الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ياسوناري كاواباتا..طيف من الفضاء

ياسوناري كاواباتا..طيف من الفضاء
9 سبتمبر 2015 22:50
وجه كاواباتا سنجابيّ التكوين والهندسة، يصطخب فيه بريق شيء خارق، إذ يتخطى أن يكون إنسانيا، فخيال مارق أو ظل شيطاني يهمس بأن الوجه قد يكون لكائن فضائي. الهشاشة المفرطة هي ما يشكل جسد كاواباتا المسرف في النحول، غير أن قوة خفية تشفع لوجهه، لا تتمرأى في نظرته الدامغة، بل في كثافة شعره والأشكال اللافتة التي تأخذها تسريحاته المثيرة. يبدو كاواباتا كهلاً حتى في عز شبابه، كما لو يحمل قدرا يابانيا أفدح من صخرة سيزيفية. حتى الابتسامة تضمر مرارة وسخرية لاذعة، ما من ابتسامة خالصة، وما من سيماء لابتهاج نقي. ما الذي يؤرق هذا الوجه الضئيل ويخدش طينته بآلاف الآلام الغائرة؟ شيئان يتناوبان على نحت وجه كاواباتا، وجهه المنحوت في شجرة البلوط: وحشية الصمت وضراوة الحزن. لا دهشة تقيم في نظرته الجليلة، النظرة الشبيهة برفيف طائر العقعق. لا فزع يرجّ عناصر الكيمياء في وجهه، وإن كان الموت قد أفرط في حفر أغواره وبالغ في حشوها بصفير رياح لا تهدأ حتى في أعتى مناماته الخفيفة جدا. كاواباتا إذ ينذر نفسه للمراثي الإنسانية الكبرى، هذا لا يعني أنه لم يعرف للابتهاج عنوانا. ففي الوجه ما يقول أن الرجل الهش والسمهري كعودٍ حُلج عن شجرة دفلى، خبِرَ لحظة الفرح الهاربة، غير أن البرق الذي تنطوي عليه اللحظة، أضاء له نفق الوجود، ورأى ما رأى، فانبرى لترجمة رؤاه قاطبة بلا هوادة. لا يشبه حزن كاواباتا إلا نفسه، ولا يشبه صمت كاواباتا إلا ذاته: هكذا يسند وجهه بيديه معا، فقد أثقلت بستان خياله الطيور الشاحبة على الدوام. سمرة كاواباتا في الصورة كأنها أثر عمليّ لما دخّنه في عمره من التبغ، طبعا لا يتعلق الأمر بمضاعفات السيجارة، هناك في النظرة الشاخصة ما يفصح عن منجم أغواره. إنها نظرة غائرة وليست ساهمة أو شاردة، نظرة تستأنف جراحة رصدها للشيء الغامض أمامها، متواصلة، ذات ديمومة وسيرورة... هناك خطب ما تومئ به الصورة التي تفصح عن كائن يشارك وجه كاوباتا كينونته ووجوده في المشهد. إنه نصب أو صنم أو وثن، ينتصب بوضعية أمامية ويشهر وجهه هو الآخر في الاتجاه الذي يرومه وجه كاواباتا نفسه. ليس محض اعتباط وجود النصب في الصورة، وليس محض عبث أن يملأ تلك المساحة ويزاحم صاحب الصورة في إنتاج المعنى عبر حضور أسطوري دالّ. وجه النّصْب له شكلُ قلب، بعينين مفتوحتين، يشرع ذراعيه كما لو كان صليبا أو يتعلق الأمر بوضع احتفالي ما. بالإمعان في وجه النصب تتضح طفرة الحزن التي تنضح بها ملامحه، خاصة ما يشع من عينيه أو طريقة رسمهما وحفرهما. هل يتعلق الأمر بنصب رمزي لديانة وثنية؟ هل الصنم محض تحفة فنية وعمل إبداعي يحظى بمكانة خاصة عند كاواباتا؟ هل يعقل أن يكون النصب شبيها بتميمة (ذات جذور شعبية في الموروث السحري الياباني) يتصدى بها كاواباتا لخطر محدق؟ هل النصب من ابتكار كاواباتا نفسه أم هو مجرد هدية من شخص محبوب؟ أليس النصب هو كاواباتا نفسه؟ أسئلة مندلقة ومتزاحمة في تدفقها، تثيرها علامة النصب التي أصرّ كاواباتا أن تصاحبه في المشهد العاتم للصورة. لا يمكن لمتأمل الصورة إذا أن تطمئن نظرته المصوّبة إلى وجه كاواباتا دون أن تنزعج بوجه النصب الصغير المنتصب في السفح. كأن حكاية وجه كاواباتا لا يمكن أن تكتمل إلا بحكاية النصب في الأسفل. ماذا لو أن النصب لا يعدو أن يكون تحفة جائزة ظفر بها الكاتب لا غير، فالتقطوا له الصورة معه واحتكاما إلى ذلك تبطل كل القراءة الحاشدة السالفة. لنفترض أنه تحفة جائزة، فما النسق الفكري والثقافي الذي يقف وراء اختيار شكل النصب كقطعة فنية؟ أسئلة لا يمكن الجزم في الرد عليها، لأن ما يهم هنا هو الصورة باستقلال عن خلفيتها الواقعية وظروف تحققها وحدوثها وزمن ومكان وقوعها... ما يهم هنا هو لعبة تخييل تستند إلى قراءة العلامة لا غير. سواء كان الأمر يتعلق بنصب جائزة، أو شيء آخر، طوطمي أو وثني أو علامة خزفية، فقد شاء قدر اللحظة الملتقطة في الصورة أن يتبادل وجه كاواباتا ووجه التمثال زخما دالا من الإشارات، يتخلّق معها نصّ طارئ، يحتمل أكثر من استكناه واستغوار، أكثر من استقراء واستبطان، أكثر من تفكيك وتأويل. كلاهما يبدوان كما لو يكملان بعضهما البعض، وكلاهما يتناغمان في خلق أفق دالّ توحده تجربة معنى مشتركة، وكلاهما يضفي على الآخر أو يسبغ عليه معنى جديدا، وكلاهما يتواشجان في صنع رمزية خاصة للحظة المبهمة. بعيدا عن النصب في أسفل الصورة، تستأثر يقظة وجه كاوباتا بالاهتمام، يقظة وإن يضبّب بلوريتها سديم أرق، تبقى مشحوذة ومنتعظة كأنها جاهزة ومهيأة لأي طارئ... الشيء الذي لا يمكن أن تخطئه نظرة المتأمل لوجه كاوباتا العجوز، هو غرابته كطفل، بلى، يبدو كاوباتا طفلا كبيرا أو طفلا شيخا، وهذا سر من أسرار الود والإعجاب الذي يمكن أن ينتاب أي شخص يصادفه ويسترعي انتباهه. هل هذا ما يبرر أيضا وجود النصب الوثني في سفح الصورة، أي لعبته كطفل كبير؟؟؟ الشيء الأخير الذي يقدح شررا في طيفيّة وجه كاوباتا، هو الإحساس الغريب المضاعف الذي ينتاب كل من صادفه (وفق اعتقادي طبعا)، على الأقل في الصورة، إحساس يقول بملء الريبة: أليس هذا وجه شبح؟ شبحية أو طيفية وجه كاوباتا النزق، ليست مفزعة، بل ودودة، ومألوفة، وغير مزعجة البتة. لذلك لم يفاجئني انتحار كاوباتا، ليس لأنه كان الوجه الأمين والأصيل المتسق مع ثقافة وتراث اليابان بكل ثقل ماضيه وسحريته، كما يتضح في كل ما كتبه من أعمال حكائية، قصصا وروايات. بل لأنه عاش أصلا كطيف، ولا أستبعد أن يكون طيفه هذا ما يزال يتردّد على معجبيه وقرّائه، يزورهم ويتكلم معهم وينادمهم ويلعب معهم لعبة «الغو».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©