الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خشونة ناعمة

خشونة ناعمة
11 سبتمبر 2013 20:36
آخر التشكيليين في هذه القراءة للمشهد الفني في معرض الصيد والفروسية، أعمال الفنان الإيطالي العالمي كاسترو كازارو، المتأثر إلى حد كبير بجماليات المدرسة الكلاسيكية الإيطالية، ولمسات من طراز التعبير الأفريقي، قدم لجمهور المعرض نحو 26 لوحة، عنيت بشكل رئيس بالحيوانات التراثية، مثل: الجمال، الخيول، الغزلان، الأسود، النّمور، الفيلة، وبعض مفردات الصحراء العربية. لكن جميع لوحاته في الواقع تفيض جمالا وإحساسا، وهي أيضا شديدة الخصوصية، وتحمل من عناصر الدهشة والإبهار الكثير، ونعتقد أن مشاهدة واحدة لفهم أعماله لا تكفي، فهي مغرقة في التفاصيل الملحمية التي تحتشد في اللوحة الواحدة، كما أنّك يمكن أن تقرأ كل لوحة من زاوية مختلفة وتفسير مختلف ولعل ذلك هو سر عبقرية وموهبة كازارو، المتيم إلى حد العشق بالألوان الساخنة، وتجزأتها في اللوحة إلى أكثر من لون على طريقة المونتاج السينمائي. يجيد هذا الإيطالي الساحر، بريشته المرنة، طريقة التجسيد في اللوحة، وبلا ريب أنك لو زرت هذا الجناح ستقف مشدوهاً، وأنت تراقب قافلة الجمال الأفريقية الضخمة، في مشهد ملحمي أقرب إلى المشاهد الدرامية، حركة الجمال، تلاصقها، خوفها، قلقها، نظراتها المفزوعة المتأملة في ذات الوقت، ثم هذه السيطرة الرائعة للونين الأصفر والبرتقالي الخفيف المتدرج، على أرض صحراوية مغبرة، مضطربة، كل هذه العناصر والرؤية الفلسفية شكلت في النهاية (لوحة خشنة)، بالتوازي مع خشونة الحالة الصحراوية التي شكلتها ألوان خاصة تم تصنيعها بطريقة تتناسب وقيمة وأسلوبية مثل هذا النوع من اللوحات متعددة العناصر والتفاصيل. لوحة “قافلة الجمال وموكب الصقور”، في الواقع هي أكثر من لوحة، هي مشهد سينمائي صحراوي متكامل إذا جاز لنا التعبير، فهنا قافلة من الجمال تتهادى عبر الصحراء، ويتقدمها موكب للصقور، وثمة رجال ونساء، يرافقون هذا المشهد الغني بتفاصيله ودلالاته ورموزه، لكنك إذا أمعنت النظر في هذا العمل الدرامي المرسوم ستجد أن فكرة الرحيل هي إحدى الثيمات الرئيسية المسيطرة على أجواء التعبير المشهدي، وأن الرسم والحركة وسير الفرشاة متدفق بصورة تكاد تكون متماهية مع حركة الجمال العابرة للصحراء. هل شاهدت خيولاً بيضاء جميلة، تجتاز سفحاً ترابياً؟ إذا لم يكن كذلك، فستجد مثل هذا المشهد المثير في رسومات كازارو، التي ربما تحمل الطابع الأوروبي، إلا أنها تحتفظ بلمسة شرقية، فهذه الخيول، تكاد تكون عربية الهوية والأصل، من الشكل والإيقاع والحركة وطبيعة الألوان، حتى هذه الفيلة الضخمة، التي تكسر أديم الأرض بأقدامها، ذات نكهة شرقية بألوانها على الأقل، ويبدو أن هذا الصراع الداخلي يتجسد في لوحات هذا الإيطالي الشغوف ببيئة غير بيئته، في سياق تصديره للوحات هي بالمجمل غير تقليدية ومواضيعها وشكلها يصلح لأن يكون جداريات، أكثر مما هي لوحات متوسطة القياس. يخرج كازارو عن النص، فيرسم لنا بيئة عربية بدوية بكل المقاييس في لوحته التي عنونها بـ”سحر الشرق”، فماذا في سحر الشرق بعيون إيطالية: هنا بيت شعر (خيمة عربية)، يجلس أمامها بدوي، والنيران مشتعلة أمامه، فيما تتصدر (دلة القهوة العربية) المشهد بكل فضاءاته ومخيلته، وقد تركت في اللوحة مساحة كبيرة من الفراغ أمام الخيمة، في محاولة لتحقيق هوية وابعاد المكان، وما تحتفظ به اللوحة ورجلها البدوي بمساحة من التأمل، حيث زرقة السماء، التي توحي بأننا في لحظة خاصة. مزج الرسام في تنفيذه هذه اللوحة بالزيت جملة من الألوان مثل البني، الأصفر، الأسود، الرمادي، الأزرق الفاتح، والأبيض، ورغم كل هذا الخليط من الطيف اللوني، إلا أن كازارو لا يرسم بانفعال، بل هو شديد الدقة والانتباه في توزيع المساحات بطريقة جمع العناصر والمفردات التشكيلية في كادر واحد. لقد كانت لوحة “البدوي أمام خيمته”، قطعة رائعة أشبه بسيمفونية صحراوية، يطغى فيها الفعل الإنساني على الشكل، كما تتآلف فيها المفردات والعناصر وتناسق الألوان بطريقة مبهرة. نعتقد في النهاية ونحن نتحدث عن ملحمية تشكيلية إيطالية في أبوظبي، أن كاسترو كازارو، قد ترك علامة وبصمة واضحة في هذا المعرض، لأنه قدم لنا درسا ثقافيا واعيا في ماهية التشكيل العالمي، حينما يتحدث بلغة مختلفة، فعالمه الفني الساحر، يتميز بقوة التعبير والثراء، ودقة المعرفة في توزيع التنويعات اللونية في لوحاته، مع تماسك عناصره، الفنية، وجرأته العالية في تطويع اللون. يقول كازارو: إن تجربته بهذه الصورة المتقدمة، تحققت من منطلقات عدة، أهمها زيارته المتواصلة إلى أفريقيا، وإطلاعه على التجربة الحياتية في عديد بلدانها وبخاصة جنوب أفريقيا، وجانب من الحياة الإبداعية والثقافية هناك، “وقد ساعدني ذلك على الغوص في الأشكال والمخلوقات، وبخاصة الحيوانات التي نقلتها بتأثيرات مختلفة في لوحاتي، التي بدت وكأنها قادمة من عالم آخر، أو كأنها ليست من العالم الأرضي”، وهذا ما حقق للتجربة صقلها المطلوب وغرائبيتها في الشكلانية، الخارجة عن السائد والجاذبة للجمهور العربي. وربما يكون كازارو في تقديري هو من أفضل من رسموا بالزيت في هذا المعرض، بعد أن تابعنا في جناحه أعمالاً أثيرية خلاّبة، بريشة فنان يملك تجربته وأدواته. نفحات منصور الحتاوي.. تراثية قدّم التشكيلي منصور الحتاوي في جناحه نحو عشرين لوحة، تحت عنوان "نفحات من التراث". ويلفت الحتاوي الانتباه إلى أنه رسم موضوعاً واحداً، هو الخيول العربية الأصيلة في إطار الأسلوب التجريدي، فهنا مثلاً لوحة تجسد ثلاثة خيول جامحة في الهواء، أما الترتيب والتنسيق الحركي لهذه الخيول، فيشكل جمال اللوحة، وقيمتها الفنية والفكرية، أما الأهم من كل ذلك، فهو وعي الحتاوي بتشكيل المشهدية البصرية. فهذه الخيول الجامحة المتمردة، التي تتبدد ملامح تفاصيلها بفعل ضربات لونية ممشوقة، شكلت نوعاً من الغبار من حول هذه الخيول، ولك أن تتأمل كل هذا الجمال، وكل هذه الحركة المفعمة بتفاصيل لونية تجمع بين الرمادي والأسود والأبيض، لتكتشف من خلال ذلك أن هناك الكثير من الأفكار المتصارعة المتداخلة بين الرّقة والعنف. ثمة لمحات رومانسية متدفقة في خيول الحتاوي، وبخاصة حينما يرسم الفرسة البيضاء، بكامل نقائها وبهائها وأصالتها، فما الذي كان يرمي إليه من وراء رسم فرسة بيضاء متأملة الفضاء؟ إن كل عناصر اللوحة تجيب على السؤال، فالفرسة المرسومة هي عربية اصيلة بمواصفات جمال الرأس وقصر الأذنين، العيون الواسعة، الجبهة العريضة، العنق الممشوق، الذيل المميز الذي يرتفع إلى أعلى من مستوى الظهر، عند حركتها وكأنها تختال بهذه المميزات الفريدة، التي تعتبر ملامح مثالية، وكأنها في لوحات الحتاوي فروسية التاريخ تشرق على الحاضر، بكل هذا البهاء والرونق، وجدت الخيول البيضاء الرشيقة طريقها إلى المدرك البصري للجمهور الذي أحب هذه الخيول التي بدت مثل أحلام الصحراء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©