الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصوت والصدى.. وما بينهما

الصوت والصدى.. وما بينهما
14 سبتمبر 2011 22:05
تعد دراسة الأثر الصوتي في اللغة وأنساقها التعبيرية وشيجة استدلال إلى ماهية الصلة بين اللفظ والمعنى لإيجاد بعض التفسير للاندهاش، بفعل اللغة الإنسانية الذي شكل مثيرًا إدراكيًا عميقًا لوعي الحياة الإنسانية منذ نشأتها ولفهم معطياتها المعنوية على مستوى الفرد والمجتمع. وإذا كانت الافتراضات العلمية لنشأة اللغة، والآراء التي قيلت حول طبيعة وجودها، لم تصل في بحثها وتنقيرها إلى قرار علمي للأخذ بواحد من تلك الآراء؛ فإن الموضوعية العلمية قد اقتضت ـ ومنذ وقت مبكر ـ التوجه إلى البحث في الجانب المحسوس من اللغة؛ وهو الصوت، الذي هو وسيط الدلالة في عملية الخطاب والإبلاغ، والقناة الحاملة للمعنى إلى المتلقي بإقرار رولان بارت “إن الدال وسيط مادي للمدلول”. د. ماهر مهدي هلال dr-mahrem@hotmail.com يحدد هذا القِران الدلالي مجال الأسلوبية في التحرك باتجاه النص الإبداعي وخواصه التعبيرية: الصوت، أو التركيب أو الدلالة (بحيث تكون دراسة الأسلوب من خلالها قائمة على كونها فنًا لغويًا وأدبيًا في آن واحد) ويتمثل ذلك في رصد الخواص الجمالية في التعبير والكشف عنها في التركيب اللغوي من حيث الربط بين الرمز والمدلول في صور الكلام، ومن ثم ما يتبع التركيب من تنافر الحروف وحسن النظم والتأليف والتعقيد اللفظي والمعنوي وزيادة المعنى لزيادة المبنى. وعلى هذا فقد أولى التوجه الأسلوبي لتحديث الدرس اللغوي الجانب الموسيقي أهمية خاصة، وكان مدار بحث “الشكلانيين” منذ البداية يتجه إلى فنية الشكل الأدبي، وكان اعتمادهم على دراسة التردد الصوتي أولاً بوصفه المستوى التعبيري الأول ومن ثم وحدات الدلالة التي تشير إليها الكلمات في بنية الجملة وتركيبها (والدليل شريحة إصاتية أو بصرية.. ويمكن تصور الدلالة كصيرورة فالفعل هو الذي يوحد الدال بالمدلول). ولأن اللسان إرثٌ دائمًا كما يقول “سوسير” كان اعتماد الألسنية ومن ثم الأسلوبية المستوى الصوتي في وصف اللغة ومظهرها الحسي من خلال الكلام، ولأن أرث العربية في الدراسات الصوتية غزير، أصوله بعيدة الغور، أقرها الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه الرائد “العين” وإن هذا ليشكل حافزاً موضوعيًا للبحث في خصوصية تلك الدراسات على مستوى صوتية المفردات اللغوية وأنساقها التركيبية. “والصوت هو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف. ولن تكون حركات اللسان لفظًا ولا كلامًا موزونًا ولا منثورًا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلامًا إلا بالتقطيع والتأليف”. وعلى هذا كان حد اللغة بأنها: “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”. أي أن الصوت كون معلوم لأغراض كامنة في ذات الإنسان وأن تلك الأغراض معان “موجودة في معنى معدومة”. وأن التعبير عنها يحدد وظيفة اللغة “باستكشاف عالم المعاني وإحيائه”. ولذلك فإن “معنى اللفظ الذي هو جنس للشعر موجود فيه، وهو حروف خارجة بالصوت متواطأ عليها”. عن الصلة وأصلها وقد شغلت طبيعة الصلة بين الصوت الملفوظ ومعناه أذهان اللغويين كما أنشغل بها البلاغيون والنقاد. أهي طبيعية؟ فتكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية بمعنى أن كل صوت يرمز إلى معنى، فتكتسب الألفاظ دلالتها من خلال جرس أصواتها. وينشأ ما يسمى بالمناسبة الطبيعية بين الأصوات والدلالات. ويقترن هذا التساؤل بالفرضية الصوتية لنشأة اللغة والتي أقرت بوجود علاقة طبيعية بين اللفظ والمعنى، على أساس من محاكاة الأصوات الموجودة في الطبيعة وأن عملية التحول بالصوت كماهية ملفوظة إلى دال مدرك هي عملية قَصْدية يعمل الإنسان على شَحْنِها بالتوتر الذاتي المتمثل بالتعبير حسب مقتضيات المقام، ويرتكز فعل الصوت في هذا على تغاير الجرس بين الأصوات الذي يشكل مثيرًا إدراكيًا لدى الإنسان، ومنذ القدم كانت الألفاظ تحمل سَمْتها الجمالي في جرسيتها يقول أرسطو: “فأما حسن الاسم فإنه ما يكون في الجرس.. وكذلك القول في قيمه”. والجرس في اللغة هو الصوت نفسه ولكن بتنغيم يخرجه عن الصوت المحض، أي أن الجرس هو نغمة الصوت الإنساني، وعلى هذا فالجرس هو الكلام، تقول: جرستُ وتجرّست: أي تكلمت بشيْ وتنغمت به؛ فالجرس هو تنغيم قصدي في أجهزة النطق، لإضفاء قيمة تعبيرية للكلام تتحول إلى قيمة تتحكم في دلالة الصوت ومؤداه المعنوي، ولهذا قيل “إن الجرس يجب أن يكون صدى للمعنى”، ووصفت الكلمة بأنها “جرس صوتي مقطع بنظام”. فمصطلح الجرس أدل في مؤداه الوصفي للألفاظ على بلاغة الكلمة وسِمتها التعبيرية بوصفه أثرًا لتناسب المعنى مع الصوت في تخصيص الدلالة، ويستفيد من عمومية مفهوم الصوت في استثمار نتائجه اللغوية.. والجرس أدل على القصد “فصوته نفسه يشعر بمعناه، وهو بعد لفظ واسع المدلول ينضوي تحته كل ما يتعلق بدندنة الألفاظ في البيان الشعري”. ولأن الجرس هو الصورة السمعية الواقعة على أذن العقل الباطنية كما يقول (أ. أ. رتشاردز) وهو فعل الصوت الآني، فقد انتبه القدماء إلى هذا الفعل وكأنه مولّد دال على ذات الشيء في زمانه ومكانه. “وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الضبي، ونحو ذلك”. ومن الكلمات الموحية صوتيا مثل حفيف، صفير، نقيق، رفيف، هديل، رنين، وسواها من الصيغ التي يستغل الشعراء دلالتها الذاتية كدلالة الهاء على الهواء وهبوب الرياح في قول المتنبي: وهبت بجسمي هبوب الدبو ر مستقبلات مهب الصبا وتأمل توالي القاف والضاد والراء لتصوير اصطكاك أسنان الذئب في قول الشاعر البحتري: يقضقض عصلا في أسنتها الردى كقضقضة المقرور أرعده البرد وبمعزل عن دافع المحاكاة الخارجي فإن دافع الإنسان الذاتي يجعل من صوتية التعبير وكأنها صدى للمعنى الذي يعانيه ويعتمل في ذاته، (فاللفظة قبل كل شيء صوت ينطق به الإنسان، وكان من الطبيعي أن يقلد النطق البشري صوتاً حقيقيًا ليفصح عنه لهذا يحافظ الأدب وهو فن لفظي على روابط متينة تربطه بالموسيقى)، وعلى هذه الروابط المتداخلة والمساجلة الإيحائية بين الجرس ومؤداه تُبنى فكرة القدرة الإيحائية للعبارة، فيكون الجرس فيها دالاً ومدلولاً، ويمكن وصفه بالمكون الدلالي في مختلف أساليب التعبير التي اصطلح عليها بـ”التوازي الصوتي” في كلمتين يبدأ بهما البيت يهيمن جرس الراء فيهما ليولد ارتياع الإنسان من الشيب كقول المتنبي: راعتك رائعة البياض بمفرقي ولو أنها الأولى لراع الأسحم ومثله قول الشابي في قصيدته “بقايا خريف”: يروعها فيه قصف الرعود ويحزنها فيه ندب الزفيف ولعل من أروع الصيغ الشعرية التي تستنطق دلالة الجرس الذاتية تلك التي أشاعها بدر شاكر السياب في بكائياته وشجنياته وليس أدل على ذلك قصيدته “أنشودة المطر” التي أصبحت “كمعطف كوكول” للمحدثين من الشعراء والتي استثمر فيها جرس الراء بكل إيحاءاته المولدة للدلالة ومنها: “كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم وقطرة فقطرة تذوب في المطر وكركر الأطفال في عرائش الكروم ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودة المطر مطر.. مطر.. مطر”. وفي قصيدته “النهر والميلاد” يقول: “بويب... بويب أجراس برج ضاع في قرارة البحر الماء في الجرار، والغروب في الشجر وتنضج الجرار أجراسا من المطر”. ففي ثلاثة أشطر تسمع تردد ثلاثة عشر صوتاً للراء يوحي بإيقاع “كزخات المطر”. الجرس دالا ومدلولا لعل من المفيد هنا أن أختار تقريرًا حكَّمه عبد السلام المسّدي في مقولة للجاحظ، وهو يبحث في مقاييسه الأسلوبية، مفاده “لا يكون الكلام يستحق اسْم البلاغةِ حتى يسابقَ معناه لفظه، ولفظهُ معناه، ولا يكون لفظُه إلى سمعك أسبق من معناها إلى قلبك”. وقد استخلص، من وصف الجاحظ للكلام هذا أول مقياس بُنيت عليه النظرية في تحديد الأسلوب وهو مبدأ “الاختيار”، وذلك بأن جعل “التطابق الآلي بين البنية الخارجية للفظ، وهي البنية الألسنية الصوتية، وبنيته الداخلية ـ أي الألسنية الدلالية ـ بحيث يكون اقتران الدال بمدلوله اقترانًا آليًا لا يفضي إلى أي انزياح زمني أو قطيعة دلالية، ويطلق الأسلوبيون اليوم على هذه الظاهرة الانتظام النوعي في الدلالات”. وعليه يستنتج المسدّي اعتماد الجاحظ على الطاقة الإيحائية في الظاهرة اللغوية أكثر من اعتماده على طاقتها التصريحية “المعجمية”، باعتبار ذلك من مميزات لغة الخلق الفني، وبالتالي لغة الأسلوب الأدبي.. إنَّ قوام دلالة الإيحاء هنا هو تداخل شيئية الصوت بمعناه حيث يصبح الأثر الصوتي محفزاً لتصور المعنى: “فهناك نوع من التحفيز يتجه من المدلول إلى الدال مثل حالة ألفاظ المصاقبة”. وبالاشتقاق والنحت اتسعت اللغة “لأن العرب تشتق من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون ألفاظا توحي بمعانيها” من ذلك قول سوار بن المضرب: تغنى الطائران ببين ليلى على غصنين من غرب وبان فكان البان أن بانت سليمى وفي الغرب اغتراب غير دان فاشتق كما ترى الاغتراب من الغرب، والبينونة من البان، وبذلك أوحى المعنى إلى ذهن المتلقي ووسع من أفق انتظاره وعلى هذا قيل إن اللغة العربية اتسعت بالمجاز والاشتقاق.”ونظرية الأصوات هذه مما تعده الدراسات الحديثة بأنه أدنى نظريات البحث في اللغة إلى الصحة وأكثرها اتفاقًا مع طبيعة الأمور، وأن أحدًا من اللغويين لم يستطيع إنكارها حتى أولئك الذين غالوا في معارضة فكرة الاتصال العقلي بين الأصوات والمدلولات”. إن القول بالعلاقة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله يشكل محوراً أوليًا. وأصلاً من أصول دراسة الدلالة، وهو مذهب قديم أطراه أفلاطون (انطلاقاً من اعتقاده أن اللغة ظاهرة طبيعية) وتأسس على قوله هذا فكرة المناسبة الطبيعية بين الألفاظ ومعانيها أو بين الأصوات ودلالتها. ومما هو متواتر في سياق الدراسات الدلالية ما قرره عباد بن سليمان الصيمري، فقد كان يرى “أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع قال: وإلا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحًا من غير مرجح”. وعلق السيوطي على مذهب الصيمري هذا بالقول: “وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني”، لأن الناس تتعارف على تواتر أصوات لا بغيره، فإشارة الصوت تتحول إلى سمة مميزة لها قوة الطبيعية في الدلالة على المعنى “وضم الصوت للتمثل نتاج لترويض جماعي.. وليس هذا الضم والجمع ـ وهو الدلالة ـ باعتباطي بتاتاً بل على العكس من ذلك ضروري”. وأسهم الفلاسفة بحديث الصوت والدلالة أيضًا، فتحدث الفارابي عن ذلك في كتاب الحروف، كما ذهب ابن سينا إلى مقابلة الحروف بما يماثلها من الأصوات الطبيعية في كتابه “أسباب حدوث الحروف”، ومثال ذلك قوله: “والكاف تسمعها عن قرع جسم صلب بجسم صلب وعن انشقاق الأجسام اليابسة، والراء عن ارتعاد ثوب معرض لريح قوية.. واللام عن لطم الماء باليد.. والفاء عن حفيف الأشجار وما أشبهها..” الخ.. مرجعية الجرس الدلالية يتأسس على هذا الذي قرره الباحثون بوجود علاقة طبيعية بين الصوت والمعنى، القول: بأن مرجعية الدلالة في الألفاظ المتصاقبة تتكون من التداخل بين شيئية الصوت ومؤداه، وهذا المؤدى يشكل بنسقه الصوتي رمزاً للمعنى، له قوّة العرفية في مرجعيته الدلالية، (فالخرير) مثلاً لا يمكن أن يكون فاعل الحدث فيه إلا الماء، فهو حكاية صوته، ومثله الزئير، والصهيل وكل الأصوات الحاكية لمعانيها. أي أن هذه الأنساق الصوتية تحقق للغة وظيفتها لأنها تحفز الذهن وتولد حالة من التوقع والاستدعاء لإسناد الأصوات إلى طبيعة أحداثها، أي إسناد الألفاظ إلى بعضها، وبناء التراكيب التعبيرية. قيل للمنتجع بن نبهان: “ما النضناض؟ فأخرج طرف لسانه وحركه. وقيل له ما الدّلنظى؟ فزحر وتقاعس وفرج ما بين منكبيه”. وفي لسان العرب، ونضنضته: إذا حركته وأقلقته، ومنه قيل “الحية نضناض.. وادلنظى: الجمل أسرع”. ومثله قول عبد الله بن قيس: يَلْحيَنني وألومُهُـنَّ بكرت علي عواذلي كَ وقد كبرت فقلت إنّهْ ويقلـن شيب قـد علا أي تأوه وتوجع، ولأن الجرس حكاية صوت اللفظ، فهو موحٍ بمعناه دال عليه. وفي هذا يقول ابن جني: “فأن كثيرًا من هذه اللغة وجدته مضاهيًا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا: قضم في اليابس وخضم في الرطب، وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للفعل الأضعف”. وقد تبنى “ابن جني” البحث والتنقير في إيحاء الجرس اللفظي فقرر بعد تأمل واستقراء القول: فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ونهج متلئب عند عارفيه مأموم، وذلك بأنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها فيعدلونها بها، ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره وأضعاف ما نستشعره. ومن ذلك قولهم: النضح للماء، والنضخ أقوى من النضح قال الله تعالى: “فيهما عينان نضاختان” (الرحمن 66) فجعلوا الحاء ـ لرقتها ـ للماء الضعيف، والخاء ـ لغلظها ـ لما هو أقوى منه. ومن ذلك القدُ طولاً والقط عرضًا، وذلك أن الطاء احصر للصوت وأسرع قطعًا له من الدال فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العَرْضِ ـ لقربه وسرعته والدال المماطلة لما طال من الأثر، وهو قطعه طولاً. ووجد من خلال تمعنه واستقرائه صلة بين جرس الحروف والأحداث المعبر عنها، قال: “وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها: ترتيبها، وتقديم ما يضاهي أول الحدث، وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسيط ما يضاهي أوسطه؛ سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب، وذلك قولهم: بحث، فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض، والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والبث للتراب، وهذا أمر تراه محسوسًا محصلاً... لكن من وراء هذا ضرب غيره، وهو أن تتقارب الحروف لتقارب المعاني، وهذا باب واسع”. من ذلك قوله سبحانه: “ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تَؤزّهُم أزّا” (مريم 83) أي تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزا. والهمزة آخت الهاء، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين وكأنهم خصُّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز لأنك قد تهز ما لا بال له، كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك ومنه العسف والأسف. والعين آخت الهمزة كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين، كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف، فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين. فالصيغ الاشتقاقية يتدافع المعنى فيها على أصل واحد، بفعل الترابط الصوتي أو جرسية اللفظ الذي يدل على المعنى ويوحي به. يقول “أولمان”: “وقد تؤدي شدة التأثر بالباعث الصوتي على توليد الكلمات أو الأصوات إلى ما يكاد يكون اعتقادًا غامضًا في وجود مطابقة خفية بين الصوت والمعنى”. وبعد: فالجرس أدل من الصوت في وصف المفردة اللغوية. “إن جوهر الشعر هو الصوت.. وإنما ينبني على الكلمة في حد ذاتها”، وذاتية الصوت جرسه، وهو القوة المؤثرة التي تتحكم في دلالة الألفاظ مهما تغيرت صيغها الصرفية، فهو قوام المناسبة الطبيعية في الألفاظ بوصفه علامة مميزة للكلام توحد بين الدال والمدلول، والعلامة حسب (سوسير) هي جماع الدال والمدلول، وحسب تعديل “كلود لفي شتراوس”: “الدال والمدلول يثير أحدهما الآخر”. ودراسة الجرس في أنساق الكلام يشكل منطلقًا لدراسة ما تصطلح عليه الأسلوبية (الهندسة الصوتية) على أساس: “إن الشاعر هو مهندس أصوات وهذا يعني أن بعض أبيات الشعر منتظم انتظامًا صوتيًا يرتكز على تكرير الفونيمات المتماثلة والمتشابهة ولكي نتمكن من دراسة البنية الصوتية الشعرية يتوجب علينا أن نحدد شكل هذه التنسيقات التي أقرتها الدراسات؛ كالتنغيم والترديد والمقابلة التي تبنى على تبادل الأنساق كقول المتنبي: نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال وقول الآخر: ومن لو أراه صاديا لسقيته ومن لو رآني صاديا لسقاني ومن لو أراه عانيا لفديته ومن لو رآني عانيا لفداني ومن صيغ البديع المعروفة: التكرار والجناس، ولاسيما الجناس الاشتقاقي، كقول أبي حيّة النميري: رمتني وستر الله بيني وبينها عشية آرام الكناس رميم رميم التي قالت لجارات بيتها ضمنت لكم ألا يزال يهيم ألا رب يوم لو رمتني رميتها ولكن عهدي بالنضال قديم وليس خافيا التناوب الصوتي بين: رمتني/ رميم... بيني/ بينها... رمتني/ رميتها. ويرى الجاحظ أن هذه الأبيات تمثل التلاؤم بين الصوت والتركيب والدلالة، ويرى محمد العمري “إن الأبيات الثلاثة نتاج إيقاعي للكلمة المولدة للدلالة والإيقاع فيه وهي “رميم” وإلى جانب النسق الذي تكونه الوحدات المشتركة هناك وحدات متميزة أبرزها اللام” التي شكلت تناغما بالتواصل، وفي مثل هذا نجد المتواليات الصوتية في جرس الألفاظ في تصريع مطالع القصائد وفي الترصيع أي التسجيع في حشو البيت كقول أبي فراس: تبسم إذ تبسم عن أقاح وأسفر حين أسفر عن صباح وأتحفني براح من رضاب وراح من جنى خد وراح فقد صرّع ورصّع وكرر في المطلع وعدَل إلى التكرار في البيت الثاني فحقق بذلك تناغما مركبا مكوِنا للدلالة وموحيا بتخييل الصورة، وعليه فالقيم الصوتية المحاكية تبدو “عالية جدًا على صعيد الأسلوب، وبخاصة الأسلوب الشعري الذي يسعى إلى تقديم كل التداعيات الاستطرادية الكامنة بين الشكل الصوتي والمعنى” لأن قيمة الجرس التعبيرية لا تحدد في إثارة حاسة السمع، وإنما في إثارة الجوانب الروحية الكامنة في ذات الإنسان أيضًا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©