الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خطيئةُ البحرِ الأولى

خطيئةُ البحرِ الأولى
9 سبتمبر 2015 22:50
نَزَقُ البحر هل يكفي أن تتمَدَّدَ حورية على إحدى الصخور المكسوة زغباً أخضرَ ليتناثرَ غبارُ جَسدِها على أمواج البحر فيُرسِلَها إلينا حُزماً لؤلؤيةً متتاليةً لتوقظَ فينا ذلك النائم أبداً! هذا الذي لا يُحَقِّق أمانينا إلا بعد تَطَهُّرِنا مِنّا وتحوُّلنا إلى كائنات لامرئيةٍ تنتعلُ رملَ البحرِ وتمشي على شواطئِهِ إلى اللانهاية! كيفَ يَشتَهي البحرُ جسدَ حورية دونَ أن يَختطفَ من عَينيها ذلك البريق الذي يُحَوِّلنا إلى بشر عطشى للغوصِ في أعماقِهِ بحثاً عن أسئلةٍ جديدةٍ لِمَا تَمَنّينا أنْ نَكونَهُ ولَمْ نـُرِدهُ حقاً؛ شهداءَ الغَرَقِ اللّذيذ! ليس الملحُ وَحدهُ الذي ذابَ في غُلمَة البحر؛ آلافُ الأجساد وآلافُ الحكايا وآلافُ الوعود التي قطعناها وَعُدنا مُخلِّفينها وراءَنا، لعلّ الموجَ يشفعُ لنا ضعفنا الذي حَرَمَنا لذَّة النهاية، لذّة الاكتشافِ البِكر. فاكِهَتُنا المُحرَّمة، وانعتاقُنا الأوّل إذا تحرَّرنا من قيودنا، وألقينا أنفُسَنا دون مبررات مسبقةٍ ولا تحصينات مفتعلةٍ لنحضنَ مَوجَة. تَتَحَلَّلُ أفكارنا المعتَّقة وتسيلُ في البحر من جَوانبِ التجربة، نحن الآن أبناءُ ولادةٍ مؤقتة، نخرجُ من رَحِمِ الظُّلمَةِ الأولى إلى رَحِمِ الزّرقة المُنثالةِ بياضاً، يَفرُكُ ظُهورَنا، ويَدهَنُ جِلدنا بزَبَدِه، ويُعيذنا مِنّا، ثم يُطلِقُنا من جديد لمعانقةِ سماء أرحَب، إلى أن ينكمِشَ جِلدنا فنعودَ إليه من جديدٍ بحثاً عن البراحِ المُطلَق. (أيها البحرُ لَعَلِّي مثلَ أمواجِكَ أجْرِي أيّ حُبٍّ لستُ أدرِي.. أيُّ قاضٍ ينقضُ الليلةَ أمْرِي؟ ليسَ للأمواجِ شَرعٌ ليسَ للأمواجِ أمرٌ إنَّما هيَ تَجري.. وتعيشُ العُمرَ تَجري...) (1) تفاحة البحر! أن تحظى بشرفِ ذلك اللقاء، وأُنْسِ اللحظة الحَميمة، عليكَ أن تكون رجلاً، ولو كنتَ رجلاً.. لَمَا احتجتَ إلى لقاءٍ من هذا النوع، يكفي أنْ تنتَعلَ رغبَتَكَ، وتمضي إلى البحر دونَ تحيّة، فتَتَخَفَّفَ من أوزارِكَ وتمضي إليه مُشرِعاً كل أبوابكَ، غير عابئٍ باكتساحِ الموج لثناياكَ وأسراركَ المفضوحة. هناكَ.. حيثُ الجَنّة الأبدية التي لمْ يَستطِع آدم احتمالَ مثاليتها المُطْلَقةِ فَعَصَى. حواء وَحدَها التي لو خيّرتْ بين التفاحةِ والبحر.. لاختارتْ البحر، وتَركتْ آدم مُتخَماً بخطِيئَتِهِ! باحثاً عن سقوطه المدوي في أعماقِها.. إذا ما تَذكّر شَهوة البحر! أنا حواء التي اختارتْ البحر، وألقيتُ بي عَارية في أحضانِه، أكلتُ بِنَهَمٍ ثمارَه، وشربتُ ماءَهُ المالح وسَكِرتُ. خَلقَ الله جَنّةً على الأرض، لمْ يعجنْ جَسدها باليابسة، لكنه مَدّ بِساطها الأزرق وتركَ بعض الفُلك تجري.. دون أن يُدرك راكبوها أنّ البحرَ يلتهِمُهم ببطءٍ ويُفَكِّكُ أجزاءَهُم الخضراء التي حَمَلوها مَعهم من اليابسة، ليقتلعوا حُلكتَهُ ولآلئَهُ، عائدينَ بها إلى أحبّائهم! عروسُ البحر حواء التي تبحثُ عن بَحرها المُمتدِ من أخمصِ قَدميها إلى مَنبَتِ شَعرِها، حيثُ تكونُ عروسه الأبدية، وأجملَ جميلاته.. كلا، البحرُ لا يعبأُ بجمالِ الجسد بل يستمدُّ روحَهُ من تلكَ اللمسةِ المحمومة التي تُنبتُ آلاف الجميلات في أعماقه، عرائسَ بحرٍ مُصَغَّرةٍ تغوصُ أعمقَ فأعمقَ في جسدِ كل امرأة، تهمسُ لها بأنّ البحر أرسلَ فيها سراً من أسراره، وأنبتَ في قلبها موجةً تروحُ وتجيءُ مع كل شهيقٍ وزفير. البحرُ الذي يَحنو، ويَقسو، ويُعطي، ويَطلب، ويشُدّها من شعرها كي تَحضُنه، ثم يُفلتها لتهربَ قبلَ أن تعودَ مجدداً باحثةً عن قـُبلةٍ مستسلمةٍ تدغدغُ أصابعَ قدَمَيها لترضى وتستكين، البحر الذي «يعلمها الحبّ.. بالحبّ فقط»! (2) سرطان البحر! أدنو باحثةً عن أقربِ نقطة إلى مَوجَةٍ توشِكُ أن تموتَ فأحفرُ وأختبئ. عيناي تحدقان في الأقدامِ التي تتسابقُ لتدوسَني، ما هَمّني إنْ صِرتُ بَحراً الآن! ألقي مَوجي ليسرقَ الزمنَ مِن تحتِ أرجلِهِم، ونسيمي يُعيدُ استيلاد الرائحة مرةً تلو أخرى لمن عَبَروه ولم ينتبهوا لي أتخَلَّلُ خصلات شعورهم وأحَرَّرُها نوارس في السماء. السرطانُ جاسوسٌ جَنّدهُ البحر لصالحه، دَرَّبَه على الاختباء والتخفي، عينانِ تشرفان على القادم بوَجَل وترَقُّب، ثم تختبرُ الموتَ مرةً تلو أخرى عندما يُعَرّي البحرُ قدرته على الاختباء في لحظةِ انكشافٍ مُمِيتة. البحرُ يتخلّصُ من سرطاناته، يَستبدلها بأخرى! أنا.. لستُ سرطان بحر! أنا... السرطانُ في البَحر.. لا يملكُ أن يبتُرَه من جَسَدِهِ المائي أو يعالجه، أنا.. أسكُنُهُ إلى الأبد. قارورةأسراري كيف للمرء أن يكتب رسالة تحدٍّ إلى البحر - تشبه تلك التي بعثَ بها الخليفة عمر بن الخطاب إلى النيل! - كيف أجعلَ منهُ رسولاً إذا كنتُ أنا رسالتَه! لؤلؤته البكر التي يدفعها إلى أعماقه هَوناً كيلا تمتَدَّ يَدُ غواصٍ فتسرقُها مِنه فيكونَ الطوفان! أنْ تفهمَ شعور هاتيك الحسناوات وهنّ يتزيّن – قسراً أو طواعية – ليقعَ الاختيار على أوفرهنّ بهاءً واستسلاما لتقترنَ بالنيل، أن تفهم أن شعوراً كهذا كان أولى بالبحر أن يختبره.... (السيدُ البَحر سِرُّ الأسرار الآمرُ الناهي قُبلةٌ واحدة عَلى خدِّ الرّمل تَهَبُ عَروسَه الخُلود وتُدفئُ المَراسي بالسَّكينة). إنْ لم أكنْ عروسَ بحر، فهلْ يمكنني أنْ أتحوّلَ إلى قارورة تعيشُ على ركلاتِ مَوجِهِ وتشرَبُ مِنْ مُلوحَتِهِ ما يَزيدها عطشاً وَوَلعاً! لا تصلُ إليها يَد، ولا تنتهي رسالتها في ذلك الملكوت الذي يولدُ على الماء، ويعيشُ على الماء، ويموتُ على الماء! مانجو البحر للبحر رائحةُ الذكرى، تصطادكَ من على بعد آلاف الأميال.. فتأتي بكَ إليهِ حبواً! لكنّي عبثاً حاولتُ أنْ أتذكَّر إنْ قالَ لي البحر يوماً بأنه يحب المانجو، فإنْ لم يكن الأمر كذلك لمَ يُصِرّ على حَشر ذرّات هذه الفاكهة الملساء المترفةِ سريعة العطبِ في أنفي! تبعثَرَتْ اتجاهاتي، فقدتُ بوصَلَتِي ولم أستطعْ أنْ أشغَلَ الرائحةَ بحديثٍ جانبيّ يُنسيها أولوية الانقضاض على حَواسي. بَحثتُ عن أي خيطٍ يقودني إلى سفينةِ مانجو عابرة، حَبّة مانجو تَتَشمّسُ بين الصخور، زجاجة عَصير تتقيأ ما تبقى من سَهرة مسائية دافئة... لا شيء! غادرني البحر، بحرٌ بموجٍ أصفر طعمهُ كالسكَّر. لكنني وَجَدتُ كل ما حولي غارقاً في طوفانِ مانجو ممَلّح! وردة مالحة في فمي لا يحملُ العشاقُ إلى البحرِ مفاتيح ولا سلاسل ولا أقفال، للأنهار وحدها أن تتزين بتلك الحليّ؛ فالبحرُ ليس في حاجة إلى ذلك! فهُوَ الأنيق دائما يرتدي بَزّتَهُ الواسعة القادرة على ابتلاعِ كل شيءٍ دونَ اكتراث، ولفظِ كلّ شيء وقتما يشاء! لكنّ محلَ الورود المطمئن إلى موقِعِهِ قريباً من البحر لا يغلقُ بابَهُ أبداً؛ كأنّه جُهِّزَ خصيصاً لاستقبالِ طلبات البحر – ينتظرُ زياراتي المنتظمة التي تَتَصَبّبُ عرقاً ممزوجاً بما تبقّى من دموعٍ في مُقل الورود التي تعرفُ طريقها إلى سطحِ البحر سلفاً. لا يكترثُ بالألوان، لا يكترثُ إن كنتُ ألقي في قَعرِهِ حجراً أو ورداً، لكنني أكترثُ لطقوس انعتاقي اليومي، وأحبُّ ملمسَ الورود كقصّابٍ يتحسَّسُ رقبةَ ذبيحَتِهِ. يتمدّدُ البحرُ مُستعرِضًا بياضَ شاطئه، ونعومَة سَطحِهِ، وخَضَار عُريِهِ الصَّخري، ألتقطُ له صوراً مُثقلةً بأوزارِ الدّهشةِ أخبِّئُها في قارورةِ أسراري، ألقِمُ فَمَهُ حَجَراً شَهيًّا، ثم... أجرِّبُ أن أبكي، أعجزُ أحياناً، وأنسكبُ أخرى فأتحوّلُ إلى مَوجَتِهِ المُدلّلة، أشتمُ ضَعفي أمَامَه، أشتُمُه، أصالِحُه، يَحنّ عليّ ويَمنَحُني بَرَكَته، يَطولُ هذا الطقس فيكادُ لا ينتهي، وتتململُ الورود بين أصابعي: متى ستُلقي بنا إلى البحر؟ متى نتوحدُ في عِناقٍ أبديّ! أجل، عناقٍ أعجزُ أنا عن ارتكابِهِ يومياً.. فأُرسِلُ مَنْ ينوبُ عنّي ثم أوشِكُ أنْ أتوبْ.. لكن! أمنيةُالبحر أريدكِ... قالَ لِيَ البحر هذا.. فَلَمْ أحتملْ.. أريدكِ.. مثلَ «عَروسةِ نِيلٍ» تُزَفُّ إلى المَوجِ كَي أستقِرّ. أريدكِ.. كُلّ فُصولِ الحياةِ.. أنا مُتعبٌ غارقٌ في الأزلْ. أريدكِ.. توقاً إلى عَالمٍ كقُبلَةِ مَعشوقةٍ في المَطرْ أريدكِ.. أعمَاقيَ المُعتماتِ تُنيرينَها بغَزيرِ الأملْ أريدكِ.. مَالكةَ العَرشِ قولي (أجلْ).. تساءَلتُ: كَيفَ؟ تَبَسَّمَ... آهٍ مِنَ البَحرِ... مَا مِنْ مَفَرّ! أنا البحر! كيف لعاشق الجَمالِ أن تكفِيه امرأةٌ! بل كيفَ لَهنّ ألا يَكُنّ تلكَ التي يَعشقُها البحر، عَروساً كعروسِ النيل، لكنّ البحر لا يفيضُ ليبَرِّرَ مَطَالِبَه، بل يختارُ عَروسَهُ وكفى.. عروساً واثنتين وثلاثاً.. ينتظرُ حكايتَهُ في كل ليلةٍ لتأتيهِ على مَهل، ينامُ عليها الموج، وتسكنُ إليها النوارس. (السيدُ البحرْ لا يَنطقُ بالكثير فإنْ تحدّثَ انهَمَرَتِ الأعاصير!) لكن، من يَفهمُ البحر! ومَن له أنْ يَغرقَ فيه طَواعية! أيكفيهِ أن أفعَلَ أنا وَحدي ما هو (فَرضُ عَين) على كلِّ أهلِ الأرض! أكانَ علينا أن نَحشُو أعماقَهُ بكلّ تلكَ الأجسادِ الهاربَةِ ليصابَ بالتّخمةِ ويلفظَ إلينا أحبَّتَنا في قسوةِ عاشقٍ جَرَحَهُ الخذلانُ فما زادنا إلا لوعَةً وغياباً! البحرُ الذي يُشبهنا، ونُشبِهُه، الذي يَصُبّ فينا دَمَه لنحيا على نبضِ مَوجَة، الذي يُطعِمُنا، ويَكسُونا، ويَشربُنا على مَهلٍ كلَّ لَيلة. فَمَنْ ذا يَفهَمُ البَحر! ................................................. (1) مقتطف من نص شعري بعنوان «أيها البحر» للكاتبة. (2) إيريس مردوخ، كاتبة بريطانية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©