الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن سقوط بغداد الأول

عن سقوط بغداد الأول
14 سبتمبر 2011 22:11
ليس التاريخ أحداثا ميتة، انقضى وقتها وأوانها، لكنه بالوعي والتأمل يظل حياً ونابضاً، وهكذا يبقى التاريخ مصدراً للإلهام والإبداع، قد يأتي الإلهام عبر دراسات وإعادة قراءة، وقد يأتي ناطقاً في عمل أدبي.. مسرحية أو قصيدة وربما رواية، وللرواية التاريخية مكان بارز في مسيرة الرواية العربية، منذ قدم جورحي زيدان روايات تاريخ الإسلام. ولم يتوقف إنتاج الرواية التاريخية بين كتابنا ومبدعينا، وآخر نموذج لها رواية عبدالجبار ناصر، الروائي العراقي، التي صدرت مؤخرا في القاهرة “أيام المستعصم الأخيرة” والمقصود ـ هنا ـ الخليفة العباسي المستعصم بالله أبو أحمد ابن المنتصر بالله، وهو الخليفة الذي وقع في عهده اجتياح المغول وقائدهم “هولاكو” لحاضرة العالم الإسلامي، وربما العالم كله وقتها، بغداد عاصمة الدولة العباسية، حيث تم تدميرها في عملية وحشية نادرة في التاريخ. قراءة التاريخ.. والحاضر لا يقدم الروائي روايته ولا حاول أن يشرح لنا شيئا عنها، ولا حتى استعان بناقد يقدمها لكن القارئ يفاجأ بنص أدبي جميل، مكتوب برصانة، وبلغة معاصرة، أي لم يلجأ إلى لغة تاريخية قديمة، قد تصعب على القارئ المعاصر، لكن يبقى السؤال: لماذا اختار الروائي، هذه المرحلة، أو أيام المستعصم الأخيرة، وهي التي تبدأ بظهور التهديد المغولي لبغداد وللخليفة، وانتهاء باجتياح بغداد وإعدام خليفة المسلمين في مشهد مهين ومؤلم للذاكرة العربية؟ السؤال ـ هنا ـ ليس لمحاسبة الروائي أو مؤاخذته، فمن حق المبدع والكاتب أن ينتقي ما يراه من أحداث وشخصيات التاريخ، لكن السؤال هنا محاولة للفهم ولاستكشاف النص والعالم الروائي للكاتب فحين يقف روائي أمام حدث بعينه، فهذا يعني أنه يريد أن يقدم قراءة للواقع من خلال التاريخ، أو التنبيه لشيء في الحاضر من خلال التاريخ، وربما يريد استحضار واستنهاض زمن فات. وفي العمل الذي بين أيدينا، يكشف نص الإهداء في بداية العمل عما يريده المبدع، فقد أهدى العمل الى أمه هو “التي رحلت عن هذه الدنيا بعد أن أهلكها الفزع على الأحبة والديار، وأدمت قلبها مشاهد القتال والخراب على أيدي الغزاة، المغول الجدد”.. ثم يقول في إهدائه “الى أمي التي رحلت من دون أن يتحقق حلمها بالزمان يوما ما، فمأساة سقوط بغداد تكررت ثانية”. المبدع مهموم بما جرى لبغداد من اجتياح اميركي في عام 2003، وما جرى للمدينة ولأهل العراق، وهو يرى ما جرى تكرارا لمشهد قديم، وان “المغول الجدد”.. الغزاة جاءوا إلى بغداد ثانية، وإذا كان الخليفة سيد بغداد، أعدم في الاجتياح الأول، فإن المشهد حدث في الاجتياح الثاني، وهو يبدو متعاطفا مع المستعصم، لكن لا يبرئه من المسؤولية، نلمس ذلك بوضوح من هذا الخطاب الى الخليفة “اقولها صريحة لك أيها الأخ الأكبر، إن الكثير من الأمور، أو معظمها محجوبة عنك وما تراه من أحوال الرعية، تراه بعيون حاشيتك ليس بعينيك، فبينك وبين الرعية أستار دونها أستار.. أهل البلاد، يا أخي وسيدي، أنهكتهم الأمراض والفيضان والأوبئة، وأذهلتهم أحكام المصادرة، وأثقلتهم الضرائب والرسوم والخراج، وأقضت مضاجعهم مداهمات الجنود الليلية، ولعلك ستصدم حين تعلم ان الكثيرين من المنكوبين من أهل العراق يعلقون آمالا على أي عدو أجنبي لعله يكون أكثر رحمة من حكامهم”. كثرة المظالم وشدة الطغيان والفساد، دفعت الناس، الى تعليق آمال الخلاص والإنقاذ على أيدي أي “عدو أجنبي”. هذا ما كان في زمن المستعصم وهو ما كان في زمن السقوط الثاني لبغداد، زمن المغول الجدد، بالتأكيد لا يسعى العمل الى تمجيد ولا تبرير الخيانة أو اللجوء إلى الأجنبي، حتى لو كان عدوا، لكنه يقدم محاولة لفهم الظاهرة الانسانية، وظاهرة الاستعانة بالأجانب، والطريف ان المستعصم نفسه سوف يكتشف ذلك ولكن متأخرا جدا وبعد أن اقترب العدو من أبواب بغداد مدينة السلام ولنقرأ معا هذه الكلمات: “اكتشف المستعصم بالله فجأة انه كان مخدوعا. فقد جاءت التحذيرات متأخرة، فقد تعمد صاحب الموصل أن يرسل تحذيره في وقت متأخر. وإن كان الخليفة خدع، فإن غيره لم يخدع، بل كان هناك ما هو اكثر من ذلك”. أقولها بصراحة التقصير المشين للمسؤولين عن أمن البلاد وإهمالهم، وكان الضحية كل العراق، وكل المسلمين.. لم تتحرك جيوش المغول قبل ثلاثة أسابيع أو شهر بل منذ مدة طويلة وهي الآن تتوغل في أرض العراق، يا للمصيبة”. نحن هنا بإزاء نص أو حدث تاريخي، بل حدث معاصر لنا تماما، انه استنطاق التاريخ وتأريخ الواقع.. وعلى هذا النحو يستمر الكاتب، فنجد المستعصم في لحظة اكتشاف الخديعة يتساءل مهموما “كيف ارتضى الحكام المسلمون لأنفسهم عار الدنيا والآخرة، بتعاونهم مع العدو وإخفاء الأمر عنا؟”. النخوة والخيانة ليس الأمر وقفا على الحكام المسلمين فقط، بل يمتد الى العلماء المثقفين، يتساءل “لا أدري كيف ارتضى شيخ كالطوسي، أن يرافق قائدا تلطخت يداه بدماء آلاف آلاف المسلمين، ويرى بعينيه كيف تغتصب نساء أمة محمد، وكيف تحرق بيوت الله ويذبح عباد الله، ولا يحرك ساكنا”! الرواية مليئة بالإسقاطات المعاصرة، لنتابع مشهد الهجوم على بغداد، ونجده يقدم لنا نموذج المقاومة والبطولة، حيث يتحدث عن خيانة أمير الموصل “أخزاه الله في الدنيا والآخرة”. إذ ينطلق قائلا “لكن أهل تكريت بكل ما أوتوا من بسالة هجموا على قوات المغول وهدموا واحرقوا الجسر غير أن المغول أصلحوا الجسر خلال يوم واحد”. وبينما جاء هجوم المغول على بغداد من بلاد فارس، نجد الأمر مختلفا في الحالة التركية “القائد التركي قرة سنقر لم يرض ان يخون واجبه العسكري وعقيدته الاسلامية فكيف يمكن أن يخون ويلطخ سيرته بالعار المؤبد ويخسر دينه بالخيانة؟”. تتحدث الرواية بحرقة عن خلفاء صلاح الدين الايوبي، الذين لم يحافظوا على مجد جدهم وتعاونوا مع “هولاكو”. حتى حينما دخل المغول بغداد، فإنهم طبقا للرواية أمسكوا الخليفة فجأة، تحت الأرض في القصر فهل نقول أخرجوه من الحفرة؟. وتصل المأساة ذروتها حين يجتاح جنود هولاكو بغداد، فإن أهلها الذين عانوا فساد المستعصم وحاشيته وحلموا بمن يخلصهم، وجدوا المخلص ليستبيح دماءهم وأرواحهم وأعراض نسائهم، فضلا عن أموالهم وبيوتهم، وبعد أربعين يوما من استباحة بغداد، أمر هولاكو جنوده بالكف عن أعمال القتل وسلب الأموال “لم يكن قراره هذا من باب الشفقة، بل خوفا على جيشه من انتشار الاوبئة. فقد تعفنت الجثثت في شوارع بغداد”. وحين أسس المنصور بغداد سماها “دار السلام” بينما هي “لم تعرف يوما طعم السلام؟!”. “أيام المستعصم الأخيرة” رواية تستحق القراءة، حتى وإن كانت قراءتها مؤلمة، إذ تعيد لنا مشهدا موجعا، عشناه في التاريخ ومازلنا نعيشه في واقعنا المهزوم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©