السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المسكونون بالمكان الأصلي

المسكونون بالمكان الأصلي
9 سبتمبر 2015 22:50
في خريف عام 1933، تلقى الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر(1889-1976) دعوة للتدريس في جامعة برلين. غير أنه رفض تلك الدعوة وكتب نصّا شاعريا بديعا بعنوان: «وحدها الغابة السوداء تلهمني» فيه يقدّم تبريرات رفضه للدعوة المذكورة مشيراً في البداية إلى أنه مرتبط روحيّا وفلسفيّا بالبيت الريفي الذي دأب على العمل، والتأمل فيه. ويقع هذا البيت على القمة الأكثر ارتفاعاً في «الغابة السوداء» الواقعة في الجنوب الغربي من ألمانيا. في هذا المكان المنعزل، يشعر هايدغر بأنه «متجذّر» في العالم العميق للثقافة الألمانية في جانبها الزراعي الذي يتميّز ببساطة في العيش. وحول البيت الريفي، على المنحدر الوعر، تنتشر الضيعات ذات السقوف الكبيرة، والمائلة، وتكثر حقول الرّعي. يقول هايدغر: «أنا لا أتأمل فقط المنظر الطبيعي المحيط بي، بل أحسّ تحولاته من ساعة إلى أخرى، ومن الليل إلى النهار، خلال تعاقب الفصول. إن ثقل الجبال، وصلابة صخورها القديمة، والنموّ المحترس لأشجار التنّوب، والبهاء المضيء للحقول المزهرة، وهمس السيول في ليل الخريف الطويل، وأيضاً البساطة الصارمة للمساحات المغطاة بثلوج كثيفة تتسرب كلّها إلى الحياة اليومية هناك في الأعالي، وفيها تتجمّع، وتتراكم وتتموّج، ليس في اللحظات التي نريدها أن تكون لحظات انغماس في المتعة، ولحظات تحقيق الذات المصطنعة، وإنما فقط حين يكون وجودي في حالة تأدية عمله». مكان ضدّ الرتابة يرى هايدغر أن العمل الفلسفي يصبح فريداً من نوعه عندما يتمّ وسط عالم المزارعين الذين يجلس معهم من حين إلى آخر، ومعهم يدخن الغليون في صمت. وفي هذا العالم، هو لا يشعر بالرتابة ولا بالضجر. وهو يعيش وحدته بمتعة لا يمكن أن يشعر بمثلها في مدينة كبيرة مثل برلين حيث بإمكان المفكر أو المبدع أن يحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات، غير أنه لا يمكن أن يحصل على السعادة الروحية التي تمنح عمله البعد الإنساني الحقيقي. وفي نصّه المذكور، يعبر هايدغر عن أسفه الشديد لموت عجوز كانت تروي له حكايات قديمة توشك على الانقراض بسبب وسائل الإعلام والترفيه الحديثة. وكانت هذه العجوز تحافظ في لغتها القوية والموحية على الكثير من الكلمات التي باتت نادرة الاستعمال. لذلك يعتبر صاحب «الوجود والزمن» أن ذاكرة هذه العجوز أكثر قيمة من كل ما تروجه وسائل الإعلام في المدن الكبيرة، ذلك أن العالم المدينيّ «مهدّد بخطر كبير، خطر أن يصبح فريسة للبدع القاتلة». وهو عالم «متعجل ومزعج، وصاخب، ونشط جدا، ويبدو غير مبال ببقية العالم». لذلك رفض دعوة جامعة برلين لأنه يريد أن «يسمع ما تقوله الجبال، والغابات، والضيعات». غير أن التعلق بالمكان الأصلي، لم يمنع هايدغر من التحاور مع العالم، ومن طرح القضايا الشائكة التي تعيشها الإنسانية.وفي كتابه البديع «داغستان بلدي»، يكتب رسول حمزاتوف (1923-2003) قائلا: «أحمل شوقي وحنيني إلى وطني حيثما ارتحلت. أتطلّع إلى وطني من شبّاك قفصي. لا يمكن أن يكون كاتب من دون وطن. ونحن لسنا الذين نختار أوطاننا، وأنما الوطن هو الذي يختارنا منذ البداية. لذلك على كلّ إنسان أن يدرك منذ صباه أنه جاء إلى العالم ليكون ممثلًا لشعبه، وعليه أن يكون مستعدّاً لتحمل أعباء مثل هذه المهمة». أول منزل سقت هذين المثالين لكي أشير إلى أن لكلّ مفكر، أو فيلسوف، أو مبدع في أيّ مجال من المجالات، مكاناً أصليّاً فيه يولد، وينشأ، وينمو، ومنه ينطلق إلى العالم الرحب لأن هذا المكان هو من العالم وبالتالي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون منفصلا عنه. وليس باستطاعة المنتمي إليه أن «يتمترس»، و»يتحصّن» فيه. فإن هو فعل ذلك، عاش في ضيق ومات في ضيق أيضاً. فلا يترك ما يمكن أن يجعله حاضراً في ذاكرة وطنه، ولا في ذاكرة العالم. ومنذ البدء، عكس التاريخ الفكري والثقافي مثل هذه الحقائق. وعندنا في أدبنا العربي أمثلة كثيرة على ذلك. فقد جعل نجيب محفوظ من القاهرة التي ولد فيها، ولم يغادرها طوال حياته النافذة التي أطل منها على العالم. وفي أعماله التي وصف فيها حياة الناس البسطاء في الحواري الفقيرة، وفي الأزقة الضيقة، يجد القارئ بقطع النظر عن الثقافة التي ينتمي إليها، واللغة التي يتكلم بها، ما يثري خياله، ويغذّي فكره، ويصور له جوانب من الحياة البشرية، ومن تجلياتها. وفي النهاية كان نصيبه جائزة نوبل للآداب التي توج بها عام 1988. وتتحرك شخصيات الطيب صالح في قرى فقيرة على ضفاف النيل، وجلها تجهل القراءة والكتابة، وتعيش شبه مقطوعة عن الحضارة الحديثة، غير أنها تمتلك تلك الحكمة التي تثير الدهشة والإعجاب لدى القارئ في المدن الكبيرة الصاخبة مثل نيويورك، أو طوكيو، أو لندن، أو باريس، أو شانغهاي، أو بيونس آيرس، أو نيو دلهي. وكان الطيب صالح يقول: «لقد حولت القرية السودانية إلى عالم شاسع فيه تدور أحداث (أوديسيّتي) القروية». وكان المغربي محمد شكري يقول إنه (كاتب طنجاوي) أي من طنجة، إذ أن جل أحداث قصصه وروايته تدور في هذه المدينة، وفي الضواحي القريبة منها. فلا نجد حضوراً قوياً لأية مدينة مغربية أخرى. مع ذلك، اخترقت أعمال محمد شكري المسافات بين مختلف بلدان العالم. البعيد القريب والتعلق بمسقط الرأس، وبالوطن، لا يعني البقاء فيه من البداية إلى النهاية. فقد يتركه المفكر، أو المبدع عن طواعية، أو عن كره غير أن هذا لا يعني أنه يهمله، وينفصل عنه انفصالاً نهائياً. فقد ترك جيمس جويس في سنوات شبابه موطنه ايرلندا «تلك السمكة المتزمّتة، القبيحة المنظر التي تأكل أبناءها» فلم يعد إليها أبدا. غير أنها ظلت حاضرة في كل أعماله خصوصاً في رائعته «أوليسيس» التي تدور أحداثها في دبلن في يوم واحد. وقد أشار جويس ذات يوم إلى أنه وصف مدينته بدقة حتى إذا ما هدمها زلزال أو طوفان، فإنه يمكن بناؤها من جديد اعتمادا على ما جاء في روايته المذكورة. وأغلب كتاب ايرلندا الكبار وشعراؤها من أمثال أوسكار وايلد، وصموئيل بيكت، وجورج برنارد شو، وويليام بتلر ييتس فعلوا ما فعل جيمس جويس. غير أن وطنهم الأصلي ظلّ يسكنهم حتى النهاية منيرا عالمهم، ومغذياً خيالهم. وفي المنفى، حوّل غاريال غارسيا ماركيز القرية التي ولد فيها والتي أطلق عليها اسم «ماكاندو» إلى رمز لكل بلدان أميركا اللاتينية، وتاريخها الموسوم بالعواصف، والحروب، والنزاعات العنيفة على مدى أجيال وأجيال. وقد ولد رامبو في مقاطعة «الأردان» القريبة من الحدود الفرنسية -البلجيكية.. وفي الكثير من قصائده تحضر هذه المقاطعة «ذات الجداول البنفسجيّة». ومبكرا أحس أنه لا بدّ أن يبتكر لنفسه «جغرافيا متحركة» بحسب تعبيره. لذلك فرّ من البيت العائلي محاولا أن يتخلص من الثقافة المسيحية التي كانت تسكنه، و»تسمّم دمه». وفي طرق أوروبا هو الذي كان يحب السفر راجلا، مزّق حذاءه، وعندما انقطع عن كتابة الشعر، فرّ إلى أفريقيا ليعود منها وهو يحتضر. وقد اختار الشاعر والناقد البريطاني كينيث وايت أن يعيش بعيدا عن بلاده. غير أن ذلك لم يكن يعني أنه انقطع عنها. وفي ذلك كتب يقول:”أنا لا أشعر أبدا أنني في المنفى. وأنا أمقت تفخيم المنفى. وإذا ما أنا أدرت ظهري لبريطانيا فلأنني أرغب في أن انصهر فيها من جديد. فالمسافة مع الاغتراب تعمق العلاقة بها. ثمّ إنني لا أشعر بأي حقد على بريطانيا. وقد تبدو لي الثقافة الانجليزية راهنا سطحية بشكل مفزع، ومبتذلة، غير أنها لم تكن كذلك من قبل. وربما لن تظلّ على هذه الحالة دائما. بل أنني أعاين أحياناً بعض التغيير، ورغبة في التغيير. ومعنى هذا أن هدف كينيث وايت لا يعني الانفصال عن ثقافة بلاده، ونفي وجودها، وإنما تجديدها. ولا يتمّ مثل هذا التجديد إلاّ بتطعيمها بثقافات أخرى يتغذى منها مترحلاً ومسافراً عبر العالم. وها هو في جبال تيان شان (جبال السماء)، وفي وادي تاريم الذي كان في زمن بعيد محطة على طريق الحرير، ومكاناً تلتقي فيه الثقافات المختلفة، الهللينية، والفارسيّة، والهندية، والصينية، وغيرها. لذلك هو يشعر أن وادي تاريم غذّى الثقافة الإنسانية أكثر مما غذّاها نهر الراين، أو التايمز أو الدانوب أو غيره من الأنهار الكبيرة في القارة العجوز. وقد يسعى المبدع إلى أن يكون العالم بأسره موطنه. وهذا ما سعى إليه الشاعر والروائي الكبير بليز ساندرارس الذي عاش حياته متنقلاً بين العديد من العالم. فكان في روسيا، وفي البرازيل، وفي الولايات المتحدة الأميركية، وفي إسبانيا، وفي بلدان أخرى كثيرة. وقد كتب ذات مرة يقول: «وضعي صعب للغاية وليس بالإمكان تحمله حتى النهاية. أنا حرّ. أنا مستقل. وأنا لا أنتمي إلى أيّ بلد، ولا إلى أية أمة، ولا إلى أيّ وسط، غير أنني متصالح مع نفسي». مع ذلك لا يمكننا أن نصف بليز ساندرارس بأنه «منبت»، وإنما هو مواطن كوزموبوليتي يرغب في أن تكون الأرض كلها موطنا له!. لكن لا بدّ من الإقرار بأن هناك نزعات شوفينية تنامت خلال العقود الأخيرة في أوروبا. وهي تتعامل مع ثقافات المهاجرين باحتقار، ما جعل بعضهم يتعصب لبلده وثقافته ويلجأ إلى العنف للدفاع عنها. أما في العالم العربي، فقد جاء ما سمي بـ «الربيع العربي» بظواهر خطيرة تتمثل في عودة الثقافة القبلية والعشائرية، وثقافة الملل والنحل، والعديد من المظاهر التي تهدد نسيج المجتمعات، والوحدة الوطنية داخل هذا البلد أو ذاك، مقيمة أسواراً لا بين المناطق، أو بين الشمال والجنوب، بل بين أهالي حيّ من الأحياء في مدينة كبيرة أو صغيرة. وهذا ما نعانيه في بلدان مثل العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، واليمن، وتونس، والجزائر. ونحن نلاحظ أن مثل هذه الظواهر تزداد استفحالًا يوما بعد آخر في غياب مثقفين ومفكرين قادرين على التصدي لها، والعمل على تقليص تأثيراتها على الأفراد، والجماعات، وعلى الشعوب بصفة عامة. وإذا ما استمرت الأوضاع على هذا الحال، فإن هذه الظواهر ستقوض كل محاولة لبناء مجتمعات جديدة تنعم بالديمقراطية، وبالحريات العامة والخاصة، وبالأمن والاستقرار. بل ستغرق العالم العربي في دوامة من الفوضى والعنف والتسيّب المدمّر. هايدغر: العالم المدينيّ مهدّد بخطر أن يصبح فريسة للبدع القاتلة رسول حمزاتوف: نحن لا نختار أوطاننا بل هي التي تختارنا الطيب صالح: حولت القرية السودانية إلى عالم شاسع فيه تدور أحداث «أودويسيّتي» محمدشكري.. كاتب طنجاوي مع ذلك اخترقت أعماله المسافات وجابت العالم جيمسجويس.. ترك في شبابه إيرلندا لكنها ظلت حاضرة في كل أعماله ماركيز.. حول قريته «ماكندو» إلى رمز لكل بلدان أميركا اللاتينية رامبو.. «الأردان» تحضر في قصائده وهو يبتكر لنفسه «جغرافيا متحركة» ردة فعل في الاتجاه الخطأ في مقابل المكان الأصلي المنفتح على العالم الذي رأيناه عند المفكرين والفلاسفة، لا بدّ من الإقرار بأن هناك نزعات شوفينية تنامت خلال العقود الأخيرة في أوروبا. وهي تتعامل مع ثقافات المهاجرين باحتقار. لهذا السبب كانت ردة فعل هؤلاء المهاجرين التمسك بثقافتهم الأصلية أكثر من ذي قبل. بل إن بعضهم أصبح متعصباً لثقافته الأصلية بشكل مفزع بحيث لا يترددون في اللجوء إلى القوة والعنف للدفاع عنها. وهذا ما تعكسه الأعمال الإرهابية التي يقوم بها متطرفون إسلاميون.. لكنهم في الحقيقة مخطئون لأنهم لا يفعلون شيئاً غير تشويه ثقافتهم الأصلية، وتفريغها من محتواها الإنساني، ومن كلّ ما يساعدها على أن تظلّ مفتوحة على الثقافات الأخرى، وعلى العالم بصفة عامة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©