الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حامل السرّ المعرفي الأكبر

حامل السرّ المعرفي الأكبر
6 سبتمبر 2012
لأنه العابر والمعبِّر سُمّيَ الحرف لساناً، أما أنه عابر فلا شيء قادر على منعه من العبور إلى حيث شاء.. لا حدَّ ولا جدار ولا سور ولا جواز سفر ولا أي سبب آخر من أسباب المنع والحصر التي اخترعتها البشرية. هو وحده، بجلالة قدره، يستطيع أن يصل إلى كل مكان، مجتازاً المسافات قاطعاً الدروب إلى حيث شاء أن يستقرَّ ويقيم. لهذا كان الحرف وسيبقى الحامل الأول للتاريخ الإنساني وصاحب الميراث الذي لا ينتهي ولا يعرف طريقه إلى النسيان. وأما أنه المعبِّر فلأنه الوسيلة التي بها يكون الإنسان إنساناً (وليس حيواناً) ناطقاً أي مفكراً. هو ترجمان الفكرة، وحارسها، وسيدها المبجل الذي لا يملك الكاتب سلطة من دونه، ولا يتحقق إلا به. الحرف، أول لبنة في بناء الكتابة.. به بدأت الحضارات.. ومنه وحوله نسجت الكلمات.. ثم تلاقت فيما بينها فكانت العبارات.. ثم تدفقت في شرايينها المعاني فانتظمت في سياقات من خلالها تفهم الدلالات وبين يديها يجري تخليق المعاني والرموز والإبحار في عالم اللغة الذي لا يحده حد. بين الإنسان والحرف قصة الحياة بكل عمقها وعنفوانها واحتداماتها وتقلباتها.. وفي رحلته الطويلة على بلاط العصور مرَّ الحرف بخطوب كثيرة وجرّب جروحاً شتى وعاش حالات لا تحصى. شهد أحداثاً وقصصاً وحكايا تنام على سرير البشرية الأول ثم اجتمعت لديه أسرّة الكلمات كلها.. بل سيرتها وسيرتنا الأولى. ومنذ أن علم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء كلها صار الحرف حامل السرّ المعرفي الأكبر.. وصار الإنسان قيّماً على الحرف، مفوضاً تفويضاً غير منقوص ومسؤولاً مسؤولية تامة عما يصرح به الحرف.. عن بوحه وعن كتمانه. للحرف تاريخه، ومنزلته، وله عند بعض عباد الله قيمة سامقة. هو “خزانة الله، من دخلها فقد حمل أمانته”، حسب المتصوفة، لكن هذا الدرب وعرٌ لا يطيقه إلا من وصل. أما “الحرف” الذي بيد الشاعر فهو الثيمة التي بها يجرح الصمت ويدخل في الإعلان. متوسلاً أو مبتغياً أن يلقي عليه بأحماله الشعرية التي خرجت عنه في لحظة الإبداع، كاشفاً ما تنطوي عليه من مكابدات ومخاضات وفيوضات. والحرف الذي بيد الشاعر هو حبله السرّي الذي يربطه بالكون والحياة والناس، يغذيه ويتغذى منه، لتبقى مشيمته صالحة للنمو والحياة.. فالحروف مثلها مثل الآدمي، قد تمرض، وقد تهزل وتضعف، وقد تتعفن، وربما تولد ميتة إذا لم تتوفر لها البيئة التي تحتاج إليها لتولد، وتحيا، وتستمر، نضرة ومورقة. لسان الشاعر.. حرفه الحرف، إذن، لسان الشاعر، يشرعه على حقول المعرفة كلها.. ينتقي ما يشاء.. يرمي ما يشاء.. يشيد ويهدم.. يؤسس وينقض.. يتسربل به في كل حالات القول.. وبه يذرع كهوفه الداخلية بكل ما يمور فيها من مشاعر وأوهام وهواجس وأفكار.. وبه يجوس تخوم الكون التي ربما تتمنّع أو تقدم له ما لديها على طبق من حروف. والحال أن العلاقة بين الشاعر وحرفه لا تقف عند حد كونه قيمة تعبيرية أو وسيلة إبلاغ يحمّلها ما عنده لتأخذه إلى الآخرين. ثمة علاقة ما، خاصة، دافئة، ساحرة، غامضة، تنبت بين الشاعر وحرفه.. يصبح الحرف فيها أصابع الروح التي تكتبه، بل... تنكتب به.. وبقدر ما تكون هذه العلاقة سوية يأتي التعبير الأدبي ثراً، مكتنزاً، قادراً على تحقيق التواصل بين الكاتب والقارئ.. فإذا اختلّت أو مسّها طائف من الزيف أصبحت من زبد القول و.. زخرفه. لسانُ الشاعر، يعلو إلى مديات لغوية وفكرية سامقة، هكذا يفترض بمن يمتهن وجع الحرف. ولغة الإبداع الأدبي تأتي في هرم التطور الفني الذي شهدته اللغة. والحال أن هذه العلاقة العصية على الوصف، لا يضاهيها إلا تلك العلاقة الوشيجة بين الحرف والحلم. هاتين الكلمتين اللتين ترتبطان شعرياً بما هو أكثر من حرف الحاء، فلطالما كان الحرف وسيلة الشاعر للتعبير عن حلمه أو أحلامه.. ولطالما كانت الحروف سفينته التي يمخر بها عباب بحار الشعر مدفوعاً برؤى حلمية تتأجج في روحه وتدفعه إلى ذرى القصيدة أو تخومها الألقة. وفي غير قصيدة يتبدى الحرف بوصفه معادلاً للحلم أو القدرة على الحلم، كما يحمل في أحشائه دلالاته الحضارية كلازمة بدأت بها الحياة وبزغ من خلالها فجر الحضارات. وتطفح الكتابة الشعرية بأوجاع وجودية بدءاً بتفاقم الإحساس باللاجدوى والعدم وانتهاء بكل ما تخوضه النفس البشرية من تقلبات وضجر وسأم وحزن وغربة وفقد وهجر وكلها تدفع الشاعر/ الشاعرة إلى تخوم الحلم لعلها تجد فيه تعويضاً عن الخيبات التي تأتي متدثرة بأكثر من ثوب والمتلفعة بأكثر من نقاب. وتتمظهر الأحلام في تمظهرات شتى تبعاً لتنوع تجارب الشعراء والشاعرات، واختلافاتهم الفكرية أو منطلقاتهم الفلسفية، لكن الحرف والحلم يظهران كقاسم مشترك بينهم في محاولة التصالح مع الحياة، إن لم يكن لتصبح جميلة، فأقله لكي تصبح محتملة. وللأحلام في تجلياتها شؤون وللحروف في تقولاتها شجون وللشعراء في الاثنتين مذاهب. فقد يكون الحرف سرّ الحلم الغافي على سرير الوجيعة، وقد يكون معادلاً للحياة به تحلو وتستعيد الذات علاقتها مع الوجود، وتارة يكون أسّ القطيعة المعلنة مع الفرح وتارة أخرى هو التوأم الروحي للأمل. أما الحلم فقد يأتي في هيئة ملاك ابيض جميل يأخذ الروح إلى البعيد الإنساني أو في شكل كابوسي يسحق الروح تحت رحى فجائعية.. وربما تسافر الذات المبدعة إلى الطفولة لتنهل منها أحلامها وتغوص في حنين مضى أو تقف على شاطئ أمل يلوح من بعيد. وربما تتكسر الأحلام على صخرة الواقع أو تولد لها أجنحة فتطير.. وتحلق. حروف للادخار في قصيدته هذه يتعامل الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم مع الحروف كما لو أنها شيء نادر وثمين، ينبغي لامرأته أن تحتفظ بها أو تدخرها لأوقات تشح فيها الكلمات أو يتوقف خيط الإبداع في بكرة الرتابة. وما دامت احتمالات الانقطاع في “الزمن الصعب” قائمة فالادخار يصبح ضرورياً، لأن الحرف الأبيض ينفع في اليوم الأسود. وبلفتة ذكية ينبه الشاعر إلى أن حروفه جديدة، طازجة، ليس فيها من الأمس شيء.. كأن كلام الحب لا يبلى!: الحروف التي تتوالى إليك مبعثرةً رتّبيها كما تشتهينَ، ولا تسألي كيفَ ينثُرُ مثلي الحروفَ إذا ما تضوّرَ شوقا.. خُذي ما تشائينَ منها، وخلّي البقيّةَ للزّمنِ الصّعبِ أو للّقاءِ الذي قد يجيءُ على غفلةٍ تتلاشى بها الكلماتُ الجميلةُ، أو حيثُ يستلِمُ الصّمتُ منّا الزّمامَ إلى ما يُريدُ. الحروفُ التي تتوالى إليكِ مُبعثرةً، ليسَ فيها من الأمسِ شيءٌ.. وأقدمُ ما يتآلفُ منها، على شفتيكِ جديدُ. وفي قصيدة بعنوان “نزقة” يأخذ الشاعر الحروف من رقابها إلى صياغة فنية جديدة لفكرته، إلى صورة شعرية مشغولة بعناية، وتستقي دهشتها من أسلوب المفارقة وما يولده من انبهار لدى القارئ: أحرُفُها كنِبالِ المُتَرَبِّصِ للفِكْرةِ تنهالُ عَلَيَّ كَزَخِّ الغَيْمِ.. فإنْ حاوَلْتُ تَجَنُّبَ وابِلِها قالَتْ: لا تصْرَعْني. تأخذ الحروف في هذه الومضة المكثفة دور النبال وتمارس وظيفتها، وإذ تنهال عليه بكثافة “كزخ الغيم” تستدعي شخصية امرأة متنمرة، تقف للشاعر بالمرصاد وتسلقه بلسانها، لكنها سرعان ما تستكين وترجوه أن لا يصرعها عندما يفكر في الرد. القصيدة في الفحوى تؤشر على سلوك اجتماعي يسلكه الرجل الكريم عادة مع المرأة حتى لو كانت سليطة اللسان خاصة في حالة الحب لكن الشاعر استطاع أن يصوغ هذا الموقف البسيط، المتكرر، اليومي، المألوف في صورة جمالية تتمتع بسوية فنية عالية وأن يقدمه لنا في شكل تعبيري لا تنقصه الجّدة. “حلم مجنون” هكذا يسمي الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم قصيدته الفانتازية التي تتسع حروفها لحلم نبيل كما هي عادة أحلام الشعراء. حلم بأن يغمر الحب الكون وتصير هذه البسيطة، التي لا تعرف من البسط أو الانبساط أو البساطة سوى الاسم، جنة صغيرة، منذورة للفرح والسلام والحب، لا تعرف الحرب ولا الخصومة. حلم لكن من قال إن هناك ما هو أجمل من أحلام الشعراء: ما رأيُكِ، لو طِرْنا بجناحينِ/ من الحُبِّ أو الريشِ الأبيضِ مخترقينَ العادةَ نحو الغيماتِ البيضِ/ خِفافاً.. وتمازَجنا بالغيمِ ونِمنا دهراً.. ثمّ صحونا.. وغفونا.. ثُمّ صحونا دهراً.. ما رأيُكِ، لو زاوجنا بين نجومِ الليلِ، ذكوراً وإناثاً وتزاوَجنا.. ثُمّ نَزَلنا بالغيمِ وبالنجماتِ على الأرضِ.. تُراها هل تَتّسِعُ الأرضُ لهذا العُرسِ المجنونِ؟ أجلْ.. ستصيرُ الأرضُ بِحجمِ الكونِ وأكبَرْ. والبُلدانُ المهووسةُ بالحَربِ وبالخوفِ ستُصبَحُ أقداحاً تَتَلألأُ بالنورِ.. ويُصبِحُ كُلُّ يتامى العالمِ في الأقداحِ المملوءةِ بالفرحةِ سُكّرْ. ما يجري به القلم يقول الشاعر علي الشعالي في قصيدة “قلم”، والقلم أقرب المفردات التي تؤثث الحقل الدلالي للحرف، بما هو أداة الكتابة التي تخرج الحرف من سرّانية الفكرة غير المتحققة إلى علانية التحقق. ناهيك عن تلك العلاقة الخاصة، الحميمية، بل التاريخية بين الاثنين وما تنطوي عليه من حمولات رمزية ومعنوية ما يجعلها من أكثر متعلقات الحرف التصاقاً به. يجري القلم بما يدور في خلد الكاتب، وبه تنكتب الحروف ثم تتخلق الكلمات التي تكتسي لحماً ومعنى وتصاغ في عبارات وبنىً وتراكيب تنتظم بدورها في سياقات فكرية وفلسفية تمنحها معناها ودلالاتها: الحرف حرفك يا صديقي الصمت لون الجهل والكلمات فجر الناس قاطبة وفجركْ. هنا يبدو التوظيف الفني للحرف مفهوماً ومن السهل تفكيكه وإدراكه، فثمة كلام يقابله صمت، وثمة ظلام يقابله نور. وبين هاتين العضادتين الدلاليتين ترتسم صورة الحرف كوسيلة للمعرفة والتنوير التي تقابلها على الضفة الأخرى صورة الصمت كرمز لظلام الجهل. من هذا التباين الدلالي يعبر بنا الشاعر إلى باب آخر من أبواب المعنى، متعدياً بالحرف عتبته القولية الأولى إلى عتبة جديدة تضيء لنا لماذا الصمت سبباً للجهل والظلام لأن الصمت في معظم الأحيان يحيل إلى المعرفة بل وإلى التعمق المعرفي. إن الحرف المقصود هنا ليس الحرف المكتوب أو المقروء بل هو الشاعر نفسه، كاتب الحرف. وما دام الأمر متعلقاً بتجسيد الموقف أو كتابة الحقيقة فإن الحرف يصبح سيفاً أي سلاحاً: السيف سيفك والنجوم البيض نزر من حروفك فلتخسأ الحفر الكبيرة والظلام.. ولينتصر يا نور جهركْ وما دام الحرف المعنيّ هو الحرف الفصيح، الذي يقوم بوظيفة الإبلاغ، فإن صاحبه معرض لكي يعيش (كالرهبان/ منبوذاً وشهماً). وهذا التعبير فيه قدر كبير من الغرابة – كما يبدو للوهلة الأولى – لكن القراءة المتفحصة لمفردات القصيدة تجلي لنا الغموض وتدفع الغرابة بعيداً، وتثبت أن الشاعر وفق فيه أيما توفيق. فالمنبوذ عادة هو إنسان قام بفعل غير مقبول اجتماعياً أو ينافي ما درج عليه مجتمع ما.. لكن الشهامة فضيلة من شأنها أن تفتح لصاحبها أبواب التواصل والمكانة الاجتماعية فكيف جاز الجمع بين هاتين الصفتين؟ الإجابة في آخر مقطع اختتمت به القصيدة: قف شامخاً وَالْبَس أساطير الفراشة وابتسم للكاميرا بعبارة “وابتسم للكاميرا” قال لنا الشاعر إن المكانة التي يحتلها الشاعر ليست إلا مكانة صورية، وما حضوره إلا حضور شكلاني.. مظهري يكمل الصورة فقط. ولكي يعمق المعنى لدى القارئ لم يتوانى الشعالي عن رسم صورة لغياب الشاعر من خلال غياب الحرف، معيداً إلى الأذهان دور الشاعر أو وظيفته المغيبة في العالم العربي وربما منذ القديم، حين لم يكن أكثر من حادي القوافل يغني على هواها: طريقك لم يكن يوماً حقيقياً ولا خطاً إلى نقطة ووجهك منذ أن سافرت ملتفت إلى الأعلى إلى كل الجهات البيض وحرفك حيثما يممت ممشوق ومبتلع. تشم الراية العليا ولا تدري هل استبقيت راحلة لتحدو قافلات القوم أم أزرى بك الهلعُ. ولأن الحرف بالنسبة للشعالي لسان الشاعر فإن عليه أن يكتب شعراً حقيقياً، وقصائد قادرة على مخاطبة الوعي الإنساني بما يستحق، وإلا فإن القصائد التي تتنكب عن الطريق تستحق أقصى تعبيرات الذم: وشاهت وجوه القصائد إن لم يكن في ذراها سراجاً منيراً في المقابل ثمة صورة أخرى للحرف/ الشاعر، فقد يكون منافقاً أو سارقاً حصل على إعجاب الناس وتصفيقهم بما لم تبتدع قريحته وما لم تكتب يداه: عصفور يترنم باسمك.. يتراقص في الجو على ألحانك.. يسرق من أوتارك.. حرفاً ذهبياً حرفاً أحداً.. فيحييه الجمع نفاقاً.. ويصفق أعمى كذباً في فلكه الخاص لا تدور أحلام الشعالي بل تغادر إلى فلك آخر هو فلك الأمة لتقول الحروف هذه المرة رغبة الشاعر في الوحدة: أمتي ثم أمي.. أمتي للخلود.. وأمي ثواني اللقاء وقرض المعية هكذا علمتني التي أرضعتني نموت ونحيا لأجلك يا أمة الشعر والخيل على سفح أحلامنا نستحم بنورك ونشرب قهوتنا مرة كي تعيشي.. فعيشي. وإذا كان النور متاحاً في هذه القصيدة فإنه في قصيدة “دثر شقوق يدي” يصبح محلوماً به، حيث الشعالي يخاطب شاعراً آخر أو ربما الإنسان الشاعر معتبراً إياه “المعنى الأكبر” فيما يصور نفسه بـ “قلم” يثمر ما تزرعه عينا الشاعر في صدره الظامئ إلى النور: يا نهر النور الدافق أعرقني.. أغرق أودية الحلم الظمآ. خيول الحرف بالحقيقة والكشف والبوح يرتبط الحرف عند الشاعر احمد محمد عبيد الذي يسرج الحرف بليل ويمتطيه مثل حصان بحثاً عن مراده، بعد أن تناهبت الجهات شتات روحه، ساعياً وراء هدف بعينه: “ليكتبني الحرف على وضح النهار”، فيخيب مسعاه ويعود فارغ القلب إلا من الانكسار فلا يجد سوى الصمت. لكن الحرف يأبى الركون إلى السكون واجترار الخيبة، فيعاود الشاعر المحاولة مستنداً على الحرف ليبوح بما في قلبه من الجوى والوجد. مدفوعاً بما يثيره الشوق في ذاته المبدعة من رغبة حارقة في المعرفة.. لكن حصان الحرف على ما يبدو يعجز عن تحقيق رغبة الشاعر الذي لا يحظى سوى بطيوف تطفو على زبد الفصول. إذّاك يدخل في طقس الحكي عن الكلمات التي طارت في الغبار وعن الحلم: أرى وهج الحقيقة في انبهاري بما أوقدتُ من حطبي وناري وما أسرجت من حرف بليل ليكتبني على وضح النهارِ أسوق إلى الحقائق مَهر شوقي وترجعني القلائص بانكسارِ فأصمت علّني أجتاح أرضي ولكن لا سبيل إلى خَياري على وهج الحروف قرأتُ وجدي بما للروح مِنْ شوقٍ مُثارِ قرأتكِ ذاهلاً، فطَفتْ طيوفي على زبد الفصول بلا اختصارِ وأغرقت المواجدَ بالحكايا عن الكلماتِ طارتْ في الغبارِ عن الحلم الذي نبتت عليه جنائن من بهِيّ الجلّنارِ وعن فحوى الضباب إذا احتواني قبيل شروده بين النهارِ فأغرقني بوجدٍ لم يذقه سواي وقد تشربني احتضاري *** أثمة ما توهّج في ضلوعي لكي ترفو السفائنُ للمنارِ! وهل عادتْ لبوصلتي جهاتي وأقطابي تلاقت في مداري! لعل الضوء ينبض في بروقي لأهدَأ في شتاتي المُسْتثارِ ويرجع للخلايا ما تشظّى من الشوق المضمخ بالأوارِ ولكن هل تعود الروح نشوى بأوردتي، وقد طال انتظاري! وهل ستعود لي كل الحكايا لتجمعني.. وقد وشكَ انهياري! حرف للبوح.. حرف للبكاء لا يحتاج الشاعر طلال سالم إلا لأربعة حروف لكي يملأ الصحارى بالهيام. هو لا يقول لنا هذه الحروف الأربعة التي قد تكون حروف اسم المحبوبة، وقد تكون كلمة “أحبك”.. لكنه لا يخفي جمال الصورة الشعرية التي يبدعها للحروف التي يتخذها وسيلة تعبيرية للبوح بما يعتمل بين جوانحه. أنا لو أحكي من الحب حروفاً أربعاً أسقي الصحاري بهيامي أملأ الدنيا نشيدَ الحب شرعاً بوفاءٍ فيه أسرارُ وئامي إن الشاعر يسبغ على حروفه الأربعة فعلاً معجزاً، وينسج صورة بليغة ليس فقط لأنه جعل الحروف مثل الينابيع والأنهار والأمطار قادرة على السقي والإرواء، بل لأنه اختار من الأرض أكثرها عطشاً ليرويها بهذه الحروف وهي الصحراء. وهكذا ارتفع بالمبالغة الشعرية إلى تخوم فنية تأخذ المتلقي إلى مطرح بعيد.. يحتاج إلى خيال محلق ليتصور أربعة حروف تروي الصحراء العطشى. بيد أن الشاعر في قصيدة أخرى قرر أن يجعل الحرف يبكي، ويذرف العبرات لكن بلا فائدة لأن الدموع كاذبة وعليه يكون الصمت أجدى للحبيبة. وبين الصمت والكلام يحدث الشاعر المسافة الجمالية التي تجعل طاقة الورد (الجماد) في ذبولها أكثر تعبيراً عن بكاء الحرف في حالة الادعاء: طاقةُ الوردِ التي أهديتِها ذبلت أسمى معانيها معي وتلاشى عطرُها المضنى بها وكسى لونُ بكاها مدمعي غادرتها قَطَراتٌ من ندى كان يحييني ويملا مهجعي فإذا ما عاد أمسي من هوىً يشعل النجوى يناديك .. ارجعي فاهجري بين الحنايا موعداً كان في الذكرى ثواني موجعي والزمي الصمت فما عادت تفي عَبَراتُ الحرف في ما تدّعي وذريني بالهنا أُحيي الدنا وأغنيها وإن شئتِ اجمعي ويشكل الشاعر مادة صورته من وحي العقل والخيال، ولهذا تبدو في خطابها الفني أقرب إلى الصورة الذهنية التي يصعب تصورها لكن يسهل تذوقها وتحصيل المتعة الذائبة فيها: سرح أساك بليل هده التعب واكتم تفجر جرح البوح إن عتبوا حاور دموع النجوم الباكيات لظى فوق اليراع حروفاً حين تنتحب واعزف صباك نشيداً في مآذنهم وارسم مشيبك نسياناً إذا نضبوا واسرح بسفح المدى الآتي تعانقه غيوم صبرك إن أقبلت واغتربوا واعبر حدوداً بدنيا حقدهم نسجت للشك أوهن بيت عندما ندبوا فأنت أنت ضيا الأبعاد منطلق في كفه تنطوي الآفاق والأرب وأنت أنت شفاء الزيف في فمهم تذوب الظلم إن فاضت به الريب أحلام لها شرفات في ديوانها “الهواء بأشرعته” تسافر الشاعرة آمنة محمد الشحي في اقانيم الحلم، تتقمصه، تلبسه ذاكرتها، وتسقط عليه ما شاءت لها رغبة القول. تصوغ هذه المفارقة اللافتة في هذه الصورة الشعرية المكثفة: غفا الحلم على وسادة بينما الليل وشاية مزمنة تؤنسن الشاعرة في هذه القطفة الرائقة الحلم، كما تؤنسن الليل، وتنشئ بينهما هذه العلاقة الغريبة التي طرفاها: النوم والوشاية. وهي في هذا المسلك تغمز إلى شيء من العدائية بين الحلم والليل ما يأخذنا إلى البعد الرمزي الذي ضمنته الشاعرة للحلم الذي لا بد وأن يكون شيئاً ممنوعاً وإلا لما قام الليل بفعل الوشاية، وما أكثر الأحلام التي لا تعترف بخطوط حمراء وتتجاوز الممنوعات. ويتسع المعنى الدلالي للحلم ليكون الحبيب المنتظر أو المحلوم به لفرح الروح: عام وأنا حاملة ابتسامتي بانتظارك حالمة بأكفك تحضن دمعة الوردة التي كبرت مثل عمري واشتاقت ... يمضي الليل مسرعاً وأنت مثل الحلم تغمض عينيك عن جمري وفي قصيدتها “جمرة اللحظة” يتحول الحلم إلى فاعل حين تعجز هي وهو عن الفعل، لكن فاعلية الحلم لا تتحقق إلا عبر اللغة يعني من خلال الحرف/ الكتابة: تتأرجح اللحظة جمرة لم نعد أنا وأنت بين خطين ودائرة محور الأسئلة اللغة ما بين حُلمين بدأت أول الخطوة وإذ تكتب الشاعرة أحلامها واضحة أو تدسها في النص ملفوفة بالمجاز فإنها تفتح للحلم أفقاً متجدداً، قابلاً للحياة والموت والانتحار والخديعة. ففي قصيدتها “في قبضة الحلم” يخرج الحلم إلى العالم الخارجي ليجد الموت بانتظاره. ثمة ما يؤشر هنا على أن الحلم لا يحيا في الخارج، إن قابل للحياة في داخلنا فقط. ففي الخارج تتربص به الخدائع من كل مكان لأنه لا يتقن التحقق، يتعثر في الهواء ويحترق بالنار التي تغويه بلمعانها وليس كل ما يلمع ذهباً: يفيض الحلم من فمه يغادره يستسلم في قطرات الرحيق فيتعثر فوق الهواء ليسقط مرتعشاً تخدعه النار بلمعانها يتحجب بالصخر يغادر حضن الجبل وعلى صدر طفل يتفتت يستكين فوق الخراب الفسيح يتنزه وعلى شفة المحتضر ينتحر ومن رقيق الصور ما اجترحته في قصيدة “شرفة أحلامك”، حيث جعلت الأحلام بيوتاً لها شرفات. وهي تعيش بين شرفتين: الأولى تتسع للحبيب والياسمين وهذه شرفة مفترضة موجودة في الأحلام فقط، والثانية هي شرفة الحقيقية التي تنصت فيها ليلاً لكلامه الوافر وحكمته، والطريق بين الشرفتين هي نافذة القلب التي حين تفتحا تكتشف أن الغرفة كلها شرفة كبيرة لحنانه. تركتك في أحلامي تجني الوقت وتُثمر ياسميناً في الليل حين أفتح نافذة قلبي أُنصت بهدوء إلى كلامك الوافر وحكمتك في الليل تصبح غرفتي شرفة كبيرة لحنانك وفي قصائد “صحوة النجوم” و”فراغات” و”كذبة” و”حلم العنكبوت” وهي كلها تتمحور حول الحلم أو توظفه أو تستلهمه، تتعمق دلالات الصور أكثر لتنسج علاقات متعددة بين أكثر من عنصر فني، ففي صحوة النوم تنسج الشاعرة علاقة متشعبة بين النجوم والحلم والقلم وبالطبع هي في وسط المشهد: في لحظة على أحلامها يضحك قلمي أتآلف مع مودتي تزهو حروفي تفتح خزانتي وتلبس ثيابي النجوم على سريري أمشّط شعرها أقلّم ضفيرتها النجوم على كتفي لامعة لامعة بيد أن هذه العلاقة البناءة أو التفاؤلية لا تستمر على نفس الوتيرة، فالأحلام تصبح في “فراغات” إعلان للخيبة التي حصدتها بعد انتظاره ولم يأت، وفي “كذبة” يتكشف لها زيف أحلامها، وفي “حلم العنكبوت”تبني الشاعرة جنتها الصغيرة من الأحلام المتجددة والعصافير والنسمات لكنها تنهار او تتحطم على صخرة الواقع وما فيه من معاناة: كنت أملك بيتاً وكل يوم كانت تتجدد أحلامي عصافير لاهجة تبني أعشاشها مع نسمات الصباح تحلّق تغلق ذاكرة الوجد تشيد ملكها صرنا عراة وبقايا أشلاء وذاكرة مبعثرة أصبحت الطيور لا تدرك الطيران فارتضينا بالمتاح وهكذا تنعى الشاعرة حلمها الذي لم يبق منه سوى القبول بـ “المتاح” ولأن المتاح لا يرضي الذات المبدعة فإن الجسد لا يتسع للقلب. سؤال مفاجئ بفنية لا تخطئها العين تفتح الشاعرة لميس فارس المرزوقي الباب على دلالة غير مطروقة للحلم. تتساءل في قصيدة متلاحقة، ومتسلسلة في حركتها المنطقية، عن الكيفية التي تحدث بها هذه الأحلام بكل ما فيها من خوارق وغرائب وبشر وحكايات رغم أن غرف النوم صغيرة جداً: منذ كنت صغيرة وأنا أسمع عن شيء يدعى الأحلام عن قصص يرويها الأطفال كل صباح لم أفهم كيف يحلق أحمد فوق مدينتنا... حين ينام أو أن تصرخ ليلى خائفة من قط وردي اللون فتقنعها أمي بالنوم: “هذا مجرد حلم” مجرد حلم؟! في أي مساحات تجري أحداث الأحلام وغرف النوم صغيرة لا شارع فيها أو شاطئ نحن لا نملك في الغرفة حتى بستان تتنوع أسئلة الأطفال في قلبي من منهم لا يحلم مثلي؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©