السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حتى زماننا مقهور..

حتى زماننا مقهور..
9 سبتمبر 2015 22:50
من الصعب أن تفسّر هذه الصورة. من الصعب أن تلتقط الكلمات الأولى للحديث عنها. كل ما تستطيعه عند محاولتك قراءتها، النطق بمفردات متناثرة ومتخبطة، تشبه مشاعرك التي تنتفض في ذروتها الآن، ولا تعرف سبيلاً إلى وصفها، إلا بـمفردة وحيدة هي «القهر». الزمان والمكان في الصورة قريبان منا، كذلك الأب وطفله، قريبان جداً ويشبهاننا إلى حد بعيد. ما يجعل القهر أكبر وأعمق في أرواحنا، وفي روحيهما. لكن ما الذي تستطيع فعله غير الجلوس بانتظار قوة يمكنها أن تزيل هذا الوجع، وأن تتساءل: هل هو قدرنا الطويل والمستمر؟!.. وكالعادة، الأجوبة مبهمة، خجولة وغير مهمة. وغالباً ما تختصرها وتنهيها بعبارة «فليسقط كل شيء».. أرض قاحلة، جرداء بلون أصفر شاحب ومقهور. رجل يغطي وجهه المقهور كيس أسود. وفي الحضن بين اليدين المتعبة يتكئ طفل متعب، مريض، ملقى دون مصير، حافي القدمين ومقهور أيضاً. وحتى حذاءه البعيد عنه خطوتين أو أكثر، يوحي بشيء من القهر. وتغطي كامل المشهد أسلاك شائكة، ظالمة ومستفزة، تدعوك إلى الغضب مثلما تدعوك إليه جميع العناصر الموجودة في هذه اللقطة المقتطعة من زمن طعمه مر. تحكي الصورة حكاية عالمنا، تروي تناقضاته، ثنائياته التي تفضي إلى ظالم ومظلوم، قوي وضعيف، إنساني ومتوحش. ولن يقنعنا أحد أن هذا المشهد الذي نحن في حضرته الآن، لا يترجم منطق سياسة القوي، ولا يثبت أننا في حضرتها دوماً ونعيش تبعاتها المؤلمة. كذلك تراها تصل إلى أسوأ ما في عالمنا، إلى أسوأ ما فينا، إلى تلك النقطة الكامنة في الأعماق والمسماة بـ «العجز». فأن ترى الخوف في عيني طفلك، شعور لا يحسد عليه أحد. كيف وإن رأيته كنتيجة لخوفك أنت العاجز عن الدفاع عنه أولاً وعن نفسك ثانياً. إذن القهر نتيجة حتمية تتولّد داخل أرواحنا، للعجز الذي يرتدينا منذ بدء التاريخ. وما أفظع أن يكون العجز رداءك الأزلي!.. كل محاولات مد الأفق لتخيّل الشخوص الأخرى في المحيط، محاولات فاشلة. فقد اختزل هذان البطلان الفضاء من حولهما. ومنع انكسارهما أعيننا من النظر بعيداً، لنظلّ معلّقين في جحيمهما الخاص وسط صحراء تحفظ للقادمين بعدنا وجعنا جميعاً. لكنها شوكة في الحلق من الضروري أن ندفعها كي لا تخنقنا، متسائلين عن قدرة الآخر على سلب إنسانيتنا بهذه الطريقة البشعة وبموافقة دولية وأممية وكونية. وعن قدرته الفظيعة على اقتحامنا بحجة اتهامات لا نفهم منها إلا أنها موجّهة لنا. قادراً في الوقت نفسه، أن يجهّز أدوات الاعتقال لتعلق كتفاصيل بصرية تنطبع في ذاكراتنا اليومية وتستطيع أن تخيفنا حتى الأقصى. وبالمقابل، نسهم نحن في تجهيز وتهيئة المساحات الشاسعة داخل رؤوسنا، لاستقبال رهبة هذا الكيس الأسود. حيث لعب الإعلام المرئي – عن قصد أو دون قصد - دوره بتوطيد الذعر، ووضعنا في قفص الاتهام لمجرد جذورنا الجغرافية الضاربة بعمق في أرض مقهورة. التفكير في مصير هذين الكائنين من دم ولحم، أمر يجعلنا نضرب رؤوسنا ألماً وسخطاً. ونحن وإذ نعرف ما يمكن أن يلقاه الأب في جحيم الاعتقال الماكث فيه، يخنقنا ولو للحظة واحدة، مجرد التفكير بأن طفله سيعيش أو عاش ذات المصير.. و سبق وواجهه متعرضاً إلى تصرفات لا تليق بروعة طفولته المنهكة. هي رحمة لنا، أن يكسو وجه الأب هذا الكيس الأسود اللئيم. مجنباً إيانا النظر إلى عينين حزينتين تأكلهما الهزيمة والخوف والحب. وكيف لنا أن نفهم قدرته على الاحتمال؟ كيف لنا ألا نشك بأن الدموع في هذه اللحظة لا تبلل سواد الكيس وتخترق نسيجه البلاستيكي؟ والشك أيضاً جائز ومشروع بأن قسوة الراهن، قد سحبت الدموع وخزنتها في غيمة سماوية لم تمطر بعد. من الضروري وبعد كل ما قدمناه من تساؤلات، أن نسأل عن قانون يحمي أنفسنا ويحمي أبناءنا من الانتهاك. ومن الطبيعي ألا نجده في عالم لا يحكمه قانون العدل، في حين يسيطر عليه قانون الأقوياء. ويأكلنا السؤال: ماذا حصل لطفلنا وأبيه؟ إلى أين حملهما المصير؟ هل أكلتهما الصحراء؟ أم لا يزالا على قيد الحياة، على قيد القهر؟ أيّ مصير؟! التقط الصورة المصور الفرنسي Jean-Marc Bouju، لتفوز بالجائزة العالمية للصورة الصحفية في العام 2004. أي في الوقت الذي كانت فيه مأساة العراق تتصدر عناوين الإعلام الرئيسية في الٌعالم العربي والعالمي. ويظهر فيها رجل عراقي وابنه البالغ من العمر 04 سنوات، في مركز اعتقال للجيش الأميركي قرب النجف. حيث تمّ تخليص الرجل من أصفاده البلاستيكية ليتمكن من احتضان ولده. ويذكر أن الطفل قد أصيب بذعر شديد لحظة مداهمة الجنود الأميركان لوالده وإخفاء ملامحه بكيس أسود بلاستيكي. ولا يعلم المصور بعدها ما المصير الذي لقيه بطلا صورته..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©