الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحياة وأخطاؤها المباركة

الحياة وأخطاؤها المباركة
6 سبتمبر 2012
ما يميز الكتابة الشعرية عند الشاعرالعماني أحمد الهاشمي في ديوانه الصادر حديثا ضمن منشورات مجلة نزوى بعنوان “بيت فوق سقف العالم”، هو هذا الإيقاع الدرامي المتوتر للذات المنهوبة بأصواتها وأمواج روحها المضطرمة، وهي تتقاذفها ضفاف الحياة كمراكب تشرف على هلاكها دون تلويحة وداع، أو نداء أخير حزنا على عالم ينهار وحياة من هشيم طفولة لا تغتفر. ثمة حس صادم يسم لغته الشعرية الموزعة بين إحساس بالغضب والتمرد والإدانة التي تمتد من الواقع الذي يعاين بلادته وجموده وتراكم خساراته الفاجعة، وحتى حدود العالم الحافل بقسوته ومذابحه ويأسه وغربة الإنسان المنفي على تخومه، ما يجعل تلك الروح المضطرمة تنوس بين الغضب واليأس تعبيرا عن اختلال تلك العلاقة الإنسانية مع هذا العالم. إن هذه الجدلية التي تؤطر مساحات التجربة الشعرية في هذا الديوان، تجعل من المتعذر على أي قراءة أن تفصل حدود تلك الثنائيات المندغمة، في صميم رؤية الشاعر عن بعضها البعض، لأن كلا منهما هو بمثابة الوجه الآخر لهذه التجربة الشعرية. اللغة حارسة الخراب مع أن ثمة تفاوتا بين قصائد الشاعر الأولى في الديوان، وقصائده الأخيرة، سواء من حيث طول القصائد وقصرها، أو نضوجها الشعري والذي يعود فيما يبدو إلى تفاوت في تاريخ كتابتها، أو بنيتها الاستعارية، فإن الشاعر قدم نفسه وتجربته بكل ثقة وهو ما يمكن للقارئ أن يتلمسه في تنوع أساليب التعبير الشعرية في النص الواحد، وانتقاله من مستوى إلى آخر في كل مقطع من المقاطع، التي تتألف منها القصيدة كالوصف والنداء والبوح والنفي والسؤال والتكرار الاستهلالي والتكراري العباري الذي يأتي في وسط الكلام، إضافة إلى تلك اللغة المكثفة والمحكمة البناء، في كل مقطع من تلك المقاطع التي تتألف منها القصيدة، ما يشي بمقدرته على صوغ لغته دون ترهل أو استطراد، لكنه في كل هذا لا يخرج عن تلك الرؤية المأساوية الحزينة إلى العالم وكأنه حارس لهذا الخراب وشيخوخة طفولته المبكرة: “كنت أقف في الألم/ تحت شجرة الحرام/ بانتظار الحياة أن تسقط”. بينما يقول في قصيدة أخرى: “أيتها الأرض/ أظافري لم تعد وضيئة/ كرؤوس العشب الأخضر/ فعلى أي غيمة/ أنيخ شيخوختي/ وعلى أي صدر/ أريق دموعي”. إن تلك الرؤية الرومنسية الغاضبة والتواقة إلى الأعالي هي تعبير في الآن ذاته عن نزوع عارم نحو التمرد، بقدر ما هي محاولة لاستعادة العلاقة مع الطبيعة البكر بعد أن فقدت عذريتها وجمالها، حيث تبرز الأنا بأشواقها المنهوبة وتوقها للخلاص من ربقة هذا العالم: “خذني إلى أقصى الذرى/ لأقترب من سمائي/ لأكتحل بالبروق الخواطف/ وأشرد في زعيق العقبان/ ولتخفق يا قلب ثانية/ حرا مع الرعيان والضواري/ والنجوم المجنحة”. حياة فائضة عن الحاجة بين أنا الشاعر وأنا العالم ثمة جرح مفتوح على الآخر يمتد عميقا، وثمة إحساس فادح بالخسارة والخذلان وبين أنا الذات في تشظيها ثمة شعور متفاوت، يتوزع بين التوق والجموح، والإحساس بالانطفاء والخيبة والفجيعة حتى في النص الواحد، وإذا كان الإحساس الأخير هو الغالب على رؤية الشاعر فلأن الشاعر يقف أمام العالم والحياة المدججة بالحروب والكوارث والرعب بقلب يائس وحياة فائضة عن الحاجة: “أنا الشجيرة المبتلة بالعويل/ في الدغل الخائف المضطرب/ من يقرأ لي حكاية.. من يمد يداً/ من يسمعني في الغبش النائي/ أغنية سلام/ لا أراني في هذه العتمة الوارفة/ سوى جذر نازف في الريح”. تتميز قصيدة خطوات الربيع الطويلة عن باقي قصائد الديوان بلغتها المكثفة جدا والموحية، والتي تشبه الموتيفات أو الومضات الشعرية الخاطفة، والتي تتوزع على أكثر من أربعين مقطعا صغيرا، تطغى عليها الصورة الشعرية ذات البنية الاستعارية الموحية، وتنوع أساليب التعبير، والأفكار البسيطة والاهتمام بالتفاصيل اليومية للحياة والذات في مكابدتها وحيرتها، وبحثها عن عزاء ما وسط دوامة الحياة الأشياء ومفارقاتها الغريبة، دون أن يغيب ظل الموت عن المشهد، أو يختصر الحزن والفجيعة هذا المشهد بما يكشف عن هذا النوسان الدائم في تجربته بين اليأس والفرح والألم والخذلان: “حياتي فراشة قصيرة الأجل/ دمعتي في بطن الليل/ وعل يحدِّق في جبل ينهار/ وصحراء تطوى كالخاتم/ رغم هذا وذاك/ بلاد سعيدة أحيانا/ تدعوني إليها”. المعجم الشعري من المعروف أن الاستخدام المكثف لبعض المفردات التي تهيمن على المعجم الشعري لأي شاعر تشكل مفاتيح أساسية للدخول إلى عالم التجربة، وإدراك المحاور الأساسية التي تدور حولها تلك التجربة . وفي قصائد هذا الديوان ثمة مفردات بعينها أو بما يحيل عليها، من حيث المعنى، تطغى على معجم الشاعر بصورة تفصح فيها عن شواغل هذه التجربة، لعل أهمها هو التعبير عن الرغبة في الانطلاق والحرية والتسامي والتحرر من سطوة هذا العالم، وفي الآن ذاته التعبير عن اليأس والعجز في مواجهة هذا العالم القاسي، كما تشي بذلك المفردات والتعبير التالية: (الأعلى، السماء، النجوم، فوق سقف العالم، خذني عاليا، عاليا إلى حيث استقر أبدا، خذني إلى أقصى الذرى، لاشيء يغري بالتحليق، روحي لم تكن حرة أبدا، كلما مرت سحابة/ صحت يا شقيقتي، تخطفني النسور). وإذا كانت قصائد الديوان بما تعبر عنه من جدلية تسم التجارب الشابة غالبا تتجلى في الحس الغاضب والرغبة في التمرد والتحرر من سطوة الواقع الجامد، يقابله شعور باليأس والانطفاء والحزن، فإن هذه التجربة على خلاف التجارب الجديدة تخلو من الاستطراد والتداعي والخضوع لمؤثرات التجارب السابقة عليها، إذ يحاول الشاعر أن يكون مخلصا لذاته وصوته الخاص به، وإن كان ما يزال في طور البحث والتجريب، ولكن بثقة واضحة في البحث عن قيم أصيلة في عالم ينهار، وحياة تحاول أن تصوغ لغتها الأخرى وألا تبقى سيرة ناقصة أبدا كما يقول الشاعر في إحدى قصائده.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©