السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

من كاسر الأمواج في أبوظبي إلى روشة بيروت

1 ديسمبر 2006 02:07
بيروت - رسول محمد رسول: كان صباح يوم الإثنين 20/11/2006 في أبو ظبي غائماً، وكانت غيوم ذلك الصباح ليست كغيوم الأيام الأخرى التي بدأ بها شتاء هذا العام، بدت غيوماً حُبلى بالمطر، وبالفعل ما ان انتصف النهار حتى أخذت زخّات الأمطار تهطل على المدينة في كل شوارعها وحاراتها وأطرافها، كان المطر كثيفاً وسريعاً وعابقاً بالرغبة الحميمة لإرواء عطش الزرع لماء السماء، ورغبة الأطفال في مشاهد حبّات المطر التي غابت عنهم في صيف بدت شهوره طويلة هذا العام· كنتُ مع صديقي المهندس شاكر سعدي، وهو تركي الجنسية، في (مركز المارينا مول) أثناء هطول الأمطار، كنّا قد وقفنا عند النوافذ لنرى عرس أمطار السماء، وهناك راودتني الرغبة بأن أخرج إلى الكاسر لأقف عند البحر وأرى كيف يستعيد ما أعطاه للغيوم لكي تعطس مطراً· كان المشهدُ رائعاً في أن تكون مع البحر والمطر في آن واحد، ولكن وبعد أن اغتسلت المدينة بماء أول غيث داعب جدائلها، أشرقت الشمس، ورمت بأحزمتها لتضفي فرحاً آخرعلى المدينة، لكنها الغيوم عادت من جديد لتُؤكِد الشمس حضورها مرَّة أخرى، وهكذا دواليك بين شمس خجولة وغيوم مخاتلة تركتُ الكواسر الضبيانية وعدتُ إلى منزلي استعداداً للسفر إلى بيروت· في الساعة السادسة مساءً انطلقتُ باتجاه مطار أبو ظبي، كانت الأجواء بالطائرة في غاية الهدوء، فالمسافرون قلائل، وهذا ما بعث في نفوس المضيفات الارتياح، ولكن بعد الانتهاء من تناول العشاء ساد الصمت متن الطائرة، ورأيتُ أن أنصرف لقراءة الصحف، إلا أن مشهد الهدوء كان لافتاً لي، فاستدرت إلى الخلف لأرى ما يمكن أن يبرِّر لي هذا الهدوء، فلم أر أحداً من الناس، فتساءلت أين ذهب المسافرون؟ ودفعني فضولي لأن أعرف الحقيقة، فنهضت متوجها إلى حمّام الطائرة، فبان لي أن المسافرين معي كانوا نائمين، وما كان لافتاً لي هي طريقة نومهم، فقد كانوا يفترشون كراسي الطائرة عرضاً ويطلقون العنان لأجسامهم أن تستلقي في تنهيدات مشخرة بعض الشيء أغلبها كانت نسوية، كانت أجساد الصبايا المتعبة ملقاة على كراسي الطائرة وكأن الصبايا المسافرات جئن من معركة ما أو من عمل حديدي قض راحتهن· أضواء بيروت عندما حطَّت الطائرة في مطار رفيق الحريري ببيروت، لم أر من نوافذها سوى أضواء لا أعرف مكانها، لكنها أضواء بيروت، فغمرني الفرح أنني أصل ـ لأول مرة ـ إلى العاصمة التي حَلمتُ بزيارتها مذ كنتُ صبياً عندما أسمع عنها في إذاعة (بي بي سي) البريطانية، ومنذ أن كنتُ أقرأ الكثير عنها في المجلات التي كانت تقع في متناول يدي في العراق· كانت أروقة المطار وصالاته خالية سوى من رجال الأمن، وهي أروقة وصالات فارهة لكن الحركة كانت تنقصها، كان بانتظاري شاب لبناني جنوبي رائع العواطف والمياسم اسمه (محمد السواحلي) فحملني في مركبته وطافَ بي شوارع بيروت ذات النسائم الباردة بعض الشيء، وجود الناس كان قليلا، فالساعة كانت تجاوزت الثانية عشرة مساءً، فبادرته السؤال: أين الناس؟ قال: كان اللبنانيون يتجولون في شوارع المدينة حتى منتصف الليل وتلك هي عادتهم، إلا أن الأمر تغير بعد الحرب الأخيرة فصاروا يذهبون إلى بيوتهم بعد العاشرة مساءً!! ما كان فندق كراون بلازا، حيث أُقيم، بعيداً عن المطار، ولذلك وصلنا إلى حيث الرقاد حتى الصباح، صباح يوم الثلاثاء 21/11/،2006 وهو الصباح الذي بدأتهُ بفطور لبناني طازج في مذاقه برفقة المفكِّر الإسلامي زكي الميلاد رئيس تحرير مجلة (الكلمة) الذي كان لقاؤه متوقعاً أيضا في بيروت، كذلك برفقة الكاتبة والأكاديمية الإماراتية فاطمة الصائغ التي لم ألتق بها في الإمارات منذ أن قدمتُ إليها·· لكنها بيروت جمعتنا على مائدة إفطار واحدة، ثم انضم إلينا الكاتب والأكاديمي القطري إبراهيم شهداد الذي فوجئت الدكتورة الصائغ بوجوده والتي هي الأخرى لم تلتق به منذ فترة طويلة، فكانت بيروت أيضا جمعتهما على مائدة واحدة· كان علينا أن نغادر المقصف إلى قاعة الورشة الفكرية، وهناك كان اللقاء مع عدد من المفكرين العرب المشاركين في الندوة، منهم: أحمد موصللي، وعلي حرب، وعدنان السيد حسين، وهدى رزق من لبنان، فضلاً عن السياسي البارز فؤاد مخزومي راعي المؤتمر، ومن سوريا رضوان زيادة، وعبد الرحمن الحاج، ومن الأردن حنان محمود إبراهيم، وفيصل الرفوع، ومن العراق غانم جواد، ومن السعودية زكي الميلاد، ومن اليمن المرتضى بن زيد المحطوري، ومن فرنسا المستشرق آلان روسيلون، ومن الولايات المتحدة الأمريكية عبد السلام المغراوي· جائزة من الإمارات!! ما هي إلا ساعة ونصف الساعة على بدء أعمال الورشة الفكرية حتى جاءت رسالة (مسج) من الإمارات إلى الهاتف الخليوي للدكتورة فاطمة الصائغ تتحدَّث عن فوزها بجائزة (الدراسات والبحوث) ضمن (جائزة الإمارات التقديرية للعلوم والآداب والفنون)· ترك الخبر بهجة غامرة على فاطمة الصائغ، فهنأها جميع الحاضرين في ورشة العمل الفكرية، وكانت رسائل التهنئة ترد إليها من الإمارات تباعاً ومن دون توقف، كان ذلك الخبر عاصفاً في طريقة التعبير عن كيانه؛ فما أجمل أن يحتفي بك وطنك وأنت في مكان آخر غير حدوده؟ وما أجمل أن يكون التكريم بانتظارك وأنت لا معلومة لديك عنه؟ كانت تلك مفاجأة الإمارات للدكتورة الصائغ ومفاجأة بيروت لها أيضاً· بينما كنا نعيش لحظات الفرح تلك، جاءنا خبر اغتيال وزير الصناعة اللبناني بيير الجميل في بيروت، كان الخبر عاصفاً فأثقل علينا الأجواء، وأخذت مخاوفنا تتصاعد، خصوصاً أن المناخ السياسي في لبنان كان ساخناً في ظل التوترات بين الأطراف اللبنانية المحلية، أكد لنا الدكتور أحمد موصللي، رئيس الورشة الفكرية، أن الأمور ستسير على ما يُرام ولن يكون هناك أي تصعيد بالبلد يؤثر على الهدوء! وفي الحقيقة كنّا بحاجة إلى اطمئنان من هذا النوع، لكننا، وفي سرائرنا، أدركنا أننا لن نجد في بيروت سوى بعض القلق، وأن حركتنا ستكون محدودة ونحن الذين عزمنا على أن نجعل من زيارتنا لبيروت فرصة للتعرُّف إلى أكثر ما يمكن معرفته عنها· كان الفندق الذي نزلنا فيه يقع في (شارع الحمراء) وهو الشارع الشهير الذي تُعرف به بيروت، كان الشارع خالياً من المركبات والمارّة سوى القليل؛ بسبب تشييع جنازة الراحل بيير الجميل· إنه شارع الحمراء إذن، أخذتُ أتأمُّل كل زواياه وأزقته بفرح غامر، فهنا، في هذا الشارع، كان العشرات من المبدعين اللبنانيين يجلسون فيه، وهنا استضاف هذا الشارع عددا من كبار المبدعين الغربيين، وهنا أغلب المكتبات ودور النشر اللبنانية، إلاّ أن الأوضاع السياسية المأزومة في لبنان كانت قد ألقت بظلالها على شارع الحمراء واستثارت فيه الهموم· صخرة الروشة مع ذلك، كان بي شوق لأن أرى (صخرة الروشة) على ساحل بيروت، كان حلماً من أحلام الطفولة، فامتشقت الوقت من غمده وخرجت إلى نهار بيروت حيث الناس قلائل والحذر يهيمن على بعض ممن ترك العنان لقدميه كي يخرج من بيته، سألتُ عن مكان (صخرة الروشة)؟ فقالوا: تحت، وكلمة (تحت) تعني أنك تنزل من (شارع الحمرا) إلى حافة البحر المتوسط الذي سيلف بيروت من خصرها الناعس، وهناك جلست أمام الصخرة، كانت رائعة الجمال، إنها سن بيروت الرخامية التي تحمَّلت أعباء كل ما مرَّ على لبنان من جراح وألم وحروب· عدت أدراجي إلى الأعلى، قطعتُ شوارع ومنعطفات، صعدتُ إلى شارع الحمراء مرة أخرى، تجولّتُ بين أزقته ومقاهييه ومحاله المغلقة، كانت نساء بيروت، على قلتهن ممن يمشين في الشارع، كالأزاهير النضرة التي تفترش المكان بالجمال الباسم· في الطريق إلى مطار رفيق الحريري، سألتُ محمد السواحلي أن يجول بي قدر استطاعته لأرى شوارع بيروت أكثر، وبينما وصلنا إلى المطار توقفتُ عند بوابته متأملاً جبل بيروت من بعيد، معتذراً إليه بصمت لأنني لم أطأ حوافيه وعتباته، فالأيام القليلة التي أمضيتها في لبنان بين قاعة المحاضرات وساعات الحوارات الفكرية والثقافية، والظرف الذي تمرُّ به بيروت بسبب رحيل بيير الجميل حال دون أن أرتوي بماء الجبل ولا بطعم تفاحه ولا بمرأى الأرز فيه· كانت رحلة رائعة تلك التي قطعتها من كاسر أبو ظبي إلى صخرة الروشة في بيروت، لكنها المدن لكم تعد بعيدة·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©