الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوم من رحم الذاكرة

2 سبتمبر 2012
أستسمح القارئ العزيز عذراً أن أتطرق لتجربة ذاتية حفرت في جنبات الذاكرة، وقد يكون مناسباً ومفيداً أن أجتر تفاصيلها الدقيقة بعد خمسة عقود ونصف العقد من الزمن بالتمام والكمال، في اليوم نفسه الذي يتأهب فيه كثير من الأبناء الصغار للذهاب إلى المدرسة للمرة الأولى في حياتهم. في تلك الآونة، لم يكن هناك حضانة أطفال في القرية التي نشأت وتربيت فيها، وعكف الوالد ـ رحمة الله عليه ـ منذ وقت مبكر جداً على تعليمي القراءة والكتابة عن طريق رسم حروف الهجاء بإصبعي “السبابة” في الهواء، وتشجيعي على إتقان رسم وشكل الحروف كما كانت في الكتاب الشهير للتعليم المبكر المسمى “وَزَن.. وأَخَذَ”، ومع انتهاء العام الثالث تقريباً، شرع في تعليمي تكوين كلمات كاملة بالطريقة نفسها، وما إن اشتدت صلابة أصابعي قليلاً، حتى تدربت على الإمساك بالقلم، وكتابة الحروف والكلمات على الورق، ونقل جمل من كتاب أو قصاصة صحف، وكل ما تقع عليه عيناي، ومن ثم تعلم الكتابة بالإملاء دون النقل، وتصحيح الأخطاء، وتشكيل الهجاء الصحيح حسب النطق السليم للكلمة، ولم يكن عمري وقتها قد تجاوز الخامسة. حلمت كثيراً بالمدرسة، ولا يمكن تصور فرحتي في صباح اليوم الأول، وأنا سعيد بحقيبتي الفارغة، ولم أكن أعلم لماذا لم أتسلم كتبي المدرسية مثل كل الأطفال، أخذت مقعدي في مقدمة الصف، وقضت المعلمة الوقت في التعرف إلى الصغار، وتهيئتهم للنظام المدرسي، حتى قبيل جرس الفسحة المدرسية، وطلبت مني أن أترك مكاني وأخرج وأعود إلى البيت سريعاً، ولم أفهم السبب سوى أن “المفتش” وصل إلى المدرسة. وعدت إلى البيت وأنا أبكي بحرقة شديدة ممزوجة بالإحساس بالإهانة بعد أن أُغتيلت فرحتي في هذا اليوم، ولا أفهم السبب. مع انفطار الأحاسيس وسيل الدموع، حكيت لوالدي ما جرى، وحاول أن يهدئ من روعي ويلملم وجعي بأن يقنعني أنني لا أزال في سن الخامسة، ولم أكمل السن القانونية بعد، وأنه تم الاتفاق مع إدارة المدرسة أن أنتظم هذا العام في الدراسة بشكل ودي، لذلك أقدمت الإدارة على طردي في أول يوم خشية المساءلة من مفتش الإدارة التعليمية، ورغم ذلك اصطحبني شقيقي الأكبر لإعادتي إلى المدرسة. استمع أخي من “ناظر” مدير المدرسة إلى أسباب النكوص بالوعد، ومع المناقشة، طلب “المفتش” أن يحرر أخي طلباً لقبولي بصفة ودية فقط، فطلب منه أن يملي عليّ صيغة الطلب لكتابته بنفسي، فاندهش “المفتش”، فكيف للطفل الهزيل أن يكتب طلباً رسمياً، فانبرى مدير المدرسة يملي عليّ صيغة الطلب لأن ذلك سيخلصه من الحرج الذي وضع نفسه فيه، وفي النهاية طلب أن أذيله بكتابة اسمي. ما إن قرأ “المفتش” ما كتبت، وكيف التزمت بالتشكيلات النحوية بكل دقة، هب مندهشاً يراجع ما كتبت، ومتمتماً بكلمات الدهشة والإعجاب، وسحب قلمه الأحمر، وكأنه يسحب سيفاً قاطعاً من نصله، وكتب: “يُقبل الطالب بشكل نظامي ويقيد بالصف الأول الابتدائي على مسؤوليتي الكاملة”، ووقَع:”رمسيس بهنام”.. هكذا كان اسمه! واقعة أسوقها مختصراً تفاصيلها، لعلها تذكرنا بأهمية إعداد وتهيئة الصغار منذ وقت مبكر لاستقبال مثل هذا اليوم. المحرر | khourshied.harfoush@admedia.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©