضع للتغيّر، والمراجعة. فعندما زار الأرستقراطي ألكسي دو توكفيل الولايات المتحدة الأميركية عام 1830، اكتشف أن المجتمع الديمقراطيّ يقوم على ما سمّاه بـ “مبدأ المساواة”. وإذا ما اعترف توكفيل ببعض مميّزات وفضائل الديمقراطيّة الأميركية، فإنه يختم استنتاجاته بالقول بأنه ليس بإمكان هذه الديمقراطيّة أن تفضي إلى إنجاز مهمّ في المجالين الثّقافي، والفكري. وكان يخشى أن تؤدّي تلك الديمقراطيّة إلى “استبداد الأغلبيّة” التي تؤدّي بدورها إلى امتثاليّة في الآراء، بعد أن يشعر كلّ شخص بأن ليس من حقّه أن يدلي برأي مختلف عن رأي الجالس بجانبه”. ويرى دانيال جيراي أن المثقّفين بصفتهم نقّادا اجتماعييّن يساعدون على بناء الديمقراطيّة. وفي الآن نفسه هم يستغلّون دورهم هذا ليتمتّعوا بمركز اجتماعي متميّز. وكان ويليام جيمس أوّل من استعمل كلمة “مثقّف” وذلك خلال الخطبة التي ألقاها عام 1907 في احتفال مخصّص لـ “القيمة الاجتماعية للمتحصّل على دبلوم”، وفيه ركّز على ضرورة تطوير وتغذية الحاسّة النقديّة لدى كلّ طالب قائلا: «أن يمضي الطّالب سنوات شبابه، في علاقة مع الذين تمّ اختيارهم، وهم نادرون، وقيّمون، ويظلّ مع ذلك موزّع دروس، ومحدَث نعمة أعمى عاجزا عن أن يكشف عن الإنسانيّة في تجلّياتها الرّائعة، أو عن حدسها في حوادثها الطّارئة والعارضة، ولا يتعرّف عليها إلاّ بعد أن يتمّ تصنيفها، أو تفرض علينا من قبل آخرين، فإنّ هذا لن يكون سوى الكارثة الحقيقية للتعليم العالي، وانحطاطه”، وتدهوره. وكما هو واضح هنا، فإنّ ويليام جيمس يختلف في تعريفه لـ “المثقّف” عن التّعريف الفرنسيّ إذ إنه لا يراه محدّدا في فئة ضيّقة، بل هو يعتقد أنّه يتّسع ليشمل أصحاب الشّهادات العليا الحاصلين على معارف في الفلسفة، وفي الآداب، وفي التّاريخ، وفي العلوم الاجتماعيّة وغيرها. ينبغي أن نشير إلى أن تحديد جيمس لصورة “المثقّف”، ولدوره، يعكس التطّوّر الهائل الذي شهدته الجامعات الأميركية في بداية القرن العشرين، وظهور جامعات مرموقة سوف تتخرّج فيها نخب جديدة، فاعلة في جميع الميادين. وكان ويليام جيمس مؤمنا بأنّه بإمكان المثقّفين المساهمة في بناء الديمقراطية، وترسيخ مبادئها في المجتمع. ويكون ذلك اعتماداً على أنّه يتحتّم عليهم عدم احتكار عالم الأفكار لصالحهم، بل توسيعه ليشمل أكبر عدد ممكن من الرّاغبين في نقاش ديمقراطي، فالديمقراطيّة الحقيقيّة لا تُبنى بغير الاستشارة الشعبيّة. وقد ولد ويليام جيمس في نيويورك عام 1841. وهو ينتمي إلى عائلة مرموقة اشتهرت بحبّ الثقافة والعلم. وقد بدأ حياته رسّاما غير أنه سرعان ما انصرف عن ذلك لاقتناعه بمحدوديّة مواهبه في هذا المجال.. وبسبب اعتلال صحّته، لم يشارك في الحرب الأهليّة بين الشّمال والجنوب. وبعد أن أمضى فترة قصيرة في دراسة الطبّ، قرّر أن يدرس الفلسفة، وسافر إلى ألمانيا، وعاد منها عام 1870، ليعيّن أستاذا في جامعة هارفارد. وكان صديقه الفيلسوف شارل بيرس أوّل من استعمل كلمة “البراغماتيّة”، غير أن ويليام جيمس عمل على نشرها في الأوساط الفلسفيّة الأميركية انطلاقا من بداية القرن العشرين ليتبنّاها فلاسفة جدد من أمثال دون ديوي، وجورج هربرت ميد. وفي ظرف زمنيّ قصير، أصبحت “البر اغماتيّة” حركة فلسفيّة، وثقافيّة نشطة، وفاعلة في أوساط النّخب المثقفة. و”البراغماتيّة بحسب مبتكريها هي “فلسفة الحقيقة”. والحقيقة لا تبرز إلاّ بالبحث عنها. وهي ليست مطلقة، وإنّما عارضة، ومحتملة. وهي أيضا وسيلة يستعملها الناس لكي ينسجموا مع أوضاع مختلفة سياسيّة، واجماعيّة، وثقافيّة، وغيرها. ويعتقد البراغماتيّون أن الطّرق، والوسائل العلميّة الحديثة هي الأفضل للتوصّل إلى الحقيقة المنشودة. وقد دافع ويليام جيمس عن المعتقدات الدينية، وعن حقّ كلّ فرد في اختيار العقيدة التي يراها مناسبة له، منتقدا بحدّة الفلاسفة الذين كانوا يجاهرون بإلحادهم، وبغنّوصيّتهم. وفي ذلك كتب يقول في نصّ له حمل عنوان: “إرادة العقيدة”: “ليس لأيّ أحد منّا الحقّ في أن يفرض آراءه على الغير، كما ليس علينا أن نتبادل الشتائم بسبب خلافاتنا حول مسائل معيّنة. بل بالعكس، يتوجّب علينا أن نحترم، وأن نقدّر بعمق، واتّزان حرّية الآخر في التّفكير.. بمثل هذه الطريقة وحدها، يمكننا أن نبني الجمهوريّة الثّقافيّة، وأن نمتلك فكر التّسامح الدّاخليّ، والذي من دونه لن يكون للتّسامح الخارجيّ أيّ معنى». وقد ردّ عليه احد منتقديه، وهو أوليفر فنديل هولمز، قاضي االمحكمة العليا قائلا: “لقد حاول جيمس أن يطفئ الأنوار لكي يعطي فرصة لظهور المعجزة”. غير أن دفاع جيمس عن الدين لم يمنعه من انتقاد البروتستانتية في العديد من المرات، الشيء الذي أغضب الكثيرين من أنصار هذا المعتقد. ومنتقدا بعض الجوانب السّلبيّة في براغماتيّة ويليام جيمس، كتب دانيال جيراي يقول: “عارض جيمس الحرب الإسبانيّة - الأميركية (1898)، واتّخذ ضدّ الإمبرياليّة موقفا شجاعا. مع ذلك، كان مفهومه للدّور السّياسي للمثقّف ساذجا. فهو كان يعتقد أنّه من واجب المثقّفين الدّفاع عن “المصالح المثاليّة”، ومناهضة “الأفكار المسبقة، والانفعالات الغبيّة” المجسّدة في المثقّفين الفرنسيين المعادين لدريفوس، والموالين لهم من بين الأميركييّن. وكان جيمس ضحيّة الوهم المنتشر بين العديد من المثقّفين، والمتمثّل في أنه باستطاعة المثقفين أن يكوّنوا قوّة متوحدة في السّياسة، وكرجال علم يمكنهم أيضا أن يكونوا فوق الانقسامات التي تشقّ مختلف الطّبقات الاجتماعيّة. حجاب تعبيري ويشير دانيال جيراي إلى أن ويليام جيمس أثّر بقوّة في المفكّر، والفيلسوف الزّنجيّ ويليام إدوارد بورغهارد دوبوا خصوصا في بداياته ليصبح في ما بعد واحدا من ألمع رموز الثقافة الأميركية في النّصف ألأوّل من القرن العشرين.. ورغم أنّه دَرَسَ في “هارفارد”، فإنّ دوبوا كان مختلفا عن أغلب زملائه البيض في جوانب فكريّة عديدة. وعلى مدى مسيرته الطّويلة، لم يتخلّ أبدا عن الدّفاع عن القضايا المتّصلة بالزّنوج، ومناصرتهم في نضالهم ضدّ العنصريّة البيضاء. وقد كتب عنه دانيال جيراي يقول: “رغم أنّه -أي دوبوا- حلم بزمن لا يكون فيه الجنس صفة اجتماعيّة، فإنّه كان يعترف بضرورة وجود هويّة جنسيّة بالنّسبة للنّشاطات السياسيّة المناهضة للعنصريّة. وكان يدعو إلى وحدة لا تضمّ فقط الأفارقة - الأميركييّن، وإنّما أيضا كلّ الشّعوب الملوّنة في جميع أنحاء العالم. وكان يقول: “مشكلة القرن العشرين هي مشكلة الخطّ الفاصل بين الألوان - والعلاقة بين البيض، والملوّنين في آسيا، وفي إفريقيا، وفي أميركا، وفي الجزر”. وقد ولد دوبوا عام 1868 في منطقة “ماسوشيتس” التي كانت معروفة في ذلك الوقت بقلّة النّزاعات العنصريّة. ومنذ البداية، أظهر نبوغا في الدّراسة أهّله لدخول جامعة “هارفارد” العريقة ليدرك منذ البداية أنّه مفصول عن عالم البيض بـ “حجاب هائل” بحسب تعبيره. وفي ما بعد سيقول بمرارة: “كنت في هارفارد، ولم أكن في هارفارد”. وفي عام 1892 انطلق دوبوا إلى برلين لمواصلة دراسته في الفلسفة، ومنها عاد بعد سنتين بشهادة دكتوراه. وبعد أن عمل أستاذا في جامعة “أطلانطا”، عيّن مدير تحرير لمجلّة “أزمات” المتخصصّة في الدّفاع عن الحقوق المدنيّة للملوّنين. وخلال الحرب الكونيّة ألأولى، أظهر دوبوا ميولا اشتراكيّة، وفي مواقفه، كما في كتاباته انتقد بحدّة الإمبرياليّة الأميركية، والبلدان الأوروبيّة الاستعماريّة وفيما بعد سوف يتعاطف مع الحزب الشيوعيّ الأميركي، وينضمّ إليه عام 1961. وبسبب ذلك، اشتدت الرقابة عليه ليضطرّ إلى الهجرة إلى غانا بدعوة من رئيسها كوامي نكروما. وقد توفيّ دوبوا يوم 27 أغسطس 1963 قبل يوم واحد من المسيرة الكبيرة التي قادها الزعيم الزّنجي مارتن لوثر كينغ للدّفاع عن حقوق الزّنوج المدنيّة. ويرى دانيال جيراي أن “أرواح الشّعب الأسود” هو أهمّ كتاب رسم فيه دوبوا رؤيته الفلسفيّة للقضايا الكبرى التي انشغل بها في مختلف مراحل مسيرته الفكريّة. وفي هذا الكتاب، أبرز ثقافته الواسعة، وإلمامه بالفلسفة، وبالآداب الإنسانيّة، وبعلم الاجتماع، وبالنّقد الأدبيّ، والسياسي، وبالتّاريخ.. وقد ركّز فيه بالخصوص على الردّ على البيض الذين كانوا يشيعون عبر كتاباتهم، كما عبر مواقفهم أن انتكاسة البناء الديمقراطي تعود أساسا إلى دونيّة الزّنوج، قائلا: “كلّ النّاس يعرفون على الأقل أنه بالرّغم من التّسويات، والاتّفاقيّات، وأنه بالرغم من الحرب، والنضالات، فإنّ الإنسان الأسود ليس حرّا (…). ففي كلّ مناطق الجنوب الزّراعيّ، يعيش المزارعون السّود كأجراء، مضطرّين بحسب القانون، والتّقاليد أن يواصلوا العيش في ظلّ الاستعباد الاقتصادي الذي لا ينجون منه إلاّ بالموت، أو بالحبس في السّجون الإصلاحيّة. وفي المناطق، وفي المدن ألأكثر ثراء في المجال الزّراعيّ، يعتبر الزّنوج فئة مُستعبَدة، معزولة عنصريّا ولا تتمتّع إلاّ بحقوق وامتيازات محدودة للغاية”. ويرى الكثيرون أن الكتاب المذكور كان بمثابة “البيان السّياسيّ” الذي أراد دوبوا من خلاله أن يكون زعيم الأفارقة – الأميركيين. ولم تكن مقاربته فلسفيّة فقط، بل كانت أيضا أدبيّة أنثروبولوجيّة، وسيكولوجيّة، ومن خلالها سعى إلى إبراز الدور الذي لعبته النّخب السّوداء في تطوّر المجتمع الأميركي. ومخاطبا البيض، كتب دوبوا يقول: “بلدكم؟ ومتى أصبح بلدكم؟ حتى قبل قدوم “الآباء الفاتحين، كنّا هنا. وإلى هذه البلاد نحن وهبنا هباتنا الثلاث: هبة فنّ القصّ، وفنّ الغناء - نغم ناعم، ومثير للأحاسيس في بلد يغلب عليه التنافر، وعدم الانسجام، وهبة العدد، والقوّة لصدّ الطّبيعة المتوحّشة، وغزو مناطق جديدة لوضع أسس الإمبراطوريّة الاقتصاديّة، قبل مئتي عام من أن تتمكّن أيديكم من فعل ذلك. ونحن وهبنا أيضا هبة الفكر”. ويتساءل دوبوا بمرارة: “هل كان بالإمكان أن تكون أميركا أميركا لولا الشعب الأسود؟”. غير أنّ دوبوا لا يكابر، بل يعترف بتخلّف مواطنيه السّود، وبضعفهم ونقائصهم. وهو يرى أنهم بحاجة إلى مساعدة البيض للنّهوض بأنفسهم، وتدارك ما فاتهم في العديد من المجالات الحيويّة. المثقف النقدي ومن دوبوا ينتقل دانيال جيراي إلى نعوم تشومسكي الذي اختير عام 2005 كـ “أفضل مثقف جماهيري”. وتعود شهرة تشومسكي إلى الدّراسات الثوريّة العميقة التي أنجزها في مجال اللّسانيّات ليصبح واحدا من ألمع رموز الثّقافة الأميركية في النّصف الثاني من القرن العشرين. كما اشتهر تشومسكي أيضا بمواقفه وكتاباته السّياسيّة التي ينتقد فيها بحدّة الإدارة الأميركية، وسياساتها سواء في ظلّ حكم الجمهورييّن، أم الديمقراطييّن. وإذا ما كانت دراسات تشومسكي في مجال اللّسانيّات تخصّ نخبة معيّنة نظرا لصعوبتها، فإنّ مواقفه وكتاباته السياسية تتمتّع بانتشار واسع داخل العديد من الأوساط الاجتماعيّة لا في بلاده فحسب، بل في مختلف بلدان العالم، المتقدّمة منها، والمتخلّفة. وقد ولد تشومسكي عام 1928. وهو ابن عائلة من المهاجرين اليهود. وكان والده مختصّا في النّحو العبري. أما والدته فكانت معلّمة. ومنذ سنوات الطّفولة، انجذب تشومسكي إلى الأفكار اليساريّة. فقد كتب وهو في العاشرة من عمره أولّ مقال سياسيّ، وفيه ينعى هزيمة الأنارخييّن في برشلونة خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وسقوط النّمسا في قبضة النازيّين. وانطلاقا من السّتيّنيات من القرن الماضي، وبعد أن أصبح يتمتّع بموقع مرموق على المستوى الأكاديمي، شرع تشومسكي يجهر بمواقفه السّياسيّة، مركّزا على انتقاد السّياسة الأميركية في المجال الخارجي، مناهضا الحرب في فيتنام، ومشاركا في العديد من التظاهرات، والندوات التي انتظمت لفضح نتائجها الكارثيّة. وبسبب مشاركته في المسيرة الكبرى عام 1967 في العاصمة واشنطن، اعتقل رفقة الكاتب الكبير نورمان مايلر. وفي كتاباته اهتم بنقد المثقفين الأميركييّن الذين تورّطوا في مساندة سياسة حكوماتهم. وهذا ما فعله بالخصوص في كتابه الذي حمل عنوان: “أميركا ومثقّفوها المتنفّذون الجدد”، والصّادر عام 1969. وهو يتضمّن نقدا حادّا للمثقفين الأميركييّن الذين يقومون بتقديم تبريرات للقرارات التي يتّخذها “البيت ألأبيض” في العديد من القضايا الأساسيّة في مجال السّياسة الخارجيّة. وقد كتب تشومسكي يقول: “من واجب المثقّفين أن يجهروا بالحقيقة، وأن يفضحوا الكذب “لأنهم بحسب رأيه” يتمتّعون بمركز متميّز في المجتمع، ولهم مسؤوليّات خاصّة في مجتمع ديمقراطيّ”. ويضيف قائلا: “لهذه الأقلّية -يقصد المثقّفين- التي تتمتّع بامتيازات، تهب الدّيمقراطيّة الغربيّة وسائل التّرفيه، والتّسلية، ووسائل التّكوين الضّروريّة بهدف البحث عن الحقيقة المتخفّية وراء حجاب العوج، والالتواء، والتّمثّلات الموسومة بالتّزييف، والمغالطة، ووراء أيديولوجيّة طبقة من خلالها تقدّم أحداث التّاريخ المعاصر. لذا من واجب المثقّفين أن يفضحوا المعلومات الخاطئة التي تروّجها حكوماتهم”. ويشير دانيال جيراي إلى أنّ الجهود الجبّارة التي بذلها تشومسكي في مجال النّقد السّياسي ألهبت حماس العديد من المثقّفين، للمشاركة في الجدل حول الديمقراطيّة، ودفعتهم إلى مواجهة سياسات الإدارة الأميركية تجاه مختلف القضايا. ضد التأويل.. ضد القمع ورغم أنها امرأة، فإنّ سوزان سونتاغ تمكّنت من أن تفرض نفسها في مشهد ثقافي يسيطر عليه الذّكور. وقد ولدت في نيويورك عام 1933، غير أنها أمضت طفولتها ومراهقتها في الغرب الأميركيّ متنقّلة بين “أريزونا”، و”تيكسون”، و”لوس أنجلوس”. وفي سنّ السّادسة عشرة، حصلت على شهادة البكلوريا لتنتسب إلى جامعة “بيركلي، ثمّ إلى جامعة “شيكاغو” وفيها تعرّفت على فيليب ريف الذي تزوّجته وهي في السّابعة عشرة من عمرها. وبمساعدته سوف تكتشف فرويد، والوجوديّة، ومدرسة فرانكفورت. وفي نهاية الخمسينيت، انتقلت سوزان سونتاغ إلى باريس بهدف مواصلة دراستها، غير أنّها فضّلت مخالطة الصّالونات الفكرية والأدبيّة، ومجالسة مشاهير الكتاب والشعراء، والفلاسفة في مقاهي العاصمة الفرنسيّة. ومنهم تعلّمت فنّ الجدل، وتوليد الأفكار. وفي عام 1959، عادت سوزان سونتاغ إلى الولايات المتّحدة الأميركية لتستقرّ في نيويورك، وتنفصل عن زوجها. ومنذ ذلك الوقت، انصرفت إلى الكتابة في مجالات متعدّدة، في الرواية، وفي السّيناريو، وفي النقد بالخصوص. وكانت من المناهضين لحرب فيتنام. كما أنها اشتهرت بدفاعها عن مرضى الإيدز، وعن الكتّاب والفنانين الذين يعانون من القمع في ظلّ أنظمة ديكتاتوريّة. إلى جانب كلّ هذا، دافعت سوزان سونتاغ عن حرّية المرأة، وعن دورها في المجتمع، وساندت عبر كتاباتها ومواقفها الحركة النسوية في أميركا، وفي أوروبا. وفي كتابها “ضدّ التّأويل” الصّادر عام 1966، ردّت على أفكار، ومواقف المثقّفين البارزين في أوساط نيويورك المعروفين بنقدهم الاجتماعي، والثّقافي، وجلّهم من أصول يهوديّة من أمثال إدموند ويلسون، وهانّا اراندت وديانا تريلينغ، وهارولد روزنبارغ. وجميعهم معادون للسّتالينيّة وللواقعيّة الاشتراكيّة التي ابتكرها جدانوف. وهم يصفون كلّ فن جماهيري بـ “الرّديء” لأنه صالح للدعاية السياسيّة بحسب رأيهم. لذا هم يدافعون بشراسة عن الحركات الثقافية والفكرية والفنيّة الطلائعية مثل السورياليّة وغيرها، ويعتبرون الأعمال الفنيّة “نخبويّة بطبيعتها، وبالتالي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال استغلالها سياسيّا. وفي نقدها لهؤلاء المثقّفين البارزين، ركّزت سوزان سونتاغ على “محدوديّة آفاقهم”، وعلى “تعاليهم المعرفي”، وعلى تأويلاتهم الخاطئة، والمضلّلة للفنّ، وللثّقافة بصفة عامّة. كما أنها رفضت تفسيراتهم الاجتماعية للفنّ معتبرة أن الفنّ الحقيقي يعرّف نفسه بنفسه من دون تأويلات اجتماعيّة أو سياسيّة أو غيرها، مشددّة على أن “الذّوق” هو وحده الَحكَمُ . وفي نهاية دراسته، يعتقد دانيال جيراي أن دور المثقّف لن يتقلّص داخل المجتمع الأميركي بفعل وسائل الاتصال الحديثة، مثلما يعتقد البعض، بل سيتّخذ أشكالا أخرى تنسجم مع المتغيّرات الجديدة. وبانتخاب أوباما، تكون الديمقراطيّة الأميركية قد قطعت الروابط مع ماض تميّز بالعنصريّة، وبسياسة أقصت السّود لفترة طويلة من الزّمن من القرارات السياسية بشأن القضايا الكبرى المتّصلة بالسّياسة الدّاخليّة، والخارجيّة. ومع ذلك، يتحتّم على المثقّفين ألا يتخلّوا أبدا عن دورهم النّقدي الذي تميّزوا به دائماً، وأبداً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©