الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إيمان أميركا.. وإلحادها

إيمان أميركا.. وإلحادها
9 سبتمبر 2015 23:34
ما الذي يجرى في الولايات المتحدة الأميركية على صعيد الإيمانيات والعقائد والتوجهات الروحية والدينية؟ هل هي مدينة الله فوق الجيل أم باتت كما يذهب البعض الآخر إلى القول إنها أضحت مدينة الشيطان وبابل الجديدة، أي رمز لانتشار الشر الأدبي والمعنوي، عطفاً على المادي، في داخلها ومن حولها؟. منطلق هذه القراءة كان ولا شك نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد «بيو»، أحد أكثر المراكز موثوقية في واشنطن، أوائل شهر مايو المنصرم عن الحالة الدينية في الولايات المتحدة الأميركية، وقد جاءت النتائج مثيرة جداً للجدل، فقد تراجعت نسبة الذين يعرفون أنفسهم كمسيحيين من 78% عام 2007 إلى نسبة 70% في 2015، في الوقت ذاته تبدو نسبة الذين يعرفون أنفسهم كـ «لا دينيين» وبخاصة بين الفئات الأصغر عمراً، وهؤلاء لا يعترفون بأي دين نحو 23% من البالغين، وهذا رقم شديد الخطورة والوعورة، إذ يتجاوز نسبة الكاثوليك في البلاد والتي تقدر بنحو 21% أو أكثر قليلاً. يعني لنا قبل الدخول في عمق تشريح الانتماءات الدينية في الداخل الأميركي أن نتساءل سؤالا جوهريا: «هل أميركا دولة دينية أم دولة علمانية؟». بحسب الدستور الأميركي يمكن القطع بعلمانية الجمهورية الأميركية وبالفصل التام بين الدين والسياسة، غير أن واقع الحال، يؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية دولة «علمانية الهوية دينية الهوى»، بل أكثر من ذلك أنها مغرقة في الهوى الديني، أو على الأقل كانت كذلك حتى وقت ليس ببعيد... هل في هذا الأمر تناقض ظاهري وباطني واضح؟ وإن كان ذلك كذلك فإلام تعزى تلك الظاهرة السيسيولوجية المثيرة؟. الشاهد أن مردها معروف للباحثين الثقات في الشأن الأميركي تحت عنوان «تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة»، وهذا أمر له انسحابات واستحقاقات واضحة على كثير من مناحي الحياة الأميركية سياسياً واجتماعياً وثقافيا، فالأميركي يتحدث في اتجاه ويقدم على اتجاه مغاير، يتبني رؤية ويسعى لتحقيق الضد منها، ويعزي المؤرخون تلك الإشكالية للبدايات الأولى لتكوين الاتحاد الفيدرالي الأميركي، حيث تداخلت العقائد والرؤى الدينية في بلورة روح وذهن وعقل أميركا البازغة، التي اعتبرت بمثابة «أرض كنعان الجديدة»، بمعنى أنه إذا كانت فلسطين المقدسة قد وجدت كملاذ للعبرانيين في الماضي، فإن أميركا الجديدة في نظر البيوريتانيين «المتطهرين»، الفارين من الاضطهاد الديني في أوروبا القروسطية، قد اعتبرت المثال الجديد لدولة الخلاص والإنقاذ، ومن هنا أيضا وجدت اليهودية لها مسرباً إلى الروح الأميركية. هذا الاختراق الأيديولوجي والدوجمائي تجلى في الكثير من تصريحات رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، فعلي سبيل المثال تحدث الرئيس الأميركي «ليندون جونسون» قائلاً ذات مرة: «إن ديانته المسيحية، اشتقت من ديانة إسرائيل، أي اليهودية، أما جون كيندي الرئيس الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أميركا فقد أكد أن «يهوه هو الذي يحرس الولايات المتحدة ويحميها، لا الجيوش أو الأساطيل»، فيما ذهب الرئيس المسيحي المولود ثانية جيمي كارتر إلى أن إسرائيل هي الباب إلى المجيء الثاني، ويمكن للمرء أن يحاجج كثيراً بأن فترة حكم رونالد ريجان كانت ذروة الإعلان المسيحاني في الولايات المتحدة الأميركية، بل إن غالبية برامجه العسكرية وفي المقدمة منها حرب الكواكب أو النجوم، إنما تم استنباطها من رؤى توارتية لصراع ممالك الخير والشر. ويمكن القطع بأن التجلي الأكبر لهذا التيار الإيماني في الداخل الأميركي قد تبدى بأقوى صورة في سنوات إدارتي جورج بوش الابن، وقد جاءت هجمات الحادي عشر من سيتمبر، وتصريحات رئيس أميركا وقتها لتضع العالم أمام تصنيفاً مانويا، بين أولئك الذين معنا، وهؤلاء الذين ضدنا، أي بين الأشرار والأخيار، دار الحرب ودار السلام بالمفهوم الإسلامي. ما الذي جرى ويجري في الداخل الأميركي ويدفع في هذا الطريق، طريق الإلحاد، والاختصام من المسيحية الأميركية؟ يلزمنا العودة للأرقام ثانية لتبيان أية قطاعات دينية هي الأكثر تضرراً والأسباب التي تقف وراءها. بحسب بيانات مركز «بيو»، يبدو أن المؤمنين من أتباع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والذين هم في شراكة روحية وإيمانية مع المؤسسة الكاثوليكية في حاضرة الفاتيكان، عطفاً على أصحاب التوجهات البروتستانتية التقليدية هم القطاعات الأكثر تضرراً، فقد خسروا في الأعوام السبعة الماضية 3 ملايين و5 ملايين على التوالي من أتباعهم، بينما بقى الإنجيليون محافظين على نسبتهم، إذ ما زالوا يمثلون ربع سكان الولايات المتحدة بنسبة (25.7%). وربما يكون تيار الهجرة والتغيرات الديموغرافية الحادثة في الداخل الأميركي، من العوامل المساعدة على تغيير الخريطة الدينية للولايات المتحدة الأميركية، فعلى سبيل المثال فإن هجرة الكاثوليك من أميركا اللاتينية قد ساعدت على أن تبقى نسب كاثوليك أميركا عند المرتبة الثانية، فيما البروتستانت والإنجيليين يحافظون على المركز الأول.. ماذا عن بقية الأديان هناك وحضورها على الساحة الروحية الأميركية؟ تشهد الأقليات الدينية الأخرى في الداخل الأميركي، إما نمواً ضعيفاً أو ركوداً، فاليهود يمثلون نحو 1.9% من السكان بزيادة 0.2%، بينما ارتفعت نسبة المسلمين في البلاد من 0.4% إلى 0.9%، وزادت نسبة الهندوس الأميركيين من 0.4% إلى 0.7% من مجموع السكان. هل بدأت العلمانية ومن ثم الإلحاد أو اللاأدرية تقتطع من مساحات أميركا المؤمنة؟ عدة ظواهر ومظاهر تقودنا إلى الاعتقاد بأن هذا صحيح بالفعل، وهو على صحته من الخطورة بمكان، وربما يؤدي في الأجل المتوسط، ولاحقاً البعيد إلى إحداث شروخات عميقة في جدار آل Social fabric أي النسيج الاجتماعي الأميركي. أحد أوجه هذا الإلحاد وتلك العلمانية الجافة المسطحة التي يحذر منها الفيلسوف والثائر الفرنسي «ريجيس دوبريه»، تجلت في في أواخر يونيو الماضي في إقرار المحكمة العليا في البلاد بزواج المثليين، وحقهم في الارتباط الزوجي والعيش معاً كأزواج في كافة الولايات المتحدة الأميركية من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. كان القرار الذي ينافي ويجافي الإيمان المسيحي، كما بنفس القدر يرفضه الإسلام، وتحرمه اليهودية، عاملاً واضحاً في بدايات انشقاق حقيقي في الروح الأميركية، يمكن أن يقود لاحقاً إلى حالة من العداء التي تهدد روح الاتحاد الفيدرالي نفسه، وهناك دعوات عريضة في هذا الاتجاه، وفي مقدمتها ما يجري في تكساس. أولى بوادر الفراق حدثت داخل المحكمة العليا ذاتها، إذا اعترض أربعة من القضاة في المحكمة على القرار، وصوت خمسة لصالحه... القرار عينه دفع قاضية أميركية «ليندا برنيت» لأن تترك العمل بالقضاء، مفضلة بحسب قولها أن تطيع الله أكثر من الناس «سأطيع الله.. حتى لو أطعت الله وحدى»، لكن على جانب آخر فإن قاضياً آخر في ولاية «أوريجن» قد حكم بغرامة مالية كبيرة على زوجين مسيحيين، يمتلكان متجراً لتقديم حلويات الأعراس، بسبب رفضهما تزويد حفل زواج مثلي، بكعكة العرس، لأن الأمر يناقض إيمانهما، بل وأكثر من ذلك أصدر القاضي قرارا نهائياً مطالباً الزوجين بالتوقف التام من التحدث علانية بخصوص إيمانهما المسيحي. تصل حالة التنازع والتشارع بين أميركا المتدينة وأميركا الملحدة إلى عتبات البيت الأبيض عينه، لا سيما بعدما صرح الرئيس الأميركي باراك أوباما في تغريده على حسابه بموقع يوتيوب قائلاً: «اليوم يشكل خطوة كبرى في مسيرتنا نحو المساواة.. لقد أصبح الآن من حق مثيلي الجنس الزواج كأي أشخاص آخرين» وأرفق تغريدته بهاشتاج عنوانه «الحب ينتصر». كانت كلمات أوباما كفيلة بأن تثير عليه ثائرة أنصار التيار الديني اليميني الأميركي وفي المقدمة الكاثوليك والإنجيليين، ففي رد فعله على القرار المثير والمناهض لشريعة الله في خلقه منذ خلق آدم عليه السلام، إلى يوم قيام الساعة، قال رئيس الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة الأميركية الكاردينال «جوزف كرتز» أنه على الرغم من هذا القرار الصادر عن المحكمة العليا، تبقى طبيعة الإنسان البشرية والزواج هي ولن تتغير». وفي إقدام وثبات أضاف رئيس الأساقفة الكاثوليك أن «قرار المحكمة العليا هو خاطئ ولا أخلاقي مشدداً على أنه من الظلم أن تعلن الحكومة الأميركية زواج شخصين من الجنس نفسه». على أن الصوت الأعلى الذي صرخ عالياً في وجه أوباما، كان صوت القس «فرانكلين جراهام»، وهو ابن الواعظ الأميركي الشهير «بيلي جراهام» واعظ رؤساء أميركا على مدى أكثر من خمسين عاماً، فقد اتهم أوباما بأنه يقود الأمة الأميركية في طريق الخطيئة، وبأن الله سوف يدينه ويدين الولايات المتحدة كأمة إن لم تتب، ومعتبراً أن تغيير القوانين في أميركا وعلى هذا النحو هو توجه غير إيجابي، بل وإشارة إلى الانحطاط الأخلاقي الذي تشهده البلاد، وتساءل هل ستكون الخطوة القادمة منعنا من أن نتحدث بحرية عن تجريم الأديان لهذه الفعلة الشنيعة؟. أما والده «بيلي جراهام» والذي يبلغ من العمر اليوم خمسة وتسعين عاماً فقد أطلق صلاة في عموم أميركا، استهلها بقوله «ويل للقائلين للشر خيراً». هل المعركة الفكرية والإيمانية الأميركية الجارية الآن في البلد الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس لها تبعات على الحياة السياسية الأميركية في الحال والاستقبال؟ بالقطع ذلك كذلك، إذ إنه من المعروف سياسياً ذهاب غلاة العلمانيين الأميركيين واللاأدريين عطفاً على الملحدين إلى التصويت لمصلحة الحزب الديمقراطي ومرشحيه، سيما وأن مرتكزاته الفكرية لا تتصل كثيراً بوشائج وثوابت الايمان والأديان، على عكس الجمهوريين والذين هم في غالبيتهم من الكاثوليك والتيارات الإنجيلية والبروتستانتية الكلاسيكية، وهؤلاء لهم «مانيفستو» ديني وأخلاقي واضح، وفقدان هؤلاء لنسب كبيرة لاحقاً من أتباعهم حكماً سيغير من ملامح المشهد السياسي الأميركي في الداخل بدرجة أو بأخرى. هذه الرؤية تعززها الأرقام ولا شك، ففي عام 2008 على سبيل المثال ذهبت أصوات 79% من اصوات الإنجيليين البيض الى الجمهوريين، اما اصوات البيض غير المتدينيين فبلغت 33% صوتوا للحزب الجمهوري. هل ستنسحب معركة الكفر والإيمان على الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة في نوفمبر 2016؟ أغلب الظن أن هذا سيحدث بالفعل، فمن بين جميع المرشحين باستثناء مرشح واضح، نجد التعاطي مع البعد الديني واضح جداً سواء بالإيمان أو بإنكار الإيمان، وفي هذا مغازلة واضحة للرأي العام الأميركي. الخلاصة التي يثيرها استطلاع «بيو» في قراءته الأخيرة، هي أن 53% من المستطلعة آراؤهم من الأميركيين يرفضون التصويت لمصلحة المرشح الذي لا يؤمن بالله، ومعنى ذلك أن نسبة معتبرة أيضاً تكاد تصل إلى النصف لم يعد يعنيها الأمر، أمر الإيمان، وشأن أميركا دولة دينية أو علمانية، وهذا معناه أن هناك معركة فكرية كبرى خلف الباب رابضة متشوقة لأن تتسيد على أميركا، معركة بين الولاء للولايات المتحدة الأميركية ككيان علماني أو إلحادي، وبين الولاء لها بوصفها مدينة الله على الجبل او كنعان الجديدة، وهي معركة تنذر بخطر شديد قد يقود إلى انشقاق روح أميركا في داخلها. .................................... * كاتب مصري أميركا دولة «علمانية الهويّة دينية الهوى» بل مغرقة في الهوى الديني ........................... غالبية برامج رونالد ريجان العسكرية تم استنباطها من رؤى توراتيّة مسرب إلى الروح عند إنشاء الاتحاد الفيدرالي اعتبرت بمثابة «أرض كنعان الجديدة» بمعنى أنه إذا كانت فلسطين المقدسة قد وجدت كملاذ للعبرانيين في الماضي، فإن أميركا الجديدة في نظر البيوريتانيين «المتطهرين»، الفارين من الاضطهاد الديني في أوروبا القروسطية، قد اعتبرت المثال الجديد لدولة الخلاص والإنقاذ، ومن هنا أيضا وجدت اليهودية لها مسرباً إلى الروح الأميركية. الدين يتراجع بحسب بيانات مركز «بيو»، يبدو أن المؤمنين من أتباع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والذين هم في شراكة روحية وإيمانية مع المؤسسة الكاثوليكية في حاضرة الفاتيكان، عطفاً على أصحاب التوجهات البروتستانتية التقليدية هم القطاعات الأكثر تضرراً، فقد خسروا في الأعوام السبعة الماضية 3 ملايين و5 ملايين على التوالي من أتباعهم، بينما بقي الإنجيليون محافظين على نسبتهم، إذ لا زالوا يمثلون ربع سكان الولايات المتحدة بنسبة (25.7%).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©