الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأمل له وجه الطرق المفتوحة

الأمل له وجه الطرق المفتوحة
6 سبتمبر 2012
أوسكار خوسيه رودريجيث بيريث * ترجمة: د. طلعت شاهين من كثرة الجري، لا يكاد رامونثيتو أن يضبط وقع خطى أقدامه المتألمة، فقد كان قد فقد نعل حذائه على وحل البركة التي كانت تمثل فيما مضى أرض الحي. يمكن القول إنه كان يطفو منذ سرعته كطفل بريء العينين. وكانت لا تزال لديه القدرة على النهق، وأن يعقد في صدره كرات من الهواء التي تخترق الإنسان عندما يود الوصول إلى مكان ما دون أن يقطع الطريق، لكنه يصل بعقله وليس بجسده. وبالتفكير بأنه قدم قبلاته الأولى، فقد أخذه خوليان بيده، بالنعومة التي تستقبل بها الشواطئ النسمة، وكانت تنظر دولوريس إلى شفتيه، فقط كانت تنظر إلى شفتيه المنفرجتين، في اشتياق إلى أن تطبع عالمهما على شفتيها. كان هذا خلابا، كما كل اللافت للنظر في تلك المناطق. دون أن ينتبهوا إلى وقع المطر على السقف المعدني، الذي يشبه منشارا يفتح طريقه في اسمنت المدينة، مطر بارد يخترق الأسطح منزلقا بالحيات الشفافة بين ألواح الخشب والكارتون في المزرعة التي يختبئون فيها. سقطت قطرة مطر ضخمة بين العاصفة والوحل حيث كان رامونثيتو، الذي لم يكن يعرف ولا يرتعش من البرد من أثر الريح الذي يسقط على سنواته العشر أو بسبب رعبه من الوصول إلى حيث يعرف هو أين. لم يشهد في حياته أبدا ذلك الماء الذي يشبه الستارة الحديدية البارقة التي تصطدم بحدقتيه، لم تدمغ الأمطار أبدا مزرعة الزنجي جييرمو بهذه الطريقة، حيث لا يمكن مشاهدة أكثر من هيئة بشرية بعيدة تشير إليه بألا يواصل السير في هذا الطريق. “أعيدوه يا ولد” كان يحاول أن يقول للعجوز، “إنها عجوز تحاول الاستيقاظ”. لم يكد رامونثيتو في مروره أن ينتبه إلى الذراع التي تشير عليه بإشارات مماثلة، في اللحظة التي مرت فيها هبة ريح تائهة بين هدير هذه العاصفة الساقطة من السماء على أذنيه الغارقتين. اعتقدوا أن صوت المعدن نوع من الإيقاع المستمر بلا نهاية، عندما مضت أجسادهم إلى أبعد من القبلات، ودخلت في تلك الأسرار التي يصعب تفسيرها بالكلمات، عندما لم يصبح المطر قطرات بل شلالا من المياه المتساقطة، بدا لهم أن ذلك الصوت انفجار أبدي ينظمه طبل كبير، تتدلى يده المتناغمة من السماء مباشرة من الله إلى هذا الشخص تحديدا. يكاد يخترق السقف الزنكي، يسقط على عريهم ويغمر العرق الذي يغمر أجسادهم. كانوا يشعرون وكأن حوارا مباركا يسقط على أسماعهم، في ذلك السيل المائي المجهول الذي هبط فجأة وبلا مقدمات ولا يبدو كذلك أنه سوف يذهب فجأة في رحيله، حشرجة وحب تداخلا في دقة ناقوس واحدة، وسببت لذة الماء حركة خفيفة انزلقت لأبعد من تلك الأجساد. تبادل خوليان ودولوريس نظرات ثاقبة، عندما تلاعبت الريح بالألواح الخشبية والمعدن والكارتون ورقصت رقصة الانهيار الخطرة. كانت نظرة رامونثيتو مرتعبة، عندما هبط الدمار على مزرعته بقوة لا تحاكيها سوى قوة الحجارة والطمي. تمكن من الصراخ لتنبيههم باسميهما بينما كان يرى الطين يغطيهما. لاحظ ظلا، وهو ما يمكن أن يكون شقيقه خوليان، عندما خف المطر، كان ملقى على كومة غير محددة الملامح، بينما كان ينظر إلى يده الممتدة نحو ضوء أصفر خفيض من الممكن أن يكون فستان دولوريس، فهم رامونثيتو أنه لم يتمكن من الوصول في اللحظة المناسبة، وأن بعض التحذيرات في الحقيقة تتأخر، وأن الانترنت لا يزال بعيدا عن هذا المكان، وأن كل هذا الطوفان جاء من مكان لا علاقة له بالسماء، وأن طرق الحي أكثر طولا من حساباته الشخصية، وأنه ليست كل أصوات الشعب لا تجد صدى لها عند الحكومة، وأن كل أفكاره تعيده مع العاصفة حيث الماء لا يزال وأنه لم ينتبه بعد. ما كادا يرتديان ملابسهما، حتى كان الطمي السائل قد قسم المزرعة إلى مصفين وضربة حظ جعلت جسديهما يسقطان معا على لوح معدني على هيئة طوف تشكل من سقوط السقف. تشبثا به بقوة، حاولا تجميع أيديهما عند دعامات خشبية مربوطة بالأسلاك. كان هناك شبه ظل بدا للحظة كهيئة طفل يصعد المنحدر واختفى بعدها تحت قوة التيار، هذا جعلهما يفكران في رامونثيتو: هذه الذرة المراوغة جعلتهما يعتقدان في حصولهما على هذه المزرعة المنعزلة، حتى يتيح لهما هذا اللقاء الأول، الطوف العفوي جنح بقوة وألقى بهما إلى اتجاه الهبوط على جزء من التل الذي لا يعرفانه: ما كان مدخل البيت البدائي؟ المكان الذي كان فيه السلم الملون؟ المنحدر حيث كان ملعب الكرة؟ المياه التي بدأت في التخلي شيئا فشيئا عن غضبها، ربطت بين المكانين المحبوبين في حزمة واحدة من الأرض المبتلة، ولكنها خالية الآن من البيوت. تعانقا عندما بكى خوليان على كتفي دولوريس التي غرست عينيها الحانقتين باتجاه السماء. لم تمض تلك السنوات العشر في حياة رامونثيتو هباء. بلا طمي ولا حي، في بحيرة وبلا مطر، هذه الأرض كانت له، فكر، بينما كان يسير في أحد الطرق الكثيرة التي كان يعرفها جيدا، بين نسمات الريح التي كان يحتمي منها، وكان الحي قد اختفى من حواسه وحاول بنظراته الإبقاء عليه في ذاكرته. ربما كان قد أنقذه أنه لم يصب بالرعب، وأنه لم يجهل مكانه أبدا، رغم الرعب الكبير الذي أصابه لأن الماء يحاصره، وأنه يشعر بحيه، مهما كان غارقا في الماء، مهما كان مدمرا وغارقا في الطين وحتى لو كان مختفيا. فإنه لن يهجره أبدا، ولن يتركه وحيدا، جلس على أول جذع شجرة عثر عليه إلى أن أصبحت المياه مجرد خطوط متعبة تنحدر على التل. عندما وصل إلى أول مكان يتجمع فيه الناس، أصيب رامونثيتو بالخرس، عثر على نفسه برفقة أهله، وشعر أنه في مأمن. عانقته أمه بين القبلات، ووضعت بين يديه فنجانا من القهوة الدافئة، وخرقة نصف مبتلة على عنقه، وبعدها بدأ الإعلان عن العمل، والمساعدة والتضامن مع أولئك الأكثر تأثرا. وقبل أن ينضم إلى مجموعة النجدة، شعر بحزمة صغيرة ملتفة في لفافات بلاستيكية في جيب بنطلونه. كانت خمسة “بوليفار” (1) كان قد أهداها له خوليان لتوسطه لدى روسندو لاستخدام المزرعة في ذلك المساء. حينها انتبه إلى أنه استعاد الذاكرة والصوت أيضا، وأنه لو بقي في حالة من الحزن الشديد والبكاء لكان قد هرب من عينيه اللتين تبدوان كعاصفة ثانية، لولا أنه في تلك اللحظات، شاهد دولوريس تعانق شقيقه، عندما كانا يأتيان من إحدى تلك الأماكن المفتوحة التي شقتها العاصفة، وأن الفرخة تيوفوليو جرؤ على النظر في تشوقه إلى العودة إلى رسم حي جديد. “لا تنتظروا أن تجف مياه البحيرة ولنعيد البيت الكبير في هذا التل الجديد” ـ كان يقول ذلك بهدوء البنّاء. قبل أن ينضم إلى وقت العمل، غسل رامونثيتو فجانه، وجفف شعره وصدره، وغيّر بنطلونه ووضع في أحد جيوبه نصف كسرة خبز الذرة ليأكلها فيما بعد، ووضع أوراقه النقدية البرتقالية المبللة في العلبة التي وضعوها لمواجهة أي كوارث مستقبلية، وقبل أن يرفع الصندوق على كتفه والعودة إلى العمل المجهد في الحي. * كاتب من فنزويلا 1 ـ البوليفار العملة الرسمية في فنزويلا، نسبة الى اسم “سيمون بوليفار” قائد الثورات التي حررت دول أميركا اللاتيتية من الاستعمار الإسباني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©