الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرواية جنس التعدد اللغوي

الرواية جنس التعدد اللغوي
6 سبتمبر 2012
صدر مؤخرا للباحث والناقد الأكاديمي المغربي محمد بوعزة كتابه الجديد: “حوارية الخطاب الروائي من باختين إلى ما بعد باختين”، ويقع الكتاب قي 135 صفحة من الحجم المتوسط، وقد زُين بغلاف رسمت لوحته الفنانة الفلسطينية أماني أسعد بابا. يناقش الكتاب على امتداد خمسة فصول قضايا البوليفونية الروائية والتعدد اللغوي في الرواية. عالج الفصل الأول: قضايا أسلوبية الرواية، وعالج الفصل الثاني: مستويات التعدد اللغوي، وعالج الفصل الثالث: الحوارية الروائية، أما الفصل الرابع فناقش: البوليفونية الروائية، فيما بحث المؤلف في الفصل الخامس قضايا: التشكيل اللغوي في الرواية. لقد كان ميخائيل باختين (1895 ـ 1975) ظاهرة متميزة في حقل الثقافة السوفياتية خلال هذا القرن، تجسدت في كتابات فرضت نفسها رغم ما عرفته من انقطاعات والتباسات، وخصوصا حين تعمد باختين نفسه ـ حسب الدكتور محمد الدغمومي الذي وطأ لهذا الكتاب ـ في مراحل معينة من إخفاء اسمه وراء أسماء أفراد من الجماعة التي عملت معه ضمن حلقة جدير بها أن تسمّى حلقة باختين، إسوة بجماعة الشكلانيين الروس أو جماعة براغ فيما بعد. ولعل تميز فكر باختين آت من مصدرين: من قوة تفكيره الذي يجسد حوارية حقيقية بين فروع العلوم (الفلسفة ـ علم الاجتماع ـ علم اللغة). مستخلصات العلوم ومن الموقع الذي يحتله هذا التفكير كفعل تصحيح لشطط الشكلانيين وجمود تحليلاتهم وتسرع الفكر الماركسي في تفسير النصوص الأدبية وغيرها، بحثا عن علم بديل لهما قادر على فهم خصوصية تلك النصوص واستيعابها. ولقد تطلب ذلك من باختين الاستعانة بمفاهيم مستخلصة من العلوم البحتة أيضا، وتطويعها بحسب الضرورة والفعالية لاستنطاق النصوص باعتبارها “بناء” لغويا يستدعي توسيعا لعلم اللغة حتى يكون عملا شاملا محيطا تلتقي فيه كل النصوص، وتبوح بأسرارها الاجتماعية، وتتيح إمكانية تأريخها بطريقة أعمق غير وحيدة البعد يمتزج فيها الأدبي والمعرفي والسوسيولوجي والنفسي، وترشح إيديولوجيته من داخله لا من إسقاطات وهمية مسبقة. ومن أجل ذلك، وخصوصا بصدد النص الروائي، جعل باختين مشروعه فعل اختبار وتنظير في الآن نفسه، وتجهز بالمفاهيم الكفيلة بتوصيف “الحوارية” التي تطبع النص الروائي وتعكس تحولاته وميله إلى الإبداعية عبر استغلال ممكنات الكلام والثقافة. وهنا نستطيع القول إن أهم المفاهيم التي تجهز بها باختين هي المفاهيم التي حملها البحث الذي بين أيدينا، مثل تعدد اللغات والأصوات والهجانة والحوارية والتناص الخ... وهي مفاهيم لم يرد باختين أن يصل بها إلى درجة التنظير المطلق، ولا أيضا أن يقع في عذر النسبية: وإنما وصل بها إلى الحد الذي تصبح فيه معقولة ومحققة للمقبولية، أي كفعل فهم مبرر بقوة البناء النصي نفسه. لذا ـ وكما وضح الباحث محمد بوعزة ذلك ـ علينا أن نحذر من جعل مفاهيم باختين مفاهيم معيارية حاملة لقيمة معينة، بمعنى ليس هناك موجب من داخل فكر باختين واستراتيجية هذا الفكر، لكي نقول إن الرواية النموذج هي التي يشتغل فيها تعدد اللغات والأصوات والتناص، أو أنها بسبب ذلك تملك قيمة بها تفضل غيرها، فقد يكون العكس هو الصحيح... على خلاف ما روجه بعض النقاد العرب الذين اطلعوا على فكر باختين، بدون وعي نقدي متريث. ويرى الدكتور الدغمومي أن من حسن الحظ أن الباحث محمد بوعزة قد استخلص لنفسه هذا من خلال جلسات الحوار معه، إضافة إلى ثقته في نفسه، التي خولته اقتحام موضوعات إشكالية، ومكنته من بلوغ مستوى مقنع ومشكور، على أمل أن يستمر في ملاحقة تفكير باختين بالبحث والمناقشة من أجل بلورة وعي نقدي مطلوب في كل الباحثين والقراء معا. وانطلاقا من فرضية باختين التي تعتبر الرواية جنس التعدد اللغوي بامتياز، سيتجه البحث إلى استقراء أشكال التعدد اللغوي وتحققاته النصية والأسلوبية، للإجابة عن سؤال كيف تنتج الرواية تعددها اللغوي؟ والمشكل الذي يطرح هنا أن هذه الأشكال ـ من جهة أولى ـ تتميز بتعددها وتنوعها، ومن جهة أخرى، هي ذات طبيعة تاريخية، بمعنى أنها مشيدة ومصاغة خلال التطور التاريخي للجنس الروائي بمختلف أنواعه وأنماطه. والنتيجة أن هذه الأشكال غير محدودة، ومتجددة باستمرار، بحكم ارتباطها بالصيرورة التاريخية للجنس الروائي وخصوصية الجغرافيات الثقافية التي ينتج فيها. لذلك يشدد الباحث على ضرورة اعتماد النسبية الثقافية في التعاطي مع نظرية باختين، التي تتيح صياغة وعي نقدي يضع هذا النموذج في سياقه الثقافي، ويخلص إلى أن أشكال التعدد اللغوي التي استقرأها باختين، لا تمثل سوى أمثلة ونماذج مرتبطة بالسياق الأوربي، ولا تمثل نماذج نهائية ومعيارية، وهو ما يسمح بصياغة أشكال جديدة من داخل المتن الروائي العربي. وميزة هذه النسبية أنها تحمي الوعي النقدي من السقوط في شراك المعيارية. وهذا ما سيدفع الباحث إلى تطوير بعض المفاهيم الباختينية بالتوسيع لتنفتح على أشكال وظواهر جديدة في النص العربي. الأسلبة والتهجين يستقصي الفصل الثالث آليات اشتغال مفهوم الحوارية في النص الروائي، على اعتبار أن التعدد اللغوي، لا يحقق إنتاجيته الجدلية ودوره في التعددية النصية إلا بشرط تشخيصه حواريا، في علاقات الأسلبة والتهجين والسخرية والباروديا، التي تعمل على تهجين سجلات الخطابات، وبالتالي إنجاز سرد ثنائي الصوت، ووعي مزدوج بين الوعي المؤسلب (بكسر الام) والوعي المؤسلب (بفتح اللام)، يخلص الرواية من السرد الأحادي الصوت والنبرة. هذه الفصول السابقة شكلت المهاد الذي يفضي إلى الحديث عن البوليفونية الروائية، أي التعدد الصوتي، تعدد وجهات النظر والأصوات والرؤى والأطروحات. وهو ما يعني أن البوليفونية الروائية تستدعي أولا على مستوى الأسلوب تشخيصا حواريا، أي تعددا لغويا، بمعنى ينبغي أن تبنى على تشكيل لغوي اجتماعي، وليس على إسقاط أيديولوجي معطى بشكل سابق على وجود النص الروائي، لذلك سيتجه هذا الفصل إلى توضيح إشكالية إيديولوجية البوليفونية الروائية، التي وسمتها جوليا كريستيفا بإيديولوجيها الشكل. وبفعل الإستراتيجية الابستيمولوجية النقدية للكتاب، سيتجه الباحث إلى إعادة النظر في مفهوم البوليفونية الروائية عند باختين بالتوسيع المفهومي والوظيفي. توسيع سيتحقق بالانفتاح على نظريات ما بعد باختين، تمثلت في منظورات جديدة سواء في السرديات أو نظرية الرواية لدي ميلان كونديرا ومفهوم الذاتية السلبية عند الفيلسوف أدورنو، وهو ما ممكنه من تجاوز شبح الثنائية الذي ظل يحوم حول نظرية باختين في تمييزه المعياري بين البوليفونية والمنولوجية (الصوت الأحادي)، وتحيزه للرواية البوليفونية التي تحولت عنده إلى معيار استيطيقي ترتبت عنه أحكام قيمة جعلت نظريته تسقط في المعيارية. وفي إطار طموح البحث لتطوير نظرية باختين ضمن الأفق الذي أسماه الباحث بما بعد باختين، يطرح البحث مفهوم التشكيل اللغوي لمقاربة اللغة الروائية، كمقترب نظري للكشف عن آليات اشتغال اللغة الروائية، لتجاوز مأزق الثنائية المعيارية في نظرية باختين المتحيزة للرواية الحوارية على حساب أشكال روائية أخرى تنتج حواريتها وتعدديتها وانفتاحها ضمن أنماط استيطيقية تأويلية تحتاج إلى منظورات جديدة لم تكن متاحة لباختين، ضمن هذا الإشكال يتناول هذا الفصل قضايا: اللغة الغيرية، اللغة السردية، التذويت، شعرية الرواية، مجازية الرواية، وهي قضايا ذات طبيعة إشكالية معقدة غير محسومة. صدر كتاب “حوارية الخطاب الروائي من باختين الى ما بعد باختين” عن دار أمل للنشر والتوزيع في تونس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©