الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا خير في تفكر بلا نفع ولا عبرة لتأمل لا يقود إلى بر

لا خير في تفكر بلا نفع ولا عبرة لتأمل لا يقود إلى بر
16 سبتمبر 2011 01:34
لعل من نافلة القول إن نقول بأن الأشياء إذا خلت من الثمرات والفوائد عدمت قيمتها وأصبحت لغوا لا خير فيه. ومن ثم نقول بأنه لا خير في تفكر لا نفع فيه، ولا عبرة بتأمل لا يجلب نفعاً ويقود إلى بر، وهذا ما يرشدنا إليه ذاتية النهج فى القرآن الكريم، فمثلا العقل كأداة للتفكر والتبصر والتأمل لم يرد البحث فى ماهيته، والتقعر حول كنهه وحقيقته، وإنما ورد الحديث عنه وعن مشتقاته بصيغة الفعل (يعقلون، تعقلون، تتفكرون، يتذكرون) وكأن الله يقول للإنسان تعلم فى تعاملك مع حقائق الأشياء أن تقول أما بعد ، فقد أعطيتك عقلا فماذا أنت فاعل به ؟ وعلى هذا فليس المهم من وجود العقل أن نبحث فى جوهره وماهيته، وإنما المهم أن نقطف الثمرة من وجوده فى الكيان الإنسانى، ونفعل العمليات الإدراكية التى يمكن أن يقوم بها فى صفحة الواقع ومجالات الحياة. ولقد ضرب الحق سبحانه وتعالى لثمرات التفكير مثلا عمليا فى كتابه الكريم حين قال (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لّأولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) 190-191 آل عمران . الماهية والجوهر ثم نجد الحق سبحانه لم يقف فى حديثه عن التفكر عند حد الماهية والجوهر، وإنما تعدى ذلك إلى الثمرة والفائدة التى تقود الإنسان إلى مطلق التسليم والانقياد لعظمة الله وجلاله، إذ ينطق بلسان الحال والمقال بعد إمعان العقل فى الكون والتفكر فى مشاهده العلوية والسفلية (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) آل عمران 191. من هذا ندرك أن التفكر فى معناه يمكن أن نعرفه بأنه «عملية من الإدراك يقف من خلالها العقل الإنسانى على العلاقة الحاصلة بين الشاهد والغائب» . وهنا تكون ثمرة توليد الأفكار لدى التأمل فى شاخصات الوجود وشواهد الأكوان . إن من المسلم منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها أن ثمرة التفاح إذا ما فارقت الأغصان سقطت على الأرض ولم نسمع بها أنها ترتفع ذات يوم إلى عنان السماء ، لقد رأى البشر ذلك بأعينهم منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها بيد أن نيوتن استطاع أن يولد من ذلك المشهد فكرة الجاذبية وما يحكمها من قوانين أسهمت فى تقدم منجزات العلم ومكتشفات العلوم ، وما أتى به نيوتن هو منهج الإسلام وديدن العظماء فيه ، ألم يقل الحق سبحانه (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) الحشر:2 . ألم يقرر الحق سبحانه فى كتابه أن عمى البصيرة ينعدم معه مراتب الاتعاظ ومنازل الاعتبار فقال سبحانه (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) يوسف 105. من سيرة الأولين ألم يأتنا فى زبر الأولين أن الناس قد مروا على بئر بدر غدوا وعشيا فلم يروا فيها غير مصدر للسقيا والشراب، بيد ان النبى صلى الله عليه وسلم رأى فيها أن السيطرة على موارد المياه مصدر قوة للجيوش فى المعارك والخطوب، فاستخدمها فى حرب المشركين يوم بدر فشرب المسلمون ومنعوا أعدائهم حتى أنهكوا وكان ذلك من أسباب النصر عليهم. وقرأنا كذلك أن الحسن بن الهيثم سجن فى دار بأمر من الخليفة بعد أن ادعى الجنون، وكان قد أمر الخليفة بصنع ثقب فى الباب يراقب منه ابن الهيثم فتسلل الضوء من هذا الثقب الصغير، وكم تسلل الضوء فى بيوتنا من ثقوب- بيد أن ابن الهيثم تفكر فيما وراء ذلك فاستنتج قوانين الضوء واكتشف القمرة_الكاميرا_ مما كان سببا فى اكتشاف الكثير من قوانين الفيزياء فى العصر الحديث. ثمرة التفكير وقرأنا أيضا أن الرازى الطبيب قد كلف بتحديد أنسب مكان يبنى فيه مصحة لأصحاب الأمراض فنثر قطع اللحم فى أماكن متفرقة فى البلدة التى يقيم فيها ثم كان من ثمرة تفكيره أن المكان الذى يفسد اللحم فيه آخرا هو أنسب الأماكن نظرا لقلة الميكروبات والبكتيريا فى أرضه وهوائه. وهكذا أثمر الفكر عند عظمائنا فى علوم الحياة وأمور الدنيا. أما فيما يتعلق بأحوال الآخرة فكم مر سلفنا الصالح على كثير من مظاهر الوجود فرأوا لله فيها آية، ولله عليهم فيها نعمة فكم رأينا الثلج ينزل من السماء ، وكم شاهدنا أسراب الجراد تملأ الهواء، وكم علت الأصوات بالأذان فى الصباح والمساء ، لقد نظرنا إلى هذه الأشياء على أنها من مظاهر الكون وعادات الحياة ، بيد أن رابعة العدوية تقطف من هذه المظاهر ثمار الأفكار، وخواطر التأملات ، فالثلج كما تقول يذكرها بتطاير الصحف على رؤوس الأشهاد ، والجراد يذكرها بخروج الناس من الأجداث بين يدى الله (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) القمر:7 . وعلو الأصوات بالآذان يذكرها بأذان القيامة الذى قال الله تعالى عنه(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الأعراف 44. ويأخذنا الحديث إلى مشهد آخر نشم فيه رائحة اللحم حال الشواء، فلا يجد كثير منا فيه سوى نشوة المشهد وشهوة الرائحة، بيد أن بشر الحافى يقف أمام دكان الشواء فى غدوه ورواحه، فيذهب إليه صاحب الدكان ويقول له: ألك حاجة فيما أصنع فيقول له لا ولكنى أسمع أزيز لحم شواءك، وأشم رائحته وهو ميت فأتذكر كيف يكون لحمى إذا ما دخلت النار فى الآخرة وأنا حى، ويأخذنا مشهد آخر نرى فيه نور المصباح وانطفاءه فلا نرى غير انقطاع الكهرباء إلا أننا نقرأ فى سير الصالحين أن غلاماً يعلو صوته بالصراخ عندما تطفىء أمه المصباح فتحسب الأم أن ولدها به مس من جنون فتذهب إلى شيخه وتخبره عن حاله ثم يسأل الشيخ الغلام فيقول له الغلام عندما تطفىء أمى المصباح وتظلم الدار أذكر يوم أن أدخل القبر وحيداً ويكسونى فيه الظلام فيعلو صوتى بالصراخ . من أجل هذه المظاهر وغيرها وجدنا من العلماء من تتبع تفاصيل الحياة ليقطف منها ثمار العبر والأفكار فيرى مثلاً أن طول عنق الزرافة يتناسب مع موضع طعامها فى أطراف الأشجار ومن ثم ألف الجاحظ كتابه ( الدلائل و الاعتبار ) . إن مظاهر الحياة التى تأخذ بلب الإنسان وتثير التفكر لديه كثيرة كثيرة ، فكم شاهدنا الرضيع يتجه إلى ثدى أمه ولكن هل فكرنا من الذى ألهمه بأن هذا هو موضع الطعام ؟ ! وبالأمس القريب ارتفعت أصواتنا بالدعاء إلى الله قائلين : اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان . وأتى رمضان ومرت أيامه وانقضت لياليه، فمن الذى قطف ثمار الأفكار وقال لنفسه بلسان الاعتبار سبحان الله كم أن هذا العمر وإن طال قصير، وكم تطوى الأيام وتفنى الليالى وينتهى العمر بالإنسان وينشد ما ترنم به إليا أبو ماضي فى صوفيته حين قال : أنـــت للأرض أولاً وأخـيـــــرا كنت ملكاً أم كنت عبداً ذليلا لا خلـود تحـت الســماء لحـى فلمــاذا تــراود المســـــتحيلا كل نجــــم إلى الأفــول ولكـن آفة النجم أن يخــاف الأفـــولا وبعد ، إن مظاهر الكون والحياة التى تستثير الفكر لا حد ولا منتهى لها فهى دائمة بدوام ملك الله، ولكن (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) العنكبوت: 43 . د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©