الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هاجر من أزقة قريته إلى العالمية ليؤسس وجوده على نحو معرفي وحياتي

4 مارس 2009 23:16
اللقاء الأول مع الطيب صالح كان في رابطة الكتاب الأردنيين في عمان، حين كان يقدم محاضرة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان· كان عميقا في طرحه ودمثا في حضوره، لكن آراءه استفزت البعض، خصوصا بإعلانه أن ليس له علاقة بالسياسة، ولا ينتمي إلى أي حزب، وأنه إذا حضرت السياسة في ''أدبه'' فهي لا تأتي في ''القالب'' الذي يتعاطاه السياسيون، وإنما في سياق ما يكتب من أدب، وكسوداني له بالطبع وجهة نظر يعبر عنها· الرواية الأكثر شهرة للطيب صالح ''موسم الهجرة إلى الشمال''، والتي قرأناها على مقاعد الدراسة الجامعية في أواخر السبعينات، كانت كفيلة وحدها بتقديمه ككاتب ذي هوية عالمية وإنسانية، كاتب بدأ من بيئته الشعبية في إحدى القرى السودانية، وانطلق نحو آفاق عالمية ليؤسس هويته على نحو ثقافي ومعرفي وحياتي خاص، وعلى أهمية أعماله الروائية والقصصية الأخرى، خصوصا ''دومة ود حامد'' و''عرس الزين'' التي يرى بعض النقاد أنها تفوق في الأهمية روايته الأشهر، إلا أن روايته الأشهر هذه كانت كافية لتضعه إلى جوار أصحاب ''الحرب والسلام'' و''مدام بوفاري'' و''أولاد حارتنا'' على سبيل المثال· أي سر وقف وراء نجاح هذه الرواية بشكل غير اعتيادي في فضاء الرواية العربية؟ وكيف فعلت فعلها في المجتمع العربي عموما، وفي أوساط النخبة من المثقفين العرب خصوصا؟ لن أعود إلى تفاصيل الرواية التي تداولتها الكثير من الكتابات النقدية العربية وغير العربية، فما يشغلني هو سؤال الرواية الأساس حول طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، وبأي عقلية وبأية روح يعيش الشرقي في الغرب، وأي مفهوم لصراع الحضارات تطرح، وهل ما أكسبها شهرتها حين صدرت في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين هو كونها ظهرت عندما كان الصراع حاداً بين الشرق والغرب، ونظراً لما اشتملت عليه من عناصر اثارة وتشويق، كما يرى البعض؟ ولكن الصراع اليوم أشد حدة، فلماذا لا تكون لدينا نسخة ثانية من ''موسم الهجرة إلى الشمال''؟ المسألة تتعلق بوعي كاتب وتركيبة هذا الوعي، والتجربة الثقافية المركبة، فمن جانب ثمة صورة الحياة اليومية الدقيقة لمجتمع حافل بالتفاصيل، حيث ننتقل من زقاق القرية في وسط السودان إلى عالم حديث في أقصى الشمال الأوروبي، الذي يضج بتفاصيل العلاقة المتناقضة بين منظومتين من الفكر والثقافة، ومن الإرث الثقيل للعلاقات المستعرة بين الضفتين التي تقوم على التفوق والاستعلاء والهيمنة الحضارية· ويبدو أن الطيب صالح قد أدرك مبكرا، ومن خلال عمله في منظمة اليونسكو الأكثر التصاقاً بماهية الثقافة الغربية، أن المجتمع الأوروبي بحسب رأيه، كان مجتمعاً حائراً، بل إنه يتمنى ما هو موجود لدينا نحن العرب، لا بل انه يبحث عن الشيء الذي نهرب منه نحن· اختلطت في هذه الرواية، وفي عالم الطيب صالح الروائي عموما، أسئلة الهوية والوجود والتقدم وأسئلة المحرمات، ومن بينها الجنس الذي جسد أحد أسئلة ''الهجرة''، ولم يتضح تماما إن كان سؤال الكبت الجنسي الذي كان يعاني منه مصطفى سعيد واحدا من أسباب الهجرة إلى الشمال· لكننا هنا أمام شخصية روائية لا تسمح بالتحقق من قصد الروائي الذي يقول في واحد من الحوارات معه ''جئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه، لأعمل عملا هو كذلك ليست لي رغبة فيه· تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة، برودتها لا تطاق، في بلد غريب بين غرباء''· من أين إذن جاء الطيب صالح بشخصية مصطفى سعيد المثقف الأفريقي الساعي إلى الانتقام من الاستعمار الإنجليزي لبلاده عبر ممارسة الجنس مع نساء بريطانيا الشقراوات؟ وهل كان يريد تصوير ما يراه بعض العنصريين البريطانيين من أن الطلاب العرب يأتون إلى الجامعات البريطانية ليس من أجل الدراسة والتحصيل العلمي، وانما من أجل الجنس للانتقام من المستعمر البريطاني الذي احتل بلادهم· أم كان يسخر من رؤية أمثال البروفسور هوبوود صاحب كتاب تحت عنوان ''Sexual Encounters in the Middle East''، فسر فيه التاريخ الشرق اوسطي من زاوية العلاقات الجنسية للشخصيات السياسية الرئيسية التي لعبت دوراً في أحداث المنطقة على مر العصور· هل كانت الجرأة التي تناول بها الطيب صالح هذا الموضوع وراء الإقبال الكبير على روايته، عربيا وغربيا؟ أم كان السؤال نفسه هو المثير للجدل، وهل كان مصطفى سعيد يعبر عن الطيب صالح وحده أم عن شريحة من المثقفين العرب في لندن الخمسينات والستينات؟ في هذا الإطار، وفي رده على ما يمثله مصطفى سعيد يقول الطيب ''الذي يطرح أفكاره على الناس علناً، عليه أن يتحمل تبعات ذلك، لذلك لا يزعجني أحيانا حين يسألني بعض الناس، هل مصطفى سعيد يشكل جزءا من سيرتي الذاتية''· ويضيف ''يبدو لي أحيانا أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب''· ورغم هذا التواضع الجم الذي يميز هذا الكاتب، كما يظهر ذلك في قوله ''لا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعا، لكنه الحقيقة، فإذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم، فهذا شأنهم، لكنني قطرة في بحر، وقصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته''، وهو أمر أكده الشاعر محمود درويش أيضا في أحد الحوارات معه· فرغم هذا التواضع، وربما بسبب هذا التواضع الذي عرف عنه، فعلينا أن نؤكد على فهمه الخاص لدور الكتابة والإبداع، فهو يرى في الكتابة رافعة حقيقية لتحقيق مضمون معنوي من الثراء الفكري والفني المبني على أصالة التجربة الإنسانية بما تتمتع به من استقراء واستجلاء عميق لدقائق الحياة ورحابة الخيال والاستبصار· إنه كاتب يدرك ماهية الكتابة بوصفها أحد الفنون الأكثر تأثيراً في تطور الإنسان كما ظل يقول ويجسد في كتاباته· وكان همه الأساس الوصول إلى ملامح هويته التي تتداخل فيها عناصر عدة، فهو السوداني العربي والأفريقي ذو الأبعاد الإنسانية· وحسب المستعرب روجر آلن فقد ''نجح الطيب صالح في أن يخلق بأعماله عوالم حملت للقراء رؤية بالغة الخصوصية لتأثيرات عملية التغيير الدائمة المفيدة في ثقافات إفريقية''· لقد عكس في أعماله ما عاشه داخل حدود الإقليم الشمالي في السودان، حيث نشأ، بالتركيز على التفاصيل الصغيرة في حياة القرية السودانية مع ما تمتلكه تلك المنطقة من خصوصية التقاء الثقافات ما بين عربي وإفريقي ونوبي، وهو ما ساهم في تكوين شخصية ثرية ذات طابع خاص، كما شكل وعيه بالغربة محركا لصراع الهوية الذي عايشه بنفسه إثر انتقاله للعيش في أوروبا، ولهذا تطرح رواياته أسئلة مستمرة حول الوجود والعزلة·· والوعي بالجذور المختلطة· وذلك من خلال غوصه في عمق الشخصية العربية التي سعى ليحررها بكتابته من حدود المكان الضيق ويذهب بها إلى الفضاء الإنساني الفسيح· وهو إلى ذلك كله كاتب يتمتع بنظرة عقلانية هادئة في النظر إلى الأمور، نظرة مبنية على التواضع بقدر انبنائها على الثقة بالنفس· والنفس هنا تتجاوز ذات الكاتب الفردية إلى الذات الجمعية، وتحديدا في مجال الإبداع الروائي العربي، حيث يعتبر ''أن ما أنجزته الرواية العربية في عمرها النسبي القصير، اذا قورن بالرواية في الغرب مثل أوروبا، نجد أنه إنجاز ليس سهلاً بالقياس لظروفه وزمنه''· وإلا كيف نفسر اختيار روايته الأشهر في العام 2002 كواحدة من أفضل مئة رواية في تاريخ الرواية العالمية· وهو الذي قال عنه رجاء النقاش بعد اكتشافه ''تيقنت أنني بلا أدنى مبالغة أمام عبقرية جديدة في ميدان الرواية العربية، تولد كما يولد الفجر المشرق، وكما تولد الشمس الإفريقية الصريحة الناصعة''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©