الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مواقف إسلامية.. من الهجرة النبوية

مواقف إسلامية.. من الهجرة النبوية
9 ديسمبر 2010 20:14
تمر بنا في هذه الأيام ذكرى هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ذلك الحدث الذي كان نقطة تحول فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث انطلقت بعدها في أرض الله الواسعة، ففي ظل الهجرة المباركة تكونت القاعدة الإسلامية الحرة التي انطلق منها دين الإسلام ليغمر بقاع الأرض بأنوار هديه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، كما كانت بداية إرساء دعائم الدولة الإسلامية الفتية بالمدينة المنورة حيث آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في تكافل اجتماعي غير مسبوق في التاريخ وليس له نظير حتى الآن. حقاً إنها لذكرى عظيمة في حياة الإسلام والمسلمين، تتطلع نفوسهم إلى ماضيهم التليد، وتهفو أفئدتهم إلى مجدهم وعزهم القديم، كما يتذكر المسلمون المؤامرة الكبرى التي اجتمع فيها أهل الشر والكفر ليضعوا حداً للرسول- صلى الله عليه وسلم - ودعوته، فيحبسوه أو ينفوه أو يقتلوه.. (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (سورة الأنفال الآية 30). من المعلوم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتعبد في غار حراء، وفي ذلك المكان نزل أمين وحي السماء جبريل - عليه السلام- على سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاملاً أمر ربه إليه، كما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها - قالت: (أول ما بُدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤية الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) (سورة العلق الآيات 1-3)، فرجع بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزي- ابن عم خديجة - وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: با ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى ، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أَوَ مُخْرجيّ هم ؟ قال نعم ، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يُدْركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي ) (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه). فمن الحديث السابق يظهر أن خبر الهجرة كان معروفاً من قبل كما قال ورقة بن نوفل، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، وحين رد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلا: أو مخرجي هم؟ فكأن نبأ هجرته - عليه الصلاة والسلام- كان معهوداً معروفا من قبل، ولكن الذي تأخر هو حدث الهجرة نفسه حيث اختار الله عز وجل المدينة المنورة لتحتضن الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب ) (أخرجه مسلم) وعندما نستعرض حياة أنبياء الله ورسله- عليهم الصلاة والسلام - نجد أن عدداً كبيراً منهم قد هاجر مثل: سيدنا إدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم ، ولوط ، وموسى، ويونس، ومحمد عليهم جميعاً صلوات الله وتسليماته. وهذا درس نتعلمه من ذكرى الهجرة المباركة وهو هجر المعاصي، ومحاربة النفس والشيطان، فهذه الهجرة دائمة في مختلف الأزمنة والأمكنة، فقد جاء في الحديث «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». فعلى المسلم أن يهجر المعاصي بجميع أشكالها من ربا، وغيبة، ونميمة، وأكل لأموال الناس بالباطل، وأن يفتح صفحة جديدة مع ربه، وكل ما أصاب المسلمين من ذل وضعف ليس تخلياً من الله عنهم، بل نتيجة حتمية لارتكاب المعاصي «من عرفني وعصاني سلطت عليه من لا يعرفني». لقد كان بناء المسجد أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم لدى وصوله المدينة، وكان يباشر العمل مع أصحابه- رضي الله عنهم أجمعين -، وينقل الحجارة بنفسه، وكان الصحابة من المهاجرين والأنصار يُغنون وهم يبنون: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة والمسجد هو روح المجتمع الإسلامي، والرجال الذين يُربون فيه هم الذين يبنون النهضات، ويصنعون الحضارات، ويكونون أرقى المجتمعات، فالمسجد هو المكان الذي يجتمع فيه أبناء الأمة صباح مساء يذكرون الله سبحانه وتعالى ويعبدونه، وهو المكان الذي يستوعب أبناء الأمة شيباً وشباباً، رجالاً ونساء، يقفون بين يدي ربهم كالجسد الواحد حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ) (أخرجه البخاري)، ويقول: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري)(أخرجه البخاري)، ويقول: (أقيموا الصفوف، فإنما تصفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا في أيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله عز وجل) (أخرجه أبو داود). إن روح المحبة والمساواة لا تتم إلا في المسجد الذي يعد برلمان الأمة، ففيه التقى أبو بكر الصديق القرشي الأبيض، وبلال الحبشي الأسود، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، أصبحوا إخوة متحابين بعد أن كانوا أعداء متخاصمين. فما أحوج أبناء الأمة اليوم إلى المحبة والتعاضد، والتكاتف والتكافل ليكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وفي المدينة المنورة على ساكنها أفصل الصلاة والسلام آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، حتى تكون القاعدة الداخلية صلبة متينة، حيث شهدت المدينة المنورة أول نظام للتكافل الاجتماعي الحقيقي تمثل في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في مجتمع إيماني واحد، هذه المؤاخاة التي ربط بها الرسول- صلى الله عليه وسلم - بين الصحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين- برباط إسلامي يفوق رباط الدم، ليؤكد أن المجتمع لا يمكن أن يكون قوياً إلا بالتعاون والتكافل، وقد ذكر القرآن الكريم الأنصار ومدى إخلاصهم للدعوة الإسلامية وتفانيهم في حب إخوانهم المهاجرين، وإيثارهم على أنفسهم، فكانوا بحق كما وصفهم الله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر الآية 9)، حيث وصل الحال بأحد فضلاء الأنصار وهو « سعد بن الربيع «أن يعرض على أخيه المهاجر» عبد الرحمن بن عوف «أن يناصفه أهله فيطلق إحدى زوجتيه ليزوجها عبد الرحمن، وأن يناصفه ماله فيعطيه شطره، فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق فذهب وتاجر وربح. فما أحوج أمتنا العربية والإسلامية إلى التعاضد، والتكافل الاجتماعي، بأن يرحم القوي الضعيف، وأن يعطف الغني على الفقير فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. تلك ومضات من هدى الهجرة النبوية، وهذا هو طريقها المرسوم، فليست الهجرة قصة تروى، وإنما هي قبل كل شيء وبعد كل شيء عرق وكفاح، وتضحية وفداء، وتماسك وإخاء. الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك www.yousefsalama.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©