السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسيرة الأحزان!

أسيرة الأحزان!
9 ديسمبر 2010 20:13
تخصصت بدراستي الجامعية في اللغة العربية، لأتولى بعد ذلك تدريسها في المدارس وأنا على الهامش منذ وعيت على الدنيا وتفتحت عيناي. أنا دائما خارج نطاق الاهتمام وعلى حافة الحياة في كل شيء، أكاد أجزم بأنني لست بين الأحياء، لولا أنني أتنفس وأتحرك وأتكلم، وكل ذلك بسبب أسرتي الكبيرة العدد التي لاأمثل فيها أي ركن، فغيابي لا يشعر به أحد، وحضوري لا يزيد شيئا، نغرق في فقر مدقع وأكذب لو قلت لكم إننا راضون بذلك، ولكن لسنا ساخـطين، ولا سبيل لنا غير أن نجاهد إلى مالا نهاية. جلست مرة على حافة الطريق استذكر دروسي وأنا أبيع بعض السلع التافهة مثل المناديل الورقية ولم أكن أنا أو أسرتي نقصد إلا تدبير بعض المال لشراء الخبز، ولأجد مكاناً فيه مصباح استطيع من خلاله القراءة والكتابة، وبينما أنا مستغرقة في هذه الحال وجدت من يدس في يدي بعض الجنيهات، اعتقدت لأول وهلة أنه يريد أن يشتري «علبة مناديل» لكنه تركني وذهب من دون أن أرى ملامحه، غير أن هذه الأموال القليلة كانت مثل العقرب، خفت أن أقبض عليها أو أضعها في جيبي، سالت دموعي من دون أن أدري، بكيت بحرقة شديدة، شعرت بمذلة فلست متسولة وتأبى نفسي ذلك، فلملمت بضاعتي القليلة الكاسدة وعدت إلى الكوخ الذي نعيش فيه، كانت جدرانه من الصفيح القديم والكارتون الذي نجمعه من صناديق القمامة. وسارت بي الأيام على هذا المنوال حتى أنهيت دراستي الجامعية، ولا أعرف كيف تم ذلك مع هذه الظروف، وإن كنت كل عام أقدم في المدرسة والجامعة شهادة موثقة بأن أسرتي معدمة، فيتم إعفائي من المصروفات وكنت أرى الكثيرين أو معظم زملائي وزميلاتي ينفق الواحد منهم قيمة هذه المصروفات في جلسة واحدة، أما الخطوة القادمة في حياتي فمن الطبيعي أن تكون الزواج، وليس عندي ما يغري الشباب، حتى الجمال أخفاه الفقر. رشحت لي صديقتي أحد أقاربها المقيم في الخارج، ويبحث عن عروس مناسبة، وكان فيه عيب واحد أنه سبق له الارتباط مرتين من دون عقد قران ولا زفاف، ولم تتم الزيجتان لأسباب غير معروفة، وإن لم يكن ذلك عيباً من وجهة نظري، لكنه استوقفني وجعلني أبحث ظروفه وأسبابه ولماذا تكرر مرتين؟ وهل كان ذلك من جانبه أم من جانبها؟ وفي النهاية لم أصل إلى أي إجابة عن أي سؤال ودفعني الجميع إلى الموافقة، خاصة أنه يمكنني أن أحكم عليه بنفسي خلال فترة الخطبة، كما أن هناك ما جعلني أقبل هذا العرض وهو أن العريس سيتحمل كل نفقات الزواج، ثم يصطحبني معه إلى حيث يعمل. حضرت أمه وأخته إلى بيت أبي المتواضع لتتعارف، ولم تخفيا انطباعهما، وكان واضحا على وجهيهما، على الرغم من أنه وافق بعد هذه الزيارة على الخطبة مبدئياً إلى أن يأتي بعد عام، اكتفينا خلاله بالاتصالات الهاتفية، وتبادلنا الصور الفوتوغرافية، وبدأت أتعلق به، وانتظر اتصاله اليومي، وبعدما أعود من عملي كمعلمة في المدرسة، أنجز بعض الأشياء مع أمي لأتفرغ للحديث معه ولو لدقائق معدودة، وإن كان بعد شهور عدة بدا مقلا في الاتصالات، وأصبحت مرتين في الأسبوع ثم مرة واحدة، إلى أن تلاشت بعدما أخبرني انه سيحضر قريبا لعقد القران والزفاف وأطير معه إلى حيث يعمل، وأعتقد أن سبب انقطاع الاتصالات هو اقتراب عودته، لكن فجأة وبلا أي مقدمات جاءت صديقتي لتخبرني بقراره المباغت غير المبرر بأنه «فسخ» الخطبة، بلا أسباب، نعيت حظي العاثر، كما تأثرت حالتي النفسية، وتحطمت أحلامي كلها، وانهارت لكن الأمور ما لبثت أن عادت إلى طبيعتها. التقطت الصحيفة من زميلتي، لألقي نظرة سريعة على ما فيها من أخبار، وقعت عيني على إعلان كبير، سفارة دولة أجنبية تطلب معلمي ومعلمات اللغة العربية، بأجر مجزٍ، حملقت غير مصدقة وحصلت على العنوان والشروط وأرسلت بياناتي ومرت شهور من دون أن أتلقى ردا، وخلالها، ارتبطت بأحد زملائي في العمل وهو معلم مثلي وظروفنا متشابهة، حتى أننا تزوجنا في غرفة واحدة إلى حين ميسرة، ولم يكن لي دخل أنا وزوجي غير راتبينا المحدودين، وننتظر قدوم طفلنا الأول الذي كنت احمل هموم احتياجاته ومصروفاته وملابسه، قبل أن يجيء إلى الدنيا. حمل إليَّ البريد رسالة لا انتظرها ولا أتوقعها، أنها استجابة لرسالتي التي تقدمت بها إلى الوظيفة في الإعلان، وقد نسيتها بسبب طول المدة وبكيت كما لم أبك في حياتي كلها ولا أدري إن كنت سعيدة أم حزينة، حالة متداخلة غير واضحة، أفكاري مشوشة، شريط ذكريات عمري يمر أمامي، والرسالة تطالبني بالتقدم بأوراقي والمستندات، لإنجاز إجراءات السفر قريبا، شعرت بانقلاب حقيقي في حياتي، فلا أنا قادرة على الرفض، ولا أدري كيف سأذهب وأترك زوجي، وناقشت معه الأمر، فشجعني على الموافقة وخوض التجربة، وإن وجدت مصاعب أو متاعب يمكنني العودة مرة أخرى في أي وقت، ووجدت كلامه منطقيا، وفي الصباح انطلقت لإعداد الأوراق، لكنني اصطدمت بأول عقبة عندما ألقى الموظف المسؤول بالمدرسة في وجهي بكلمة أفقدتني التركيز إذا أخبرني أنني ليس من حقي الحصول على إجازة الآن، لأنني لم اكمل الفترة التي حددها القانون، وليس أمامي إلا تقديم الاستقالة وهذا هو الحل الوحيد إذا كنت لا أريد تضييع الوقت والفرصة من بين يدي، واتصلت بزوجي أخبره، فليس من اليسير أن أضحي بوظيفتي بعدما حصلت عليها بشق الأنفس، ومن المستحيل أن أعود إليها أو أحصل على مثلها بعد عودتي، ولا أدري متى سأعود، وانتهى بنا الرأي إلى الإذعان والتضحية، وبالفعل قدمت استقالتي، ووقعت عليها كأنني أوقع على شهادة وفاتي. منذ ذلك اليوم، ثلاثون عاما مضت، تغيرت فيها كل الأحوال وتبدلت، انجبت خلالها ثلاثة أولاد، التقي بهم وبزوجي في الإجازات، في البداية كنت مقلة في السفر، ترشيدا للنفقات ووجدت من خلال مهنتي أبوابا واسعة للرزق، انهالت عليّ العملات الصعبة وأنا أتفانى وأبذل كل جهد، وتحولت إلى «رجل» أتحمل نفقات الأسرة، وزوجي حل مكاني في مهمة التربية، تبادلنا الأدوار والمهام بلا اختيار واشتريت شقة فاخرة، انتقل إليها زوجي وأبنائي، واتسعت الأحلام لنشتري فيلا أكثر فخامة تليق بوضعنا المادي الجديد، زوجي وأبنائي يطالبونني بالعودة اليهم، وفي كل عام ينتهي الحوار بيننا إلى نتيجة واحدة، ان هذه السنة ستكون الأخيرة بعد تحقيق أحد أهدافنا وأحلامنا التي يبدو أنها بلا نهاية ولا حدود، تذمروا جميعا، وتوترت العلاقات، وأنا خائفة من العودة إلى الفقر. لست قاسية القلب ولا متجمدة المشاعر، بل امرأة تخطت الخمسين، ولم تبدأ حياتها بعد، أرغب بشدة في الإقامة مع أسرتي في الفيلا التي لا يملك مثلها إلا الكبار، وأصبح لي رصيد كبير في البنك، نعم أريد أن استمتع بهذا كله، لكن المخاوف تطل برأسها وتتلاعب برأسي وتشير إلى الماضي كأنني أكاد أعود إليه أو يعود إليَّ، وحتى عندما لم يجد زوجي سبيلا لإقناعي بضرورة العودة، لوح لي بأنه سيتزوج ويستمتع مع عروس شابة بهذه الأموال ولم يحرك ذلك عندي ساكنا، ولدي قناعة بأنه لو فعلها فإن ذلك لا يمثل نقطة في بحر المعاناة التي أخاف من الرجوع إليها، وقد تأكدت فيما بعد من أنه غير جاد في تهديداته، وأنه لن يفعلها، فهو رجل على قيم وخلق رفيع، يحفظ العشرة ويكن لي كل الاحترام وكل تقدير لما عانيته في الغربة من أجل أسرتنا وها هو يرى الفارق بيننا وبين إخوتي وإخوته الذين كنا مثلهم. أصبحت أعيش في حالة متناقضة تماما، ما بين الرغبة الملحة في العودة وضم أبنائي لأحضاني، والحياة ما تبقى من العمر مع زوجي، بعدما مضى ما يقرب من ثلاثين عاما على زواجنا لم نعشها بالفعل، وبين ترك هذه الأموال الكثيرة والتضحية بها، والخوف من العودة وأنا بلا عمل فالمؤكد أنني لن أجد أي فرصة عمل والحيرة تقتلني، وأنا أضعف من اتخاذ أي قرار بهذا أو بذاك، إلى أن جاءتني رسالة قصيرة على الهاتف المحمول كلماتها مقتضبة، ابنك أصيب في حادث وحالته خطيرة ودارت بي الدنيا ولم أعرف كيف أتصرف واستعنت بزملائي في تدبير أمور سفري على أول طائرة، كانت الدقائق والثواني طويلة كالدهر تمر بطيئة، وقلبي يرتجف، إلى أن وصلت ووجدت الدموع في عيون المستقبلين كانت كافية لتعبير عما حدث لم اسأل ولم يجيبوا، فهمت من أول وهلة أن ابني مات وسقطت مغشياً عليّ، رحت في غيبوبة لا أدري كم من الأيام استغرقت، لم أحضر جنازته، ولم ألق عليه نظرة الوداع ولم أتلق فيه العزاء، وبعدما أفقت لم أعد قادرة على التخلص من أحزاني، أجلس وحيدة، زاهدة في أي طعام وأنا قادرة على شراء أفخر الوجبات، بعدما كنت لا أملك شيئاً، لا استطيع النظر في عيون زوجي وابني، أرى أنني أتحمل مسؤولية ما حدث كأنني التي ارتكبت الجريمة وقتلته بيدي، لا أقدر على النوم وتطاردني الكوابيس. مشكلتي الكبرى، أنني ألوم نفسي، وأرى أنني ارتكبت أخطاء لا سبيل لإصلاحها، وقد عدت مجبرة مضطرة، بعدما أرسلت باستقالتي عبر الفاكس إلى مقر عملي، وأرسلوا لي ما تبقى من مستحقات، لقد ساقتني أفكاري إلى الجنوح، إلى أن حدث هذا الانقلاب ولم يتحقق من أحلامي شيء على الرغم من كل ما أملك، لأنه في النهاية لم يحقق لي السعادة التي أنشدها، وعدت إلى أحزاني كما بدأت، بل أكثر منها بكثير، فهذه المرة سكنت قلبي وقد لا تخرج منه.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©