الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نصّاب حتى الموت

نصّاب حتى الموت
9 ديسمبر 2010 20:13
بينما كانت كاميرا البرنامج التلفزيوني الفضائي تركز على الضيف، كانت المذيعة منهمكة في مقدمة لابد منها لأن محدثها شخص غير عادي وتجربته لا تتكرر أو من المستحيل أن تتكرر فشدت الانتباه وعلقت عيون المشاهدين بالرجل الذي كان شاحبا مصفر الوجه جاف البشرة جلده التصق بعظامه لا لحم فيه ولا شحم غائر العينين زائغ النظرات اشعث اغبر ينظر هنا وهناك بلا تركيز وملابسه رثة بالية وأظافره طويلة نسبيا تلفت الانتباه ولم يكن البرنامج مثل كل البرامج الحوارية المعتادة إنما هو واقعة متكاملة يجب أن يرويها صاحبها كما عاشها بنفسه والأفضل - كما فعلت المذيعة- ألا تقاطعه بسؤال يفصل تسلسل الأحداث المرعبة الشائقة الغريبة الخيالية. بدأ الرجل حديثه كأنه طفل بالكاد تعلم الكلام قال: اسمي «حسين» وعمري اثنتان وأربعون سنة وأعمل في مهنة حرة يكفيني دخلها أنا وأسرتي مثل عامة الناس طالما نجد طعامنا وشرابنا وقوت يومنا فهذا يكفي فأمثالي لا يطمحون لأكثر مما هم فيه وقد توفي أبي وتوليت مسؤولية أمي وتأخرت في الزواج من اجل رعايتها فهي مسنة وكاد قطار الزواج يفوتني لكنها كانت تلح عليَّ ربما كل يوم كي أتزوج وعندما ازداد إصرارها ورأيت دموعها مرات عدة وهي تردد يا ولدي أريد أن اطمئن عليك وأمنيتي الوحيدة في الحياة أن أرى أبناءك قبل أن أموت لذا اضطررت للنزول عند رغبتها واخترت فتاة وافقتني عليها ليست من أقاربي لكنني اعرفها منذ سنوات وتمت الزيجة في حدود إمكاناتي المتواضعة وعشت مع أمي وزوجتي في سلام ووئام وأحبت كل منهما الأخرى اتركهما كل يوم واذهب إلى عملي وأعود آخر اليوم وكلتاهما تتسابقان لخدمتي. عدت يوما في المساء من عملي كالمعتاد وتناولت طعام العشاء وقبل أن تعد زوجتي الشاي شعرت بألم شديد في أمعائي، بطني يتمزق كأن سكاكين حادة تقطعه صرخت بأعلى صوت وأنا أتلوى لا ادري ماذا حدث ولا أشك ان امرأتي قد وضعت شيئا في الطعام فليس بيننا اي خلاف ولا شقاق وازعم أنها تحبني بل أؤكد هذا وطلب الجيران سيارة الإسعاف التي جاءت في غضون دقائق ونقلتني الى المستشفى لم اتوقف عن الصراخ فالألم فوق احتمالي واكبر من قدرتي واخبرني الطبيب بأنني مصاب بتسمم غذائي وبدأ علاجي لكن بعدها غبت عن الوعي وفقدت الادراك تماما ورحت في غيبوبة ولا اعرف ماذا حدث؟! لا ادري كم من الأيام مضت ربما يكون يوما او بعض يوم ربما يكون اسبوعا او شهرا لا يمكنني الجزم ولا تقدير المدة إلا أنني عندما افقت أو بمعنى اصح عدت الى الحياة وجدتني في غرفة ضيقة في ظلام دامس ملفوفا في القطن ثم في قطعة قماش واحدة مربوطة في قدمي، تمكنت من الخروج منها بصعوبة لم ار اي شيء ولا ملامح للمكان فبدأت أتحسس ما حولي الجدران قريبة مني والسقف منخفض ومددت يدي لأجدني بين كمية من العظام صرخت اصابني الفزع واصلت الصراخ الهواء قليل والجو خانق والرعب يقتلني لأنني لا اعرف اين انا لكن لم يكن هناك إلا احتمال واحد انني في القبر. ويحاول «حسين» ان يبلع ريقه الذي ازداد جفافا ويرشف من الكوب الذي امامه رشفة ماء ثم يأخذ نفسا عميقا ويغمض عينيه ويعيد فتحهما ثم يعود ليواصل حديثه واكمل قائلا: مرت عدة ايام وانهكني الصراخ وما من مجيب ولا اعرف وجهة ولا اتجاها إلا الأعلى والأسفل ولم اتوقف عن تحسس الجدران حتى اهتديت أخيرا إلى ما اعتقدت انه فتحة القبر فالقبور عندنا ليست على طريقة اللحود ولا يهال التراب على الميت وانما المقابر عبارة عن غرف صغيرة لها فتحة بالكاد يدخل منها الشخص ويخرج ويتم وضع المتوفى فيها واغلاقها عليه بالأحجار والطوب والطين وحاولت ان امد يدي وارتفعت مقدار خطوة فإذا بكائن غريب لا ادري إن كان من الأنس او من الجن من الاموات أم من الاحياء المهم انه امسك برجلي كي يعيدني الى الخلف مرة اخرى فإذا بقلبي يتوقف وتيبست رجلي التي امسكها ومر من الزمن ما لا أدركه أيضا حتى استجمعت قواي وتمسكت بالحياة وعدت إلى الصراخ مرة اخرى اطلب النجدة وفوجئت بمن يفتح المقبرة من الخارج فخرجت وأنا غير قادر على أن افتح عيني في الضوء واذا بالرجل يهذي بكلمات متداخلة فهمت منها وهو يشير اليَّ انه «التربي» اي اللحاد الذي دفنني بعد ان مت منذ خمسة ايام وها انا اعود الى الحياة لكن الرجل لم يستطع تحمل الصدمة والمفاجأة وسقط مغشيا عليه ولفظ انفاسه ومات. تجمع المارة وشاهدوا ما بي من إعياء وإرهاق وتعب وحملوني إلى المستشفى القريب نفسه الذي كنت أعالج فيه من التسمم فإذا بمدير المستشفى والطبيب يفران من أمامي كأنني مسخ غريب، ومزقا الدفاتر والاوراق والمستندات التي سجلوا فيها وفاتي حتى لا يتحملوا أي مسؤولية بعد عودتي من الموت الى الحياة وكان هناك من هرول الى امي يزف إليها الخبر فجاءوا بها يحملونها والقت إلي نظرة وابتسامة من دون ان تنطق بكلمة واحدة وسقطت مغشيا عليها وماتت هي الاخرى ثم مرضت لمدة اسبوعين وبعدها عدت الى منزلي فلم اجد زوجتي وعندما جاءني بها الجيران نظرت اليَّ من بعيد وهي ترتجف ولم تتقدم خطوة ولم تدخل المسكن وعادت مرة اخرى الى بيت اهلها وهي تردد: هذا ليس حسين انه عفريت لا يمكن أن أعود الى العفريت حسين مات!! وطلبت الطلاق وحصلت عليه. اخبرني الجيران بعد ذلك أنني فارقت الحياة في المستشفى بعد اصابتي بالتسمم وأن أهل الخير قاموا بتغسيلي وتكفيني ودفني ثم عدت الى الحياة مرة اخرى وهذه هي حكايتي بالتفصيل ولكن ليتني ما عدت فالموت افضل لي فقد تسببت في موت الحانوتي وموت امي وطلاق زوجتي. عدت صفر اليدين وشلت رجلي وخسرت صحتي لا ملجأ لي الان ولا صحة ولا قدرة على الكسب كل ما أريده من اهل الخير ان يقدموا لي الرعاية وأطالب بمسكن يؤويني وقليل من المال يكفيني ويكفي انني مت مرة وشاهدت الموت بعيني وذقت سكراته وجاء لحاد آخر ليشهد على صدق كل ما جاء في اقوال حسين وانه رأى زميله الذي مات من الصدمة. أنهت المذيعة الحوار الجذاب وهي تطالب الأثرياء وأصحاب القلوب الرحيمة ان يتبرعوا لهذا الميت العائد إلى الحياة وأن يدبروا له مسكنا وأموالا يعيش منها وقبل أن تنتهي الحلقة جاء اتصال من شخص قال إنه سيتبرع لحسين بكل ما يريد وطلب الإبقاء عليه في القناة لحين حضوره اليهم واصطحابه وتحقيق أمنياته ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى وجد «حسين» نفسه أمام ضابط شرطة وقوة من المباحث يلقون القبض عليه وسط دهشة المذيعة والمخرج والعاملين في القناة الفضائية والضابط يخبرهم أن «حسين» هذا نصاب كبير اختلق كل هذه الرواية جملة وتفصيلا وليست هذه هي المرة الأولى بل فعلها منذ خمس سنوات وها هو يعيدها مرة اخرى ولم تتيبس رجله كما ذكر ولكنه مصاب بشلل منذ طفولته ولا أم له ولا زوجة وان هذا حفار القبور الشاهد الوحيد شريكه في الجريمة كي يصدقه الناس. طأطأ «حسين» رأسه ومد يده ليتم وضعهما في القيود الحديدية وهو يقول للمذيعة ما قصدت الكذب ولكن كنت ابحث عن بعض المال وهكذا سولت لي نفسي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©