الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبحث عن المعرفة فإنها لن تبحث عنك!

إبحث عن المعرفة فإنها لن تبحث عنك!
6 سبتمبر 2012
دوما نكرر إننا متخلفون عن الركب العالمي في مجال الصناعة على مختلف مستوياتها، وهذه حالة عامة في الوطن العربي، بمعنى أنه لا توجد في أي بلد عربي صناعة ثقيلة كالسيارات أو الطائرات أو القطارات وغيرها كثير.. كذلك لا توجد صناعات متوسطة تتعلق بالمعدات والأجهزة. صحيح إن دول الخليج العربي تميزت على مستوى العالم في الصناعات البترولية والكيماوية والغاز وبصفة عامة الطاقة الأحفورية، بسبب طبيعتها المتتجة لهذه المادة الثمينة التي نحتاجها جميعا ولا نكاد نستغني عنها، لكن بقيت دول عربية أخرى غير نفطية، بعيدة تماما عن أي توجه صناعي حقيقي، نستطيع معه أن نشير إليها بأنها دول صناعية.. بل يفتقر العالم العربي لجملة من المقومات لإنشاء هذه الصناعة، مثل التخطيط والتعليم وبالتالي تدريب الأيدي العاملة فضلا عن العاملين والمعدات التي تعتمد عليها هذه الصناعات. العالم العربي فشل تماما حتى في إقناع الشركات الكبرى في أن تفتح فروع لمصانعها لدينا. على سبيل المثال إحدى الشركات الأميركية التي تصنع السيارات، قررت أن تنشئ لها مصنعا جديدا لسياراتها بالقرب من منطقة الشرق الأوسط لخفظ تكلفة الشحن البحري، وأيضا لكي تكون مخرجات هذا المصنع متميزة بتواكبها وتماشيها مع المناخ وبيئة الشرق الاوسط، خاصة أن مصنعها الأم يقع في مدينة معروف عنها الأجواء الباردة. ضمور صناعي لم تتمكن أي دولة عربية من إقناع هذه الشركة لنقل هذه الصناعة إليها، وأن يتم إنشاء المصنع المنتظر فوق أراضيها، وبالتالي فقد تم إنشاؤه في استراليا، رغم بعدها ورغم إنها أيضا ستضطر لتحمل أعباء تكاليف الشحن. أيضا شركات الإلكترونيات اليابانية وغير اليابانية عندما حاولت أن تنشئ مصانع خارج بلادها بالقرب من أسواقها الكبرى، تسهيلا لوصول بضائعها ولتكون منتجاتها متواجدة في الأسواق بسرعة بسبب الزخم الهائل في المنافسة، ونظرا لأن العالم العربي يعد واحدا من أكبر المستخدمين للتقنيات الحديثة، إلا إن حكوماته فشلت أيضا في اقناع أي من هذه الشركات ان تكون مصانعها في المنطقة العربية. وقامت العديد من تلك الشركات بتشييد مصانعها في بلاد مختلفة كسنغافورة وغيرها. لا نريد هنا، تعداد أسباب وعوامل جذب الاستثمار الصناعي ونحوها من التفاصيل التي قد يكون أصحاب هذا التخصص هم الأبرع والأقدر في الحديث عن هذا الجانب، إلا أنه من المؤكد أن من الأسباب ـ إذا لم يكن أهمها ـ هو عدم وجود ثقافة استثمارية حقيقية، وإن كنت أستثني بعض دول الخليج ليس محاباة أو انحيازا بل لأنها فعلا تمكنت على امتداد العقود الماضية من نقل تقنيات هائلة تتعلق بالتنقيب النفطي، بل تميزت على مستوى العالم في هذا المجال، وهي ـ أي دول الخليج ـ من الطبيعي أن تهتم بهذا المجال، فهي تملك مخزونات النفط العالمي في باطن الأرض، وأن تطور تقنياتها في هذا المجال، وكان يمكن لها ان تبقى هي أيضا مستهلكة مكتفية بالتصدير بواسطة شركات أجنبية، لكنها عملت على أن تكون من اللاعبين في أسواق النفط وهو ما تفعله اليوم، لذا نشاهد معظم شركات النفط الخليجية تدار بأيدي مواطنيها. دول أخرى في العالم العربي فشلت تماما ـ مع الأسف الشديد ـ في هذا الجانب، وأقصد أنها فشلت في استثمار ما تملكه من موارد بشرية وطبيعية وتسخيرها لتكون روافد انتاجية تفيد الدخل القومي لها. على سبيل المثال تجد دولة تملك مقومات سياحية عظيمة من المناخ والمناظر الخلابة فضلا عن الموقع والتاريخ، فشلت في استثمار هذا الجانب، فلا تجد لديها حتى مفاهيم بدائية حول ما يسمى بصناعة الترفية بل حتى في المفهوم الأوسع وهو السياحة.. بل نجد إن قطاعها السياحي متعثر بكل ما تعني الكلمة وفي جوانبها المختلفة، حيث تكثر فيها جرائم السرقة، وتعاني بنيتها الفندقية من التواضع وضعف الرقابة فضلا عن مشكلات المواصلات والطرق ونحوها. دولة أخرى تملك مقومات زراعية عظيمة ولديها الموارد المائية والأيدي العاملة، لكنها ورغم امكانياتها الطبيعية التي وهبها الله، تقوم بإستيراد القمح والألبان واللحوم وغيرها من الأغذية، وهي بسبب هذا تعاني من خلل كبير في ميزان المدفوعات لديها، وأجزاء واسعة منها يصيبها الفقر والمجاعات، وهي بلاد يقسمها الماء العذب. دون شك أنه سوء تخطيط وسوء ترتيب في الأولويات، والمختصون يعلمون الكثير في هذا المجال.. لكن المقصود من إثارته هنا، هو القاء الضوء على جانب مهم له أرتباط بهذه الأزمة بطريقة أو أخرى وهو ما يعرف بصناعة المعرفة في العالم العربي، وفي ظني أن هذه هي الصناعة الحقيقية المغيبة تماما وبالتالي مغيب معها المفهوم الصحيح لها، فعدم المعرفة هو سبب لكل المشاكل والعقبات والأزمات في عالمنا. تعريفات مبتورة لدى البعض اعتقاد يفيد بأن المعرفة هي إجادة الكتابة والقراءة، وبعض آخر يقول بأنها تتمثل في وجود حركة نشطة في مجال التأليف والنشر، بل من أغرب ما يقال في هذا السياق هو أن المعرفة لا علاقة لها بالعلوم التطبيقية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها، وانها تنحصر في ما يعرف بالأدب.. ولو واصلنا محاولة تعريف المعرفة لدى السواد العام من الناس، سنصاب بالذهول مما قد نسمعه، وهذا انعكاس لحالة التغييب الثقافي الذي عاشته شرائح واسعة في عالمنا العربي، بل لحالة واضحة من التسطيح المعرفي، بل الأكثر ألما هو تغييب هذا المواطن حتى عن إدراك أولوياته في الحياة وعدم معرفته بالتالي بحقوقه والواجبات التي عليه. هذه الحالة، وهذه النظرة للمعرفة رغم قصرها ومحدوديتها، هي ايضا تعاني من خلل أساسي في تعريف المعرفة نفسها. وهناك مشكلة أخطر وهي أنه حتى ولو أردنا وحاولنا الاتفاق مع هذا التبسيط للمعرفة، وقلنا أن المعرفة على سبيل المثال هي أن نؤلف ونكتب وننشر فإننا سنجد أننا كعرب في ذيل قائمة الأمم في مجال التأليف والنشر والترجمة. لكن غني عن القول إن تعريف ومفهوم المعرفة أعظم وأكبر من هذا الاختزال المخل أو هذه النظرة السطحية لها، فقاموس أوكسفورد الانكليزي يرى بأنها المهارات والخبرات المكتسبة بالتعليم والتجربة، كما إنها الفهم النظري أو العلمي، وهي الحقائق والمعلومات والوعي والخبرة التي تم اكتسابها سواء من القراءة او المناقشة أو الواقع. ولموقع ويكيبيديا على شبكة الانترنت، آراء في غاية من العلمية والدقة وهو يتناول المعرفة حيث قال: “هي وصف لحالة أو عملية لبعض الجوانب الحياتية بالنسبة لأشخاص أو مجموعات مستعدة لها، فمثلا إذا كنت “أعرف” أنها ستمطر، فإنني سوف آخذ مظلتي معي عند الخروج. والمعرفة أيضاً هي ثمرة التقابل والاتصال بين الذات المدركة وموضوع مدرك، وتتميز من باقي معطيات الشعور، من حيث أنها تقوم في آن واحد على التقابل والاتحاد الوثيق بين هذين”. في هذا السياق نستذكر تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر في عام 2002م والذي كان عنوانه وموضوعه عن المعرفة في العالم العربي، وقد خلص الى وجود التخلف النسبي للبلدان العربية في مضمار اكتساب المعرفة بإعتباره أحد النواقص الجوهرية المعوقة للتنمية الإنسانية في بداية القرن الحادي والعشرين، فالتاريخ يفيد أنه كان للعرب في حقب سابقة مساهمات بارزة في انتاج المعرفة ومن ثم في اغناء الرصيد المعرفي للبشرية جمعاء. وجاء في التقرير أيضا، أنه بات مستقرا أن المعرفة عنصر جوهري من عناصر الانتاج ومحدد أساسي للإنتاجية، بمعنى أنه ثمة تضافرا قويا بيت اكتساب المعرفة والقدرة الانتاجية في المجتمع، ويزداد هذا التضافر قوة في النشاطات الإنتاجية العالية القيمة المضافة التي تقوم وبدرجة متزايدة على كثافة المعرفة والتقادم المتسارع للمعارف والقدرات، هذه النشاطات هي معقل القدرة التنافسية على الصعيد العالمي خاصة في المستقبل. ومن هذه الجزئية يتضح لنا الربط الواضح والمتين بين المعرفة وكافة جوانب حياتنا وتحديدا الاقتصادي والأدبي، وما دمنا نعاني من قصور وتعثر في مجال الاقتصاد واستثمار مواردنا في عالمنا العربي المتنوع فإننا ودون شك نكون متعثرين معرفيا، في مجالات أخرى. إن الحياة الاجتماعية عبارة عن شبكة متصلة ببعضها لا يمكن أن تقسمها أو تعزل وحداتها عن بعضها البعض، فإذا تعثرنا اقتصاديا تراجعنا ثقافيا، واذا كان هناك جمود ثقافي فأبحث عن القراءة والكتابة، وهي سلسلة طويلة لعل أهم رابط بينها وأقوى رابط لها هي كلمة واحدة شاملة “المعرفة” لنغني عالمنا العربي الجميل بها وننشرها، وكما قيل: أبحث عن المعرفة فإن المعرفة لن تبحث عنك!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©