الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الألبيري: هذه حكايتي مع الوزير اليهودي

الألبيري: هذه حكايتي مع الوزير اليهودي
11 سبتمبر 2013 20:38
لم أستطع رغم كل جهودي أن أختصر عطاء الشاعر أبو اسحق الألبيري الغرناطي الأندلسي في الحلقة السابقة، ووجدت أن ذلك العطاء الشعري المتميز يستحق حلقة أخرى، فأبو إسحق ليس شاعراً عادياً، بل كان إحساساً حافظاً متبحراً في العلوم الشرعية والفقه والقراءات القرآنية. وهذا أعطى شاعريته خصباً غير عادي.. كان أبو اسحق الألبيري تلميذاً لعدد من علماء وفقهاء عصره وصار في الوقت نفسه معلماً وله تلاميذ ومريدون كثر. وتبرز أهمية أبو اسحق الألبيري لكونه عاش في الأندلس في فترات شهدت فيها تلك البقعة تطورات سياسية مصيرية انتهت بالانهيار الكبير المتمثل في سقوط طليطلة سنة 478 هـ أي بعد وفاته بستة عشر عاماً. ومن هذه الحياة التي عاشها شاعرنا وجسدها في شعره نستطيع أن نأخذ صورة واضحة جلية عن تاريخ العرب في الأندلس. ولد أبو اسحق الألبيري، كما قلنا في عام 375 هجرية الموافق لـ 985 ميلادية. وجد أبو اسحق أن مجتمعه الأندلسي يسير في طريق الانهيار، حيث انغمس الجميع بملذات الدنيا وتقاعسوا عن بناء الوطن وتماسك المجتمع وأدرك أن العودة إلى الإيمان والتمسك بحبل الله هو طريق النجاة الوحيد ليس في الآخرة فحسب بل في الدنيا والآخرة. لم يكن كبقية شعراء عصره مداحاً للملوك والأمراء، أو شتاماً لأحد.. بل كان داعية من دعاة الزهد في زمن كان المجتمع الأندلسي فيه يعيش حياة الرخاء والبذخ.. اسمعه وهو يقول: أتيتكُ راجياً ياذا الجلال ففرّج ما ترى من سوء حالي عصيتك سيدي ويلي بجهلي وعيب الذنبِ لم يخطر ببالي إلى من يشتكي المملوك إلا إلى مولاه يا مولى الموالي لعمري، ليت أمي لم تلدني ولم أغضبك في ظلم الليالي فها أنا عبدك العاصي فقيرٌ إلى رحماك فاقبل لي سؤالي وقد ذكرنا في الحلقة الماضية قصيدة أبو إسحق الألبيري الشهيرة المسماة بالتائية، وهي في الواقع قمّة من قمم الشعر العربي في الأندلس.. ولا تشذ تلك التائية عن الاتجاه الذي سار فيه شعر ذلك الشاعر العظيم. فهو يصف حياة الدنيا برحلة عبور لا دوام لها ولا استقرار فيها، يقول: سجنت بها وأنت لها محبٌ فكيف تحب ما فيها سجنتا وتطعمك الطعام وعن قريبٍ ستطعم منك ما فيها طعمتا ولم تخلق لتعمرها ولكن لتصبرها فجدَّ لما خلقتا لا أستطيع وأنا أقرأ ديوان أبو اسحق أن أكتم ضجيج الأسئلة التي تتسابق في فكري. وعلى طريقتي، استحضرت في خيالي الشاعر أبو اسحق الألبيري وكانت لنا هذه الجلسة الخاصة: ? ما الذي دعاك إلى نبذ الدنيا وملذاتها لتعيش حياة الزاهد الناسك؟ ? ? إنه الموت.. ? أكنت تخاف منه؟ ? ? بل كنت أخشى ما بعده.. فالحياة رحلة عبور، والموت باب حياة أخرى لا تنتهي.. وخوفي كان أن أعبر ذلك الباب دون مؤونة تكفي لخلود سعيد لا لشقاء خالد.. ? وماذا قلت في الموت يا أبا اسحق؟ ? ? أقول وقد بدأت أحس بطرقاته على باب روحي: تغازلني المنيّة من قريب وتلحظني ملاحظة الرقيب وتنشر لي كتاباً فيه طيي بخط الدهر أسطره مشيبي أدال (1) الشيب يا صاح شبابي فعوضت البغيض من الحبيب وبدلت التثاقل من نشاطي ومن حسن النضارة بالشحوبِ كذاك الشمس يعلوها اصفرارٌ إذا جنحت ومالت للغروبِ ? واضح أنك قلت هذه القصيدة وقد بلغت من العمر عتيا.. ? ? ولكنني تنبهت إلى الموت حتى وأنا في ريعان الصبا. ? كيف؟ ? ? كم من الشعراء أصغوا إلى الحمائم وهي تهدل فوصفوا ذلك الهديل بالنواح.. فشاركوها ذلك الهديل وناحوا إما على حبيب مفارق، أو حرية ضائعة.. أما أنا... ? أنت أيضاً بكيت مع الحمائم.. ? ? صحيح ولكن لسبب مختلف.. ? ما هو يا أبا اسحق؟ ? ? اسمع يا ولدي.. أحمامة البيدا أطلتِ بكاكِ فبحسن صوتك ما الذي أبكاكِ إني أظنك قد دهيت بفرقةٍ من مؤنسٍ لك فارتمضت (2) لذاكِ لكن ما أشكوه من فرط الجوى بخلاف ما تجدين من شكواكِ أنا إنما أبكي الذنوب وأسرها ومناي في الشكوى منال فكاكيِ وإذا بكيت سألت ربي رحمةً وتجاوزاً، فبكاي غير بكاكِ وهنا لم أستطع إخفاء ذلك السؤال المحرج الذي حاولت كتمه طوال جلستي مع الشاعر فقلت: ? هل كنت ضد اليهود؟ وكأنني ألقيت في وجهه تهمة ظالمة، فرأيته ينهض غاضباً ويقول: ? ? أعرف أنك تحاسبني الآن عن قصيدتي التي أثارت الناس وجعلتهم يقتلون ذلك الوزير اليهودي يوسف بن النغريلة.. ? أنا لا أحاسبك ولكنني أريد أن أعرف موقفك. ? ? اسمع يا ولدي... يكفي أن تعرف أننا كمسلمين، كنا أكثر من قدم لليهود الحماية والدعم.. وأنهم عاشوا معنا وتكلموا لغتنا وتمتعوا حتى بثقتنا التي جعلت الملك باديس بن حبوس يختار منهم ذلك المدعو يوسف ابن إسماعيل بن النغريلة لمنصب الوزير الذي كان بمثابة الأداة التنفيذية للحاكم أو الملك.. وفي الأندلس، يا ولدي، كثير من أمثال ابن النغريلة، ولكنهم لم يكونوا بالسوء ولا الطمع الذي كان ذلك الوزير عليه، فأنا أذكر بعض كتابهم وعلمائهم الذين ألفوا الكتب في دينهم وباللغة العربية دون أن يعترض عليهم أحد.. ? مثل من؟ ? ? مثل إبراهيم بن داود المؤرخ والفيلسوف اليهودي وله كتاب “العقيدة الرفيعة” باللغة العربية ترجم فيما بعد إلى العبرية. ? ومن أيضاً؟ ?? إسحق بن عزرا بن شفروط المعروف بحسداي بن شفروط، وقد عاصرته وهو طبيب وراع للعلوم وكبير أحبار اليهود في الأندلس. ? وماذا كان يعمل وأين كان يعيش؟ ? ? عاش في قرطبة وعمل سفيراً للخلفاء الأمويين إلى الدول الأجنبية. ? وأنت؟ ?? قصيدتي لم تكن إلا ثورة على باديس الذي سلم ذلك المحتال أمور الدولة وجعله يتحكَّم بعباد الله ويمارس الظلم والاستبداد وسرقة المال العام. ? قصيدتك تلك كانت ثورة أنهت قتله. ? ? ثورة على ظالم وليست على اليهود.. اليهود في كل العصر الأندلسي عاشوا بيننا ومعنا في حمايتنا وتمتعوا بممارسة التجارة ونجحوا فيها. ? لأعد إلى القصيدة نفسها.. ما قصتها؟ عاد أبو اسحق إلى الجلوس مهدئاً من ثورته متذكراً تلك الأيام البعيدة.. وقال: ? ? لهذا الوزير اليهودي يوسف بن إسماعيل بن النغريلة قصة في دولة باديس بن حبّوس. كان لذلك الملك باديس كاتبٌ بارع يعرف بأبي العباس وهذا الكاتب لديه سلطة الوزير وصلاحياته، وكان له كاتب آخر يساعده ويعمل لديه كمدير مكتب في إدارتكم الحديثة مدير المكتب هذا كان يهودياً وهو إسماعيل بن النغريلة والد يوسف.. وعندما توفي أبو العباس أقام باديس مكانه أحد أبنائه (أبناء باديس) وكان ذلك الابن شاباً كسولاً لا يتابع العمل الإداري، وظل مدير مكتب الوزير السابق في عمله مع الوزير الجديد الذي هو ابن الملك غير المهتم بعمله واستطاع إسماعيل بن النغريلة بعد فترة أن يصبح هو الوزير الحقيقي ويقنع باديس بالاعتماد عليه هو لا على ابنه الغر. ولما توفي إسماعيل خلفه يوسف وكان مع الأسف أقل كفاءة من أبيه وأقل قدرة على خدمة الناس أيضاً. ? كان طاغياً ومستبداً وناهباً للمال العام؟ أهذا ما أثارك؟ ? ? بل ما أثارني منه هو تجرؤه على الخوض في مسائل إسلامية من خلال كتاب ألفه تصدى له علماؤنا ومنهم ابن حزم في كتابه الرد على ابن النغريلة، كاشفاً فيه جهله وتطاوله وطغيانه. ? إذن هذا هو السبب الحقيقي لثورتك. ? ? السبب الحقيقي لم يكن ابن النغريلة. ? من إذن؟ ? ? إنه باديس بن حبوس الذي سمح لمثل هذا الرجل أن يكون وزيره فأساء إلى نفسه وإلى المسلمين جميعاً. ? ولماذا بدأت قصيدتك بمخاطبة صنهاجة؟ ? ? لأن صنهاجة هم قوم باديس وهم الذين يجب أن يعرفوا أين وصل زعيمهم وكيف اعتمد على وزير متآمر جاهل. ? وماذا تختار لنا من هذه القصيدة الطويلة؟ ? ? اسمع يا ولدي.. كان الزمان عام 459 هجرية والمكان غرناطة والقصيدة: ألا قل لصنهاجةٍ أجمعينْ بدور النديّ وأُسْدُ العرينْ لقد زلّ سيدكم زلّةٌ تقرُّ بها أعينُ الشامتينْ تخيَّر كاتبهُ كافراً ولو شاء كان من المسلمينْ أباديس أنت امرؤ حاذقٌ تصيب بظنِّك نفسَ اليقينْ فكيف اختفت عنك أعيانهم وفي الأرض تضرب منها القرونْ وكيف يتم لك المرتقى إذا كنت تبني وهم يهدمونْ وكيف استنمت إلى فاسقٍ وقارنته وهو بئسَ القرينْ وإني احتللت (3) بغرناطةٍ فكنت أراهم بها عابثينْ وقد قسموها وأعمالها فمنهم بكل مكانٍ لعينْ وهم يقبضون جباياتها وهم يخضمون (4) وهم يقضمونْ وهم يلبسون رفيع الكسا وأنتم لأوضعها لابسونْ ويأكل غيرهُم درهماً فيقصى ويدنون إذ يأكلونْ ورخّم قردُهُم داره وأجرى إليها نمير العيونْ فصارت حوائجنا عنده ونحن على بابه قائمونْ ويضحك منا ومن ديننا فإنا إلى ربنا راجعون شرح الألفاظ: 1 - أدال: أزال أو بدّل 2 - ارتمضتِ: الرمض شدة وقع الشمس على الرمل وغيره.. والرمضاء: الحارقة. 3 - احتللت: أقمت. 4 -: يخضمون: يأكلون بجميع الفم (الشراهة في الأكل). المراجع: 1 - ديوان أبو اسحق الألبيري/ الدكتور محمد رضوان الداية. 2 - مختار الصحاح ـ أبو بكر الرازي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©