الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خيري شلبي.. «الكتابة» حتى الموت

خيري شلبي.. «الكتابة» حتى الموت
14 سبتمبر 2011 22:16
بهدوء شديد، لا يتناسب مع صخبه الإبداعي المدوي وجرأته الفكرية العاتية، انسابت روح خيري شلبي (1938 ـ 2011) محلقة طائرة لتغادر الجسد المنهك ووجوه اشتاق إليها. ألقى العم “خيري” عصا ترحاله وتجواله وغادر دون جلبة أو ضجيج، لنفجع صبيحة يوم الجمعة الماضي بخبر وفاته، وتخيم غيوم كثيفة من الحزن والأسى على سماء الحياة الثقافية المصرية والعربية. مات الراوي الفصيح صاحب “الأمالي” و”المنامات” البليغة الناقدة اللاذعة، “عمدة” الرواية المصرية الذي غادر قريته الصغيرة في شمال الدلتا منذ أكثر من نصف قرن. عندما عاد إليها فلكي يستقر بها نهائيا ويخلد للراحة الأبدية راقدا بسلام على أرضها، قرية “شباس عمير” بمحافظة كفر الشيخ، التي خلدها في رواياته الناطقة بعشق جارف للأرض والفلاح والطين، ولم ينِ أو يغفل أبدا عن تردادها وذكرها في أعماله وحواراته وأحاديثه. نزح إلى القاهرة وعاش في بطونها الصاخبة وأحشائها النائية، تصعلك في شوارعها، وجاس في حواريها، ونام في مقابرها.. اشتغل بالصحافة وترهبن في محراب الكتابة.. عاش ومات وهو يحمل بداخله روح أسلافه العظماء بدءا بالفلاح الفصيح، صاحب الشكاوى البليغة وأول صادح بنبض الطبقات الكادحة، مرورا بآباء السير الشعبية والملاحم العربية وليالي ألف ليلة وليلة، وصولا إلى جيل الرواد العظام من كتاب الرواية والقصة في الأدب العربي الحديث. كان خيري شلبي، أو عمنا “خيري” كما كان يحب أن نناديه، واسطة عقد جيل الستينيات، الجيل الذي التمعت سماؤه بنجوم الكتابة في مصر والعالم العربي، وملأ الدنيا فنا وإبداعا وصخبا، وكان العم “خيري” متفردا بمكانة خاصة بين أصدقاء العمر من الأقران إبراهيم أصلان، بهاء طاهر، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، ومحمد البساطي، مد الله في أعمارهم جميعا، وغيرهم ممن سبقوا إلى الدار الآخرة. كتب “الأوباش”، “الوتد”، “موال البيات والنوم”، “بغلة العرش”، “العراوي”، “صالح هيصة”، “منامات عم أحمد السماك”، “ثلاثية الأمالي”، “فرعان من الصبار”، “بطن البقرة”، “وكالة عطية”، “موت عباءة”، “رحلات الطرشجي الحلوجي”، “نعناع الجناين”، “لحس العتب”، “إسطاسية”.. وغيرها كثير، وظل يكتب ويكتب حتى انكفأ على وجهه، مسلما الروح وملقيا القلم، وهو يخط سطور مقالته الأخيرة التي لم تتم. فنون الكتابة ربما كان خيري شلبي هو الأغزر إنتاجا بين كتاب هذا الجيل، إن لم يكن أغزرهم على الإطلاق، فلم يدع فنا من فنون الكتابة أو لونا من ألوان الإبداع إلا مارسه وساهم فيه بنصيب وافر من الكتب والمؤلفات التي شارفت الـ 80 كتابا راوحت بين الرواية “مجلى تفرده وعظمته الأدبية”، والقصة القصيرة “معشوقته الأثيرة”، والمسرحية، والبورتريه الأدبي “يعد علما بارزا على هذا الفن وعلامة مميزة في نتاجه الإبداعي”، والسيناريو، والكتابة للإذاعة والتليفزيون والسينما، عدا دراساته الممتعة في النقد الأدبي والتوثيق الفكري وغيرها من أشكال الكتابة، التي شكلت في مجملها منجزا إبداعيا ضخما حفر موقعه بحروف من نور في مدونة الإبداع المصري والعربي المعاصر. ثمة عوامل وأسباب عديدة يمكن أن تفسر هذه الغزارة منها ما يرويه صديق عمره ورفيق كفاحه، الكاتب الكبير إبراهيم أصلان، من أنه “كان مستودعاً ضخماً لذكريات وعلاقات وحكايات في مساحات ومناطق لا نعرفها جيداً مثل المغنى والألحان والشعر الشعبي وعوالم الصعاليك، واستطاع من خلال هذا المخزون الهائل أن يتقمص مصر بكاملها ويجسدها كاملة غير منقوصة في رواياته الثرة الغزيرة.. والمبهر تمتعه بذاكرة نادرة لم يؤثر عليها الزمن إلا قليلاً. كان يحفظ دواوين شعرية كاملة لفؤاد حداد وآخرين”، فمعين الذاكرة “الشلبية” معين باذخ زاخر كان يغترف منه ويغرف دون أن يغيض. ذلك المستودع الضخم من الذخيرة الحية النابضة من التفاصيل الخفية للحياة الثقافية والفنية التي اختزنها، إضافة إلى التشبع في مرحلة باكرة بالتراث السردي العربي، الفصيح منه والعامي، وخاصة السير الشعبية وألف ليلة وليلة كان يقول إن “ألف ليلة وليلة” هي السيرة الذاتية للشعب المصري، ومعزوفة شعبية في تمجيد المرأة العربية، ربما تلقي بأضواء كاشفة على المؤثرات التي ساهمت في تشييد منجزه الروائي والقصصي وإسهاماته الحياة الثقافية بشكل عام، وهو الدور الذي لا يمكن تقديره، فقد ظل منذ بداياته الباكرة مهموماً بقضايا الثقافة بعامة والفولكلور في مصر، ومتابعاً لكل الإبداعات عند كل الأجيال في إطار الأصالة والمعاصرة. وإذا كان كتاب الستينيات من مجايليه الكبار منهم من بدأ بممارسة بكتابة الرواية أو كتابة القصة أو عمل بالصحافة في مرحلة سابقة أو لاحقة، فإن خيري شلبي قد بدأ بكل ذلك معاً! كتب ـ أول ما كتب ـ الأغنية الشعبية، ثم كتب القصة القصيرة، ثم الرواية ومارس الصحافة ليلتحق بمجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1967، لتكون رافدا مهما من الروافد العديدة التي ساهمت في إبداع وتشكيل أعماله الروائية والقصصية، والصحافة تمكن الروائي، والروائي بالتحديد وليس أي شخص آخر، من امتلاك التفاصيل الصغيرة، فهي “فن التفاصيل الدقيقة”، كما أشار إلى ذلك منظروها الكبار. كما كانت الصحافة النافذة التي عُرف من خلالها كواحد من أهم المتابعين للمسرح، وأسس في الصحافة المصرية “فن البورتريه الأدبي”، وهو لون من ألوان الكتابة الأدبية معروف في الصحافة العالمية، برع فيه وتفنن في كتابته حتى بات علما عليه لا يكاد يباريه في كتابته أحد، وكانت حصيلة أعماله في هذا اللون من الكتابة عدة مجلدات كبيرة جمعت معظم ما خطه خلال أكثر من نصف قرن، منها “أعيان مصر ـ وجوه مصرية معاصرة”، «صحبة العشاق ـ رواد الكلمة والنغم”، “عناقيد النور ـ بورتريهات خيري شلبي”. تعدد الأوجه مثل خيري شلبي النموذج الأمثل للمبدع “متعدد الأوجه”؛ فهو ينتمي بالثقافة والفكر والتكوين إلى جيل الآباء الرواد العظام، جيل طه حسين وهيكل والعقاد وزكي مبارك والمازني وتوفيق الحكيم، ذلك الجيل التنويري الرائع، وهو بذلك ينتسب إلى هذه الثقافة بأكثر من معنى ليكون أحد أبرز المدافعين عن تراث هذا الجيل ورافع رايات العقلانية والليبرالية وحرية الفكر والتعبير، كما يكرس جزءا كبيرا من جهده الثقافي للكشف عن أعمال مجهولة من تراث التنوير، ويخرج للحياة الثقافية كتابه المهم “محاكمة طه حسين” الذي نشر فيه ولأول مرة وثائق التحقيق في قضية الشعر الجاهلي وقرار النيابة بحفظ التحقيق في القضية، في سابقة كانت هي الأهم والأبرز في تاريخ الفكر العربي الحديث. ويواصل “نبشه” في ركام الكتب القديمة والوثائق النادرة حتى يعثر على مسرحية نادرة للزعيم الوطني مصطفى كامل، “فتح الأندلس”، فيخرجها للنور ويضعها محققة محررة تحت أيدي الباحثين والدارسين. وعلى صعيد الاهتمام بالثقافة الشعبية، ومن خلال رئاسة تحرير سلسلة “دراسات شعبية”، يحدث حراكا غير مسبوق وطفرة في الاهتمام بالنصوص والدراسات النقدية للمأثورات الشعبية، وينشر عيون التراث الشعبي من الملاحم والسير الشعبية العربية في طبعات موثقة، إضافة إلى الدراسات والبحوث لكبار الدراسين والمتخصصين في الأدب الشعبي، لتكون الحصيلة في النهاية مكتبة باذخة من النصوص والدراسات القيمة، متاحة ميسورة للقراء والباحثين في الفنون والآداب الشعبية. ويعد خيري شلبي بحق “رائد الفانتازيا التاريخية” في الرواية العربية المعاصرة، ومن أوائل من كتبوا ما يعرف نقديا بتيار الواقعية السحرية في الأدب العربي، التي جسدها في عدد من أهم رواياته المعروفة “الشطار”، و”نسف الأدمغة”، و”بغلة العرش”، و”السنيورة”، وهو ما أشار إليه نقاد وباحثون من أنه كان من أكثر كتاب الرواية المصرية احتفاء بالواقعية السحرية واهتماما بها، وعدوا روايته “رحلات الطرشجى الحلوجي” عملا فريدا في بابها. ففي رواياته تلك تتشخص المادة وتتحول إلى كائنات حية تعيش وتخضع لتغيرات وتؤثر وتتأثر، وتتحدث الأطيار والأشجار والحيوانات والحشرات وكل ما يدب على الأرض، حيث يصل الواقع إلى مستوى الأسطورة، وتنزل الأسطورة إلى مستوى الواقع، ولكن القارئ يصدق ما يقرأ ويتفاعل معه. وهو ما يتضح بجلاء في روايتيه “السنيورة”، و”بغلة العرش”، حيث يصل الواقع إلى تخوم الأسطورة، وتصل الأسطورة في الثانية إلى التحقق الواقعي الصرف، وفي روايته الضخمة “الشطار” (500 صفحة) يسرد الرواية على لسان “كلب”، يتعرف القارئ على شخصيته ويعايشه ويتابع رحلته الدرامية بشغف.. كتاب ومثقفون ومفكرون من مشارب شتى، ينتمون لأجيال متعاقبة ومن تيارات متباينة احتشدوا لرثاء خيري شلبي وتقديره، والاحتفاء والاعتراف وإشهاد الأشهاد على قيمته ومكانته في الأدب العربي الحديث، وتجسيدا للوفاء والعرفان والامتنان خاصة من الأجيال الشابة. وكان تآلف الأجيال واجتماع التيارات المتصارعة دلالة ناصعة على الأثر العميق الذي طبعه وتركه الراحل الكبير الذي كان واحة وظلا ظليلا للموهوبين ـ وغيرهم أيضا ـ من شباب المبدعين والكتاب الجدد، ورغم جهامة كانت ترتسم على الوجه خصوصا في سنوات الشيخوخة، إلا أن هذه الجهامة كانت تنطوي على مساحات من التسامح والمحبة هائلة، وكان أقرب كتاب جيله الستيني احتضانا واحتفاء بالموهوبين من الكتاب الشباب، بل ربما كان الشيخ الأقرب إلى نفوس الشباب وعقولهم أيضا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©