الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن الأخيرين الذين لم يعودوا

عن الأخيرين الذين لم يعودوا
14 سبتمبر 2011 22:11
لا يسجل الشاعر عبده وازن ( بيروت 1957) تفاصيل الحرب كمنازلة بين منتصر ومنهزم. إنه يجسد ما يقوله بريخت في إحدى قصائده عن حرب قادمة ستكون كسابقاتها يعود فيها الجميع منكسرين: المنتصرون والمنهزمون وبينهم جياع بالتساوي، فعبده وازن لا يتحدث عن أفعال ووقائع من تقليديات الحرب وويلاتها. يكتب (قصائد حرب) بعد ان انتهى كل شيء. وعاد الجميع: الجرحى بجراحهم، والأسرى بحريتهم، والموتى بقبورهم. الوحيدون الذين لم يعودوا هم المخطوفون. د. حاتم الصكَر “ليسوا أحياء لكنهم لم يموتوا”.. تلك هي الخلاصة التي تشتغل عليها قصائد حرب عبده وازن. تنزاح عن هوس النصر، وتتجنب ندب الهزيمة؛ لتبحث في مصائر معلقة لبشر لن يعودوا لحياتهم، ولن يراهم ذووهم، رغم أن الحرب توقفت، ولملم الجميع شظاياها وبقاياها. خيال يتاخم الواقع من هنا تبدو خصوصية ما يكتبه الشاعر عن حرب طحنت بلده سنوات وكبدته خسارات لن يعوضها صلح أو تصالح. يحفر الشاعر عميقا في طبقات الحرب، ويذهب إلى أكثر مفرداتها دراماتيكة، ويعاين الهوامش على متنها السميك القاسي مستفيدا من السرد الذي ينتهجه في قصائده النثرية، وكذلك في نثره في ما كتب مثل “حديقة الحواس” و”قلب مفتوح”، لكنه في قصائد الحرب هذه يتخذ من السرد استعانة لا مركزا؛ لذا نجد الصور والمجازات واللغة اللابثة عند المحتمل والمتوقع، تقطع انسيابية السرد وتتابع أحداثه وأفعاله؛ لتعيد الإحساس بالقصيدة كبنية لغوية وصورية شعرية في المقام الاول.. تقدم مشاهد كالخيال يتاخم الواقع ويغاير صورته. كتب عبده وازن كثيرا من اليوميات عن الحرب المتكررة في لبنان، تشي برعبه من قسوتها وفداحة ما ينتظر البشر من تداعياتها، ومنها يوميات الحرب ـ صيف 2006 وفيها أيضا تبرز التقاطات الشاعر المنتخبة من مصهر الحرب وأتونها اللاهب.. كما كان يلتقط من وقائع الحرب السبعينية. لقد استوقفته في إحدى اليوميات الطفولة المحترقة في القصف، بينما وصلت به مشاعر الرعب من تداعياتها حد القول: “الشهداء مباركون حتمًا والمقاتلون الذين يذودون عن أرضهم مباركون أيضًا. لكن هذا الوطن الصغير لم يعد يحتاج إلى المزيد من الدم والدموع والألم. لم يعد يحتاج هذا الوطن إلى المزيد من الخراب والدمار... ألم تكفه تلك السنوات المأسوية التي عاشها أو ماتها بالأحرى؟”. إننا نكره الحرب، نكره الموت، نكره الخراب. “إننا نستحق الحياة التي نتشبث بها، بأيدينا وأظفارنا”. كما يتحدث في شهادة منشورة له عما يسميه صدمة الحرب التي عانى منها شعراء جيله، رغم أنهم عاشوا تلك الحرب الأهلية في السبعينيات صغارا ومهمشين. وقد تشظت الحرب وٍبرزت في الأعمال الشعرية والسردية والسينما والمسرح والتشكيل، ولعبده وازن كتاب نقدي حول الحرب في الرواية اللبنانية، ما يؤشر إلى مركزيتها في فكره ورؤيته كتحدٍّ للحياة ذاتها، وليس التعامل معها كحدث خارج سياق الحياة فحسب. لنعرف فداحة ما حصل في لبنان أثناء الحرب التي يتعقبها عبده وازن ويشتق منها تلك الموتيفات المؤثرة نستشهد بما قال الفنان السوري فاتح المدرس واصفا وحشيتها بالقول: “إن في قلب كل ملاك قاتلا”، وعلق العبارة في مرسمه وإلى جانبها لوحته “بيروت: ليل الحرب الأهلية”. كانت المرأة تحتل الجانب الأيمن من اللوحة بابتسامة سائلة زرقاء وجسد لا يتبين منه المتلقي إلا الوجه، بينما تتلاشى أبعاد الجسد السفلى في فراغ وإلى جانبها يبدو مدفع دبابة جاثما فوق بيت ربما كان بيتها. ولما كان عبده وازن يبحث عن الضحايا لا عن المتحاربين العائدين بذاكراتهم: فإنه يأخذنا إلى حرب مختلفة عبر الصور، والربط الذكي بينها لتوليد سرد شعري بالغ الدلالة. في أحد نصوص “قصائد حرب” يتحدث عن موتى يموتون مرتين. لقد لاحقت القذائف نعوشهم وهم محمولون على أكتاف مشيعيهم الذين فروا وتركوهم يموتون ثانية: “كانوا يرفعون التوابيت على الأكف ويسيرون بهدوء في جنازة لم يُدع إليها أحد، عيونهم تحدق في السماء.. في أعماقها تبرق نار الخوف. عندما سقطت القذائف تفرّقوا.. المشيعون تواروا خلف الأشجار ولم يبق سوى التوابيت المخلعة وبقايا أناس قتلوا مرتين”. ويمكن لمثل هذه اللقطات، سواء أحصلت أم تخيل الشاعر إمكان حدوثها، أن تنقل مقدار تأثر الشاعر بفكرة الحرب ومدى تعويله على توصيل فداحتها لمتلقيه باختيار مشهد الموت مرتين لضحايا فرّ مشيعوهم وتركوهم في عراء مواجهة الموت ثانية. يعودون ولو متأخرين في نص من “قصائد حرب” بعنوان “المخطوفون” يضمها ديوان عبده وزن “حياة معطلة” يرصد الشاعر بألم وحساسية ما يعنيه غياب هؤلاء المغيبين أحياء في الحرب، وانعكاس حدث اختطافهم على من تربطهم بهم علاقة، ولأنهم ظلوا مغيبين حتى بعد توقف الحرب وانتهاء مسلسل أحداثها؛ فإن من ظل مخطوفا في الحقيقة هم أصدقاؤهم وأهلهم ومن تهمّه حياتهم. ولدقة ما تنقله القصيدة من هاجس إنساني تساءلتُ في قراءة سابقة عن حقيقة كون الشاعر قد عاش التجربة بتغييب أحد ممن تربطه بهم علاقة مباشرة، خاصة وأن هاجس الغياب الدائم واحتمال الوجود يتكرر لدى الشاعر في نصوص أخرى، كحديثه عن أصدقاء يغيبون لكنهم حاضرون متوقعون فهم يهيمون أطيافا في دائرة الإمكان والعودة بعد غياب. بالنسبة للمخطوفين لم يعد من شيء يربطهم بالحياة التي كانوا عليها منذ لحظة اختفائهم، وذاكرة أهلهم وأصدقائهم هي الوحيدة التي تظل أسيرة الحدس بوجودهم أو عدمه، حياتهم أو موتهم، عذابهم وما لاقوه على أيدي خاطفيهم لاسيما حين يكون الخطف عشوائيا وضحاياه المفقودين بالصدفة. يهيم المخطوفون في القصيدة مثل ملائكة نورانيين لا تراهم الأعين، ليسوا أحياء بالمعنى الوظيفي للحياة، لكنهم يتحركون مثل الأحياء. يعيشون حالة انتظار عدمية كما هي حال سكنة الأعراف في القيامة التي صورتها أدبيات القصص العلوية وخيالاتها (كرسالة الغفران والكوميديا الإلهية): ليس لهم سوى أن ينتظروا.. مصيرهم معلق بلحظة لا يدرون متى يحين زمنها، فينعكس ثقلها على المكان ويتلون بقلقها وإرجائها، ويأخذ مغزاه من الجهل بحقيقتها. المخطوفون في نص عبده وازن مفردة بنائية وموضوعية ما كان لها أن تظهر فاعلة وحيوية في نصوص الحروب القديمة التي لم تعرف الخطف كمظهر للقتل والبشاعة التي تنطوي عليها. هي من مستجدات الاقتتال الذي يعود فيه قابيل ليمارس شهوة الموت بأسماء جديدة وكيفيات مبتكرة. تبتسم الحرب وتربت على كتفيه شكرا وعرفانا لأنه ابتكر وسيلة جديدة لمزيد من الضحايا. فاتتهم القنابل والرصاصات ووفرت حياتهم ليتسلى بها الخاطفون ويمارسون ساديتهم. الحرب مفتوحة الكتاب ووجود المخطوفين على لائحة الانتظار: بين احتمال موتهم وأمل عودتهم المؤجلة، بين يأس أهلهم ونفاد ذخيرة أملهم، وبصيص نور يضيء بالتعلة والصبر بعض العتمة التي يفرضها غيابهم. لقد عادوا بسبب عبثية تغييبهم أشباحا وصورا، وبالأسود والأبيض أو بألوان باهتة. في الحقيقة نحن الذين نراهم هكذا لأنهم لن يعودوا كما كانوا، رغم أن القصيدة تقول إنهم لم يتغيروا لحظة ووجوههم لم تتغضن ولا تزال أعينهم تبرق بفرح، لكن ذلك كله ليس كافيا ليجعلنا نراهم داخلين فجأة كما غابوا بلا مقدمات. النص يعاملهم كحاضرين غائبين دائمي الاحتمال وممكنين؛ لذا تسهم اللغة في تقديم ذلك الإيهام واللايقين، فلا تقدم تعيينا لمكانهم أو حياتهم “في جهة من الليل/ لا أحد يقول إنهم ماتوا”، وهكذا يظلون في فضاء دائم الحركة بين غيابهم وعودتهم وحاجة الحرب لهم كي لا تدخل مثلهم في كتاب النسيان شيئا فشيئا. خاتمة شخصية أيكون عليّ كما تفعل أمهات مخطوفي قصيدة عبده وازن: أن أضيء شمعة بأصابع يابسة كل مساء.. محترقا مع دموعها وما يسيل من جسدها في الفراغ المظلم.. منتظرا نبأ ما عنك في الخريف الخامس لغيابك؟ المخطوفون ليسوا أحياء لكنهم لم يموتوا إنهم يحيون في جهة من الليل في عيون أمهاتهم اللواتي يحدّقن في السماء كل ليلة. إنهم الخط الأخير للحرب التي عبرت بقتلاها وأسمالها بالصرخات التي ما برحت ترتفع. كان عليهم ألا يعودوا لئلا تدخل الحرب كتاب الذاكرة لئلا يلتئم الجرح السري للأرض. إنهم الأخيرون الذين لم يعودوا يتركون زهرة غيابهم على حافة النافذة لا أحد يقول إنهم ماتوا في الحفر أو وراء القضبان في الغرف العفنة أمهاتهم يضئن شمعة كل مساء بأصابعهن اليابسة مثلما فعلت أمّ البحّار في قصيدة كفافيس. إنهم المخطوفون هكذا يسمّونهم صورهم تدل عليهم هم الذين لا يزالون مثلما غابوا بالأسود والأبيض بالألوان الباهتة لم يكبروا لحظة وجوههم لم تتغضّن وعيونهم تبرق بفرح! إنهم المخطوفون الذين قد يعودون ولو متأخرين في نوم أهلهم بأحذية مهترئة وندوب لم تمّحِ بألم يشق ظهورهم! ليسوا أحياء لكنهم لم يموتوا الحرب غالباً ما تحتاج إليهم لتظل بلا نهاية لتظل ستارتها مثقوبة برصاص القدر
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©