الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة·· وموقف الفلسفة المثاليّة منها

الكتابة·· وموقف الفلسفة المثاليّة منها
4 مارس 2009 23:14
إنّ الكتابة، كما يذهب إلى ذلك النّاقد الفرنسيّ هيجونيت، حاجزٌ بين عهدين اثنين مختلفين؛ فأمّا أحدُهما فهو عهدُ الشّفويّات؛ وأمّا أحدُهما الآخرُ فهو عهد المكتوبات· وكأنّ العهد الأوّل لا يعني إلاّ الأمّيّة والظّلام، على حين أنّ العهد الآخر إنّما يعني التّطوّر والمعرفة الرّاقية والنّور، أي الحضارة بكلّ ما فيها من معاني الرّقيّ والجمال· فهل هناك عهدٌ آخَرُ يكون حاجزاً بينهما، مستغنِياً عنهما معاً، فيما سيُستقبَل من الزّمن؟ اللّهمّ إلاّ أن يكون عهدَ ما بعد الكتابة! لكنْ هل يمكن تصوّرُ عالَمٍ راقٍ خارجَ إطار الكتابة بمفهومها العامّ؟ وتَدين الفلسفةُ الكتابةَ ليس من أجل غايات أخلاقيّة، أو مادّيّة، أو اجتماعيّة؛ ولكن لأنّ الكتابة، فيما تزعم الفلسفة الأفلاطونيّة، مُؤْذيَة؛ وهي مؤذية لأنّها تجسّد ضعفاً مركزيّاً يمثُل في عدم استقرار معانيها· ويبدو أنّ الفلسفة تريد من وراء اتّهام الكتابة الأدبيّة بما تستميز به هذه من تغيّر في المعاني، وتعدّد في الدّلالات التي تحملها: إلى الانزياحات التي تتولّد عن اصطناع اللّغة الشّعريّة خصوصاً في النّسج الأدبيّ· ذلك بأنّ الفلسفة، المثاليّة خصوصاً، ترى أنّ الحقيقة تَتيه في مجاهل الاستعارات والكنايات والمجازات فلا يهتدي إليها أحدٌ من المتلقّين؛ وكان أولى أن يقع البحثُ عن لغة تجسّد الكلمة الوحيدةِ الدّلالةِ؛ فيستريح النّاس من كلّ هذا البلاء العظيم! ولكن أين المتعةُ خارج هذه الانزياحات التي تُحيل على ألْفِ معنىً، وتَمنحك ألف قراءة، بحيث يمكن لكلّ قارئ أن يفهم الكتابةَ الأدبيّة على نحو قد لا يفهمُه عليه غيرُه· ويرى جاك دريدا الذي يعارض آراء الفلاسفة الذين يذهبون هذا المذهب الغريب عن هذه المسألة (وقد كان فريدينان دو سوسير مالأَهم على ذلك فيما ينسب إليه في كتاب ''محاضرات في اللّسانيّات'') أنّهم كثيراً ما يحرصون على أن يكون لهذه الكلمة حضورُ المعنى الممكنِ تأويلُه بيسر ووضوح؛ ذلك بأنّ الكتابة لديهم تظلّ في محلّ الاِتّهام لأنّها لا يمكن أن تؤوَّل، أو قل لأنّهم لا يستطيعون تأويلها على الطّريقة الأدبيّة الاِنزياحيّة؛ ولذلك يُؤْثِرون أن يتعاملوا مع اللّغة الشّفَويّة ظانّين أنّها وحيدة المعنى· ثمّ ما معنى الاعتراف باللّغة الشّفويّة على أنّها قادرة على احتمال الحقيقة، وإنكار لغة الكتابة على أنّها غير قادرة على ذلك بحكم انزياحاتها واستعاراتها ومجازاتها؟ وكيف يكون الأصل صالحاً، والفرع فاسداً؟ ولمَ لا يكون الفرع امتداداً لأصله، وجزءا من نفسه؟ وما بال اتّهام الكتابة بأنّها لا تعدو كونَها مخدِّراً؛ ونفعُها لا ينبغي له أن يجاوز النفعَ الْماثِلَ في هذا المخدّر المحدود الذي قد ينفع في لحظة معيّنة، ولكنْ لا يلبث أن ينقلب من بعد ذلك إلى أضرار وأخطار· إنّه لا ينبغي أن يحلّ محلّ الكتابة التي إن كانت عاجزة عن احتمال الحقيقة المزعومة، فإنّ اللّغة الشّفويّة والمتصرَّفات منها، والمتفرِّعات عنها: لهي أعجزُ عجْزاً، وأقصر قُصوراً· ذلك بأنّ اللّغة الشّفويّة بكلّ مظاهرها ليست، في مبتَدَأ الأمرِ ومنتهاه، إلاّ أصلاً لهذه الكتابة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©