الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سر الخلطة التركية

سر الخلطة التركية
6 سبتمبر 2012
أصبحت تركيا موضع اهتمام الكثيرين في العالم العربي، وصارت النموذج لدى فريق من المثقفين، باعتبار أنها جمعت بين نموذج الدولة المدنية، العلمانية بنص الدستور والتوجه الاسلامي في المجتمع، على يد حزب العدالة والتنمية، وتعددت الكتب والدراسات العربية عن تركيا، لكن كتاب الباحث الألماني راينر هيرمان بعنوان “تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية” له طابع مختلف، جاء بعد أن عاش المؤلف في اسطنبول 17 عاما وعمل مراسلا صحفيا بها، ولذا جاء الكتاب مليئا بالكثير من المعلومات الدقيقة، وله عنوان آخر، شارح للعنوان الرئيسي وهو “الصراع الثقافي في تركيا”. الباحث يهتم بتجربة رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا وقصة صعوده هو وحزبه، لكنه كي يصل الى هذه المرحلة نراه يدرس التجربة التركية منذ عهد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، الذي خلق وضعية متميزة للجيش التركي، جاءت هذه الوضعية لأن الجيش نجح في تحقيق استقلال تركيا وطرد اليونان منها وبناء الجمهورية والقومية التركية، ويلاحظ الارتباط الكبير والتاريخي بين تركيا والمانيا، بدأ ذلك حين طلب السلطان عبدالحميد بعثة من الجيش الالماني لتحديث الجيش العثماني في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد ذلك كان أتاتورك نفسه متأثرا بالمدرسة الألمانية وحين شرع في تأسيس الأمة التركية، كان يقلد نموذج الأمة الألمانية زمن بسمارك وحذا حذوه، ولان اتاتورك وخلفاءه كانوا شخصيات عسكرية فإنهم ما كانوا يثقون بالديمقراطية ولا بالشعب، ومن ثم كانوا يتدخلون في الوقت المناسب للحيلولة دون أي اختيار للشعب أو مسلك ديمقراطي يرون أنه يمكن ان يعرض تركيا للخطر، خاصة وأنها محاطة بأعداء، وفي داخلها أقلية كردية كبيرة نريد حريتها، وكانت هناك المشكلة الأرمينية من زمن الدولة العثمانية. الاتصال والانقطاع يهتم الباحث الألماني بسؤال يراه مهما وهو كيف استطاعت تركيا ان تصبح دولة علمانية تماما وتحدث انقطاعا عن تاريخها الإسلامي بينما لم يتحقق ذلك في بلد مثل مصر أو ايران، فضلا عن العالم العربي كله؟ هنا يلعب التاريخ دوره وكذلك الجغرافيا، تاريخيا هناك النموذج العربي، بل ان الإسلام بدأ عربيا، وهو متجذر في الروح والتاريخ والدولة العربية، ومن ثم راحت الدساتير في الدول العربية تؤكد أن الاسلام هو دين الدولة وأن شريعة الإسلام هي المصدر الرئيسي للتشريع وأحيانا هي المصدرالوحيد للتشريع، ولدى ايران نموذجها الخاص في الإسلام وهو الإسلام الشيعي، الذي يدخل في مكونات الدولة، الأمر يختلف تماما بالنسبة لتركيا، وقد أدرك أتاتورك ومن معه أنهم إذا اهتموا كثيرا بالاسلام وبناء الدولة فهذا يعني أنهم، في النهاية يحاكون النموذج العربي، وفوق ذلك فإن تركيا، جغرافيا، متفتحة على أوروبا ومرتبطة بها والطموح هناك أن تصبح جزءا من أوروبا. نجحت النخبة التركية منذ أتاتورك أن تقوم بتهميش الاسلام من الحياة العامة تماما، كان يكفي الفتاة ان ترتدي الحجاب حتى تحرم من حق الالتحاق بالجامعة أو تتولى وظيفة من وظائف الدولة، وعبر أجيال صارت النخبة علمانية تماما ومعادية للتوجه الإسلامي العام وصارت المؤسسة الدينية في تركيا هيئة من هيئات الحكومة، تخضع لها وتقوم الحكومة بتعيين الوعاظ والائمة في المساجد وتحدد لهم المهام التي يقومون بها وحدثت محاولات للتمرد على هذا الوضع ومن ثم كانت ظاهرة الاسلام السياسي التي قادها نجم الدين أربكان ولم تنجح محاولة أربكان والسبب انه لم يدرك طبيعة الدولة التركية، كان أربكان متأثرا بتجربة الاخوان المسلمين في مصر، لذا لم يتقبله المجتمع ولا الدولة، وتحديدا الجيش التركي الذي يعد ضامنا وحاميا للدستور وله الحق في ان يتدخل في الوقت المناسب لحماية الدولة، وهكذا تم اجهاض تجربة اربكان فقد تم إيقاف حزبه وأدخل هو السجن، واستوعب هذه التجربة جيدا رجب طيب أردوغان، فقد كان تلميذا لأربكان وعضوا بحزبه لكنه ما لبث أن تمرد على أربكان ورأي ان يؤسس حزبه مؤمنا بالعلمانية ومتمسكا بها مع التسامح مع الدور الاسلامي في المجتمع، بحيث يسمح للسيدات اللاتي يرتدين الحجاب بالالتحاق بالجامعة وتولي الوظائف العامة وضعفت قدرة الجيش وتدخله لإسقاط الحكومة في الوقت المناسب. معدلات ومعادلات تشغل هذه القضية الباحث الالماني كثيرا، ويتوقف عند حرب اميركا ضد العراق سنة 2003، والذي حدث أن الولايات المتحدة طلبت السماح لقواتها بالدخول الى العراق عبر تركيا أرضا وجوا لنفتح جبهة اضافية ضد صدام حسين، وقد وافقت تركيا على هذا الطلب وكان أردوغان هو رئيس الحكومة، وتقدمت الحكومة الى البرلمان لتنال موافقته على الطلب الاميركي، لكن العسكريين وقادة الجيش التركي رفضوا هذا الطلب بشدة، وتمكنوا عن طريق حزب أتاتورك من عرقلة هذا الطلب ورفض بالمرة، ولم تغفر الولايات المتحدة ذلك لقادة الجيش التركي ومن ثم ساندت الحكومة التركية في تصديها لتدخل الجيش في السياسة وعرقلة الديمقراطية. كان قادة الجيش مازالوا متأثرين بالنموذج الأوروبي، ولم يدركوا بعد التجربة الاميركية وهذا ما أضعفهم سياسيا أمام الحكومة التي رأي رئيسها د. اردوغان أن يستغل الفرصة لإبعاد قادة الجيش عن العملية الديمقراطية. وحققت تركيا معدلات تنمية عالية وانفتحت على البلاد العربية، فقامت برعاية المحادثات السرية بين سوريا واسرائيل ودعم علاقاتها بمصر وبدول الخليج، وكل ذلك برأي المؤلف كان في إطار الرؤية الاميركية للمنطقة، وفتح الأسواق العربية أمام المنتجات والصناعات التركية وحققت تركيا نجاحا في الجانبين، والهدف البعيد هو قبول تركيا عضوا في الاتحاد الاوروبي. تركيا دولة علمانية تماما الى اليوم وقد تم إلغاء عقوبة الإعدام في الدستور وكذلك لم تعد هناك جريمة الزنى، وذلك من أسس الشريعة الاسلامية ورغم ذلك فإن حرية الصحافة والتعبير ليست متاحة تماما في تركيا، ويتوقف راينر هيرمان عند الروائي التركي الذي فاز سنة 2006 بجائزة نوبل في الأدب ولم يحتف الأتراك به لأنه انتقد مذابح الأرمن سنة 1915 في تركيا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©