الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تساؤلات بالجسد

تساؤلات بالجسد
6 سبتمبر 2012
لا تزال لحظة الثورة التونسية تلاحق الكوريغراف رضوان المؤدب. هي تفصيل دقيق في قماشة الزمن، لا يمكن تأطيره بالكادر السياسي أو التاريخي فقط، بل كذلك الأخلاقي والإنساني، والوطني. إنها اللحظة التي تعيده إلى المعنى، المفهوم، الفلسفة، الأنا، الحضور والغياب، وتشحنه، هو المفرد، العالق صامتاً في شقته في باريس، بمشهد الجماهير الغفيرة على التلفزيون. لا تؤلف تلك اللحظة فقط، مناخاً من المتناقشات والأسئلة الفكرية والفلسفية والزمنية المتضاربة والمتباعدة، بل تولد لديه نوع من الاضطراب، علاقة كوريغرافية بامتياز، تنفذ إليه عبر الوسيط المرئي والمسموع. الغرفة، قد تصبح في تلك اللحظة، المسرح، أو البلاتو الضيق، الذي يمثل خلوه من الجمهور، الشرط الأقسى بالنسبة لرضوان. إذا تخيلنا المشهد، الذي آلمه كثيرا وأقلقه آنذاك، فسنقول بأن الحدث، ألفى بثقله كوريغرافيا على المصمم المؤدب. أي أنه الحدث الذي حشد العناصر حوله، سواء من خلال اختبار اللحظة حسيا (على أرض تونس) أو اختبارها ظاهريا (في باريس). هناك، في هذه المعادلة، حزمة من العوامل البصرية والسياسية التي تواجه بعضها البعض. فالجمهور، المتحرك والهاتف، والمتوحد في غايته والمتجانس بالتالي في تنقله (حركته) في المدينة تونس (البلاتو مجازياً)، أي أنه الجمهور الديناميكي، المدفوع بالعاطفة، والمستوعب للفضاء “هناك” بكل المستويات الحسية، مقابل الفرد (رضوان) المرتبك في الغرفة البعيدة، وارتباكه هنا مرده الامتثال للحدث إشكالياً، وذهنيا، من دون قدرته على إزالة العاطفة جانبا أو نكرانه مغزى ذلك الحدث تاريخياً. ثمة نشاط جماعي هادر، وآخر منفرد، أخرس. وثمة نوعان من الحركة، او التحرك (التنقل في موقع الجسم ككل). بهذا، فإن الحدث نفسه، لا يمكن له أن يترك ظلاله بنفس اللون والدرجة والسماكة على الجميع. الإشكاليات ضروري أن تتوالد، وأن تتآلف او تتصادم، طالما يكون ذلك في حدود مقبولة لا عنفية، تحتكم إلى المنازلة العقلية والمقاربة الفنية. غير أن ما يلعب دورا هنا، في تثبيت هذه الثنائية، لا يقتصر على الحدث نفسه، إذ إن هنالك أيضا الجغرافيا، أو المرجع المكاني للصورة، كما هنالك الوسيط الذي ينتقل عبره الحدث. من هنا، فإن الفضاء (كيميائيا وكوريغرافيا)، يؤلف وجوده شرط التفاعل الاجتماعي ما بين الجمهور والفرد. فاتصال رضوان المؤدب بالحدث، ومن ثم تكديسه هذا الاتصال داخل لحظة “ما االذي يحدث الآن؟” سيبقى منوطا بالمؤثر الخارجي الصوتي والبصري: هنالك المذياع، التلفاز، والإنترنت ولاحقا النشرات المكتوبة والجرائد وغيرها. يتحول الوطن مادة إخبارية عاجلة (وليس مجرد مادة إخبارية)، ويصبح وطنا عالميا، أو بالأحرى مادة عالمية توحِّد لغة المراسلين والصحفيين، المادة الأولى في تلك اللحظة. وفي مقابل اشتمال هذه المادة على يقينيات من صورة الامر الواقع (هرب بن علي)، هناك يقينيات أخرى لا تستطيع أن تبرز عبر الجماهير في اللحظة عينها (مثل “ما الذي سيحدث بعد؟”)، بل عبر الأفراد الذين يكونون على مسافة من الحدث، جغرافيا وعاطفيا، دون أن يعين هذا أنهم معترضون على الثورة. من هذه الخلفية، كلحظة وحدث واضطراب وفرح وتفاوت بين مكانين، أتى عمل رضوان المؤدب “تونس 14 جانفي 2011” في مهرجان مونبيلييه الدولي للرقص المعاصر (قدمه أيضاً في مركز بيروت للفن السنة الفائتة ضمن لقاء نقاط 6). ارتكز العرض (20 دقيقة) على بناء للسينوغرافيا بين نقيضين (الكوريغراف كتونسي/ الحضور كشعب)، وإفراغ المشهد الضاج في لحظة سياسية حساسة، واستحضاره كوسيط هنا للمعاينة والمقاربة وتفحص الاختلافات بين انفعال الشعب الجماعي وبين انفعال شخص رضوان. هذا الاختلاف استخدمه الكوريغراف كماء لتظهير أزمات إنسانه في تلك اللحظة. اتسم العرض، كما هي حال أعماله، باشتماله على بناء متدرج ودقيق لحالة هي خليط من التوتر والمرارة والسخرية والفرح. كان على الجمهور أن يقف وسط الباحة الخارجية لمسرح آغورا، بشكل عشوائي. كسر بذلك رضوان حدود البلاتو، او رقعة العرض. إنه المكان الذي تلاشت ملامحه، بشرط امتلائه بالحشود، الموزعين في شكل فوضوي، لكن فطري وعاطفي أيضاً. من هنا، فإن مسار الكوريغراف خلال العمل، يأتي مشروطا بموقع كل فرد من الجمهور. مسارات تنقل الجسم لا تصبح مستقلة بالكامل، وليس الكوريغراف من سيحدد موضع كل شخص من المتفرجين. هنا، اعتمد المؤدب توليد بيئة مشابهة للبيئة الشعبيةوالسياسية، لحظة هرب بن علي. وبالتالي، استنباط ظرف مشابه تماما، وإن كوريغرافياً على الأقل، للظرف الذي شحن انفعالاته في تلك اللحظة ودفعه في حقل مظلم من التساؤلات بشأن مستقبل تونس. إنه إعادة تكوين لهذه العلاقة الاجتماعية بين الكوريغراف والجمهور. فالاحتكاك بينه وبينهم، سيتم بالجسد، والعين، وضرورة أن يحيدوا عن دربه احيانا أخرى، لكنه أيضا سيتم عبر احتكاك الصمت بالصمت. والصمت، الذي هو أحد مرتكزات رضوان المؤدب في الكوريغرافيا، يعاد تكوينه هنا، في حلة أكثر توازنا، لكن أكثر قسوة. فالجمهور مجبر ألا يتكلم: النشاط المتناقض سمعياً مع ما يتناهى إلينا في خلفية العرض (صوت تونسي يقول بصوت هيستيري “المجرم هرب/ بن علي هرب من الشعب التونسي/ تحررنا/ المجد للشهداء/ يا شعبنا يا باهي..”)، مقابل صمت الكوريغراف المحفوظ مثلما هو منذ اختبره في غرفته في باريس تلك اللحظة. وهو أيضا توجيه لصمت جماعي نحو صمت الفرد. يصبح ما سنتوقعه منوطا بوجود المؤدب ونشاط جسمه المتنقل أمامنا وبيننا. ثمة استحضار للغياب ايضا، غيابه هو في “الجمهور” إذ يتنقل، ومن ثم اتخاذه جهة خالية تماما، ليقف هناك، بعيدا عنا، محوِّلاً غيابه من صيغة الغياب المغطى إلى صيغة الغياب المكشوف. وفي مقابل هذا البحث التوتر عن المكان، مكانه هو بالمقام الاول، كفرد، وكمواطن، يذهب الجسد نحو الانعتاق في المساحة البسيكولوجية. مستوى ثان من الغياب هنا. غياب الجسد المادي، والذهن، وتغطيسهما في البئر النفسي. نستحصل بذلك على “جسد ذهني” (mental body)، إذا صحت التسمية، الجسد الذي يصبح برنامجاً للذهن، ولتنقل حاد ومتسارع بين حالتي التفحص بالحواس، والإنشداد عصبياً ولا إرادياً نحو الداخل. الجسد الذابل، والباقي وضعية منتصبة، طيلة العرض هو جسد مشلول قياسا بحركة الرأس الدورانية والاهتزازية وما يتضمن من محتوى رمزي. اليد وحدها ستترك من دون أن تخرج عن مسطح الجسم (تعلو وتنخفض بين الحين والآخر إلى مستوى الكتف). أما الوجه، فسيكون المسرح الصغير لانفعالات الرأس. فهو سيصبح وجها مبتسما بصورة متقطعة وشديدة البطء والتدرج والحذر. الابتسامة معلّقةً بدورها تُغيِّر حالة الجسم الذهنية، وتكشف عن ملامح استنتاج، تسخر وتنكسر وتسلم بالعبث أو اللاجدوى أو الحلقة المفرغة. هي تماثل في ظهورها الجسد المنصاع لفراغه، والهائم خلف الرأس. ذلك أن الرأس يكون بلا شك قد تقدَّمَهُ، بتحوّله إلى محط النظر والتفاعل الاول مع الناس المتحلقين حوله. بهذا ينفصل جسم رضوان المؤدب في مستويين، واحد منهما (الرأس) يوحي بفضل نشاطه الحركي، بقيادته للبدن الهامد. نلحظ أخيرا الوحدة بين وضعية جسم الكوريغراف ووضعية الجمهور من جهة، وإبقاء جذعه في حالة الوقوف طيلة فترات العمل، محافظاً بذلك على صيغة مونوكرومية لجسمه أثناء تحسسه الفضاء سياسياً، فلسفياً واجتماعياً. هل من إجابات على الإبهام الذي ضرب مستقبل تونس بعد رحيل الطاغية؟ يبقى هذا السؤال، برسم العلاقة التي يعيد الظرف تشكيلها، بين الفرد والجماعة، ومكتسبات الأنا وعلاقتها بالزمن، والتفسخات التي تصيب فكرة الانتماء للوطن المغبّش. ? ?الصمت الذي هو أحد مرتكزات رضوان المؤدب في الكوريغرافيا يعاد تكوينه هنا في حلة أكثر توازنا لكن أكثر قسوة فالجمهور مجبر ألا يتكلم
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©