الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«كوكتيل كيماوي» في دمائنا

«كوكتيل كيماوي» في دمائنا
6 سبتمبر 2012
يعترينا خوف مختلف عند مشاهدتنا وثائقي ستيفان يارل “إخضاع”، فالخوف هذه المرة لا يأتينا من الآخر، من العدو كما في بقية أفلام الرعب، بل يأتي من عندنا، نحن البشر فنخاف من أنفسنا ومن أفعالنا ضد الطبيعة التي نعيش فيها. نخاف من حجم الدمار الذي نسببه لها ومن أنانيتنا و”خضوعنا” لشروط يفرضها الآخرون علينا. “إخضاع” عنوان يحيلنا على التفكير في العلاقة بين الناس والبيئة التي يعيشون فيها وبين الناس أنفسهم، فثمة اشارة واضحة الى نوع من الاستغلال والفرض تخضع له أطراف فتسكت، وبسكوتها تذعن لقرار “اعدام” وجودها البشري بأكمله، وهذا ما لم يقبل به ستيفان يارل. لن يقبل بأن نتحول بسبب السموم التي تدخل أجسامنا الى “مسوخ” كما تحول بطل كافكا غريغور سامسا؛ “حين أفاق من نومه ووجد نفسه وقد تحول الى حيوان غريب..”!. من الواضح ان يارل قد أدخل متعمداً مقاطع من رواية “المسخ”، قرأها الممثل بيتر أندرشون، ليزيد من حجم الشعور بالخطر الذي يداهمنا ونحن عنه غافلون. فمن يقبل منا أن يصاب بالسرطان ويموت بسبب مواد كيمياوية دخلت الى التربة والمياه ثم انتقلت الى الحيوان ومن بعد الى غذائنا؟ من يقبل منا أن يرى مولوده مشوها أمام عينيه لا لسبب سوى لأنه تغذى من جسد أمه المليء بالمواد الكيماوية السامة والمشوهة؟ عن هذه المواد، هذه المرة، يدور فيلم ستيفان يارل الوثائقي. نقول هذه المرة لأنه سبق له وأن اشتغل أفلاما وثائقية عن الطبيعة وعلاقة الانسان بها ومقدار مساهمته في تخريبها، ومنها: “انتقام الطبيعة”، “التهديد” و”الوقت ليس له اسماً”. في “انتقام الطبيعة” (1983)، وهو الأقرب من حيث الموضوع الى “إخضاع” بل ويبدو الأخير كجزء ثان مكمل له، عالج يارل موضوع الأسمدة الكيماوية، المساعدة في تحسين نوعية التربة، والمستخدمة على نطاق واسع في أوربا والعالم بأسره. وعلى الرغم من الاستقبال الجيد الذي قوبل به “انتقام الطبيعة”، لم ينج من النقد لجهة ان الخبراء الذين استعان بهم لم يكونوا مقنعين بدرجة كبيرة. ظلت الملاحظة عالقة في ذهنه فعالجها بشكل جيد في فيلمه الجديد “إخضاع”، حاشداً له أكثر من عشرين خبيراً من كافة الاختصاصات. حاول المخرج خلق توازن نسبي بين الجمالي وبين الكم الغالب للمقابلات، من خلال مزجه صوراً موحية تعبيرية، كلوحة الايطالي كارفاجيو “توماس الظنين” وهو يتفحص بريبة جرحاً في جسد المسيح، ومساقط مياه آيسلاند الرائعة، لتساعد في خلق مناخ بصري يخفف من “جفاف” الموضوع المطروح للبحث بصرياً. لكن الدم، هذا السائل الثمين الذي يجري في عروقنا، ظل المادة الأكثر حضورا في الشريط كله. ومن خلاله دخلنا الى عالم الكيمياويات الذي ركز عليه “إخضاع” كثيراً. لهذا قرر أن يذهب بنفسه الى خبير سويدي في علم الكيمياويات ويطلب منه فحص عينات من دمه لمعرفة حجم وجود هذه المواد في جسمه. وبمشهد لأنبوبة مختبرية تسقط على المنضدة، فيسقط معها جزء من عينة الدم التي فيها، ينطلق الفيلم/ البحث. بين نتائج الفحص من جهة التي ستبين وجود مئات المواد الخطرة في دمه، وبين تعليقات وكلام الخبراء من جهة ثانية، ستتشكل صورة واضحة لحجم المواد الكيمياوية في حياتنا وستتضح خطورتها. صورة لا تخلو من مفاجآت: أولها ليس وجود الكيماويات بل كثرتها في جسم المخرج نفسه، إلى درجة شكلت حزمة يطلق الخبراء عليها تسمية “كوكتيل كيماوي”. وأكثر المعطيات رعباً يتمثل بأن ما يدخل الى جسم المرأة ينتقل، خلال فترة الحمل، الى طفلها لا محالة. ولهذا توجه توماس الى زميلته الممثلة أيفا روسه وسألها عن استعدادها للمشاركة في الفيلم من خلال خضوعها الى نفس الفحوصات التي خضع لها، فقبلت دون تردد. كانت حاملاً في أشهرها الأخيرة فدفعها الفضول الى المشاركة. ما سيظهر من نتائج سيرعبها، وهي التي سخرت في مرحلة معينة من الفيلم من مخاوف يارل حين طلب منها التوقف عن التصوير في منتصفه حالما اطلع على نتائج فحوصات دمها التي تبيّن وجود مواد خطرة فيه ستنتقل لا محالة الى جنينها. مواد كيمياوية، ربما وصلت عن طريق عملها كممثلة تستخدم مواد التجميل بكثرة. لهذا قررت وبعد مدة من التصوير الانسحاب والاعتذار ولكنها أصيبت بصدمة وشعرت بأن الوقت قد فات ولايمكن عمل شيء أو إصلاح ما حدث. وهذا ما سيشعر المشاهد به تدريجياً من انه معرّض وخاضع لشروط غيره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©