الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أزمة «اليورو» ...واستكمال بناء البيت الأوروبي

أزمة «اليورو» ...واستكمال بناء البيت الأوروبي
5 سبتمبر 2012
في الوقت الذي تكثر فيه الأحاديث المتشائمة عن "اليورو"، يناقش عدد متزايد من المعلقين والخبراء الاقتصاديين، ما إذا كانت العملة الموحدة قادرة على البقاء أم لا؛ خصوصاً وأنهم يرون أن العالم يترنح الآن على شفير هاوية أزمة قد تكون أكثر عمقاً من الأزمة الحالية. ليس هناك شك في أن منطقة "اليورو" تواجه مشكلات مالية واقتصادية ومصرفية خطيرة: الأزمة الأولى ضربت اليونان بشكل أساسي، ولكنها تخللت أيضاً الجزء الجنوبي من منطقة اليورو وامتدت إلى أيرلندا. الأزمة الثانية تمثلت في عجوزات الحساب الجاري في عدد من الدول، وعدم توازن مثل هذه الحسابات بين دول المنطقة. أما الأزمة الثالثة فهي أزمة مصرفية ظهرت مقدماتها في أيرلندا، ثم استحكمت بعد ذلك في إسبانيا. ورغم تلك الاضطرابات، أرى أن التنبؤات المتشائمة المتعلقة بعدم قدرة بعض الدول على سداد الديون المستحقة عليها، أو انهيار منظومة العملة الموحدة، مبالغ فيها لحد كبير. وتفاؤلي بشأن مستقبل المنطقة ينبع من أن دولها قد أظهرت قدرتها وإرادتها على حل كل مرحلة من مراحل الأزمة المتعاقبة، من خلال التعاون والمشاركة في مسؤوليات اتخاذ القرار، وتفعيل عدد من المؤسسات المتخصصة في مختلف أنحاء القارة، وإقامة عدد من الجدران النارية المالية للحيلولة دون انتشار مشكلة الديون، وقطع شوط كبير على طريق إنشاء اتحاد مصرفي، واتحاد مالي جزئي. وعندما ينقشع الغبار، فإن مشروع التكامل الأوروبي برمته، لن يتمكن من البقاء فحسب، بل سوف يزدهر ويزداد رسوخاً أيضاً. ترجع الأزمة الأوروبية في الأساس إلى خلل في التصميم المؤسسي. فـ"الاتحاد الاقتصادي والنقدي" الذي تبنته أوروبا في التسعينيات اشتمل على اتحاد نقدي موسع -وإن لم يكن كاملاً -يقوم على دعامتين أساسيتين هما "اليورو"، والبنك المركزي، ولكنه لم يشتمل، في الواقع، على اتحاد اقتصادي أي أنه لم يكن هناك اتحاد مالي، ولا اتحاد مصرفي ومؤسسات حوكمة اقتصادية مشتركة، ولا تنسيق ذو معنى للسياسات الاقتصادية البنيوية. وعندما حلت الأزمة، فإن غياب أدوات فعالة للسياسات، شل قدرة أوروبا على الوصول لحل سريع الأمر الذي أثار عدداً من ردود الأفعال السوقية العصبية، التي ما زالت مستمرة حتى لحظتنا هذه. وأمام أوروبا الآن خياران لا ثالث لهما: إما التخلي عن الاتحاد النقدي، أو تبني اتحاد اقتصادي مكمل. وكل صناع القرار السياسي الكبار في أوروبا ، وهم البنك المركزي الأوروبي، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا وإسبانيا- بل وحتى اليونان- لا يساورهم أدنى شك وهم بشأن الآثار الكارثية التي يمكن أن تترتب على سقوط نظام العملة الموحدة. ولكن ما نراه أمامنا في الوقت الراهن، هو أن كل لاعب من هؤلاء اللاعبين يلعب مع الآخرين لعبة تحدي سياسية اسمها" من يخاف أولاً" وهي لعبة يحاول فيها كل لاعب الاحتفاظ بثبات أعصابه، وتماسكه وإثبات أن الآخرين هم الذين تملكهم الخوف أولاً، واقروا بهزيمتهم. وعلى الرغم من ذلك فإن الكثير من الدلائل والإشارات، يفيد أن هؤلاء اللاعبين سوف يتفقون في النهاية، ويتوصلون إلى تسوية ما أو صيغة يحافظون فيها على نظام العملة الموحدة. فبمجرد أن يتوصل البنك المركزي الأوروبي وألمانيا - على اعتبار أنهما الجهتان اللتان تقدمان الأموال اللازمة لانتشال الدول المشرفة على الغرق- إلى أفضل صفقة ممكنة، من وجهة نظرهما، فإنهما سيدفعان أي مقدار من الأموال يتطلبه إبقاء منطقة اليورو متماسكة. ليس في مقدور أي لاعب من هؤلاء اللاعبين الكبار تحمل الخيار البديل، ولكن الأمر الذي يوحي بأن الأزمة سوف تتواصل، وإنها لن تجد حلاً، هو أن كلاً منهم يرفض أن يعترف بذلك صراحة. صحيح أنه لا يزال هناك احتمال، لخروج اليونان من منطقة اليورو، ولكن ذلك سوف يجعل المنطقة أقوى مما كانت عليه- وليس أضعف -كما يحاول البعض أن يوحي بذلك، لأن هذا الخروج سوف يخلص المنطقة من أعباء أضعف اقتصاد موجود بها، كما أن باقي الدول التي ستستمر في البقاء في المنطقة سوف تعمل بعد خروج اليونان- إذا خرجت- على تقوية دفاعاتها عن طريق إقامة المزيد من "الجدران النارية" للحماية، مع الإسراع في نفس الوقت في وتيرة التكامل لتلافي تكرار الظروف التي أدت لنشوء الأزمة في المقام الأول. يضاف إلى ذلك أن الاضطرابات التي ستعاني منها اليونان نتيجة لخروجها من منظومة اليورو، والأهوال التي ستواجهها، ستجعل الدول التي تعاني من أعراض اقتصادية ومالية مشابهة للأعراض التي تعاني منها اليونان، تبذل قصارى جهدها لمعالجة أمورها منعاً للتعرض لنفس المصير المؤلم الذي تعرضت له الأخيرة. والقادة الأوروبيون، مع ذلك، مطالبون بالعمل على الحيلولة دون خروج اليونان من منطقة اليورو، واعتقد أنهم يفعلون ذلك بالفعل، وسوف يستمرون في فعله، ولكن تحقق الاحتمال ذاته- خروج اليونان- لن يكون حكماً على منظومة "اليورو" برمتها بالسقوط. لقد اتخذت منطقة "اليورو" بالفعل بعض الخطوات الحاسمة اللازمة لاستكمال اتحادها النقدي والاقتصادي المنقوص، كما أن دولها قد بدأت في تكوين اتحاد مالي جزئي، من خلال التشارك في المسؤولية عن مبالغ الديون المتواضعة المستحقة على بعض الدول، وتبني قواعد وأنظمة موحدة وحازمة لتحقيق الانضباط المالي في الميزانيات، فضلاً عن أن هناك عدداً يتزايد باستمرار من القادة الأوروبيين قد بات يتحدث علناً عن التحرك قدماً نحو إنجاز اتحاد سياسي بين الدول، سوف يساعد من دون شك، في معالجة بعض مسائل الشرعية الديمقراطية اللازمة لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية. وهكذا يمكن القول إن هناك احتمالا لخروج منطقة اليورو من براثن الأزمة، وقد حققت ماهو أكثر من إصلاح ومعالجة المؤسسات المعيبة، التي كانت مسؤولة عن قدر كبير من الأزمات الحالية. وهذه المهمة تعتبر من المهام الصعبة وعلى وجه الخصوص في الدول المرتفعة الدخل مثل الولايات المتحدة، بسبب فترات التباطؤ الطويلة التي تضرب الاقتصاد في أعقاب الأزمات المالية عادة، والحاجة الماسة في الفترات التي تلي تلك الأزمات لتقليص مستويات الديون. ولكن يجب أن يكون هناك ضوء في آخر النفق إذا ما أريد لاستراتيجية منطقة "اليورو" النجاح. والعودة مجدداً إلى النمو في هذه المنطقة سوف يتطلب ثلاث خطوات رئيسية هي: الأولى: قيام الدول المقترضة، بالإضافة إلى التحكم في عجوزاتها، بإجراء إصلاحات هيكلية مقنعة. الثانية: قيام الاقتصادات القوية وعلى وجه الخصوص اقتصاد ألمانيا بالتوقف عن التركيز على موضوع تقليص العجز لفترة من الوقت وتبني سياسات تقوم على رفع مستويات الإنفاق والاستثمار. الثالثة: مواصلة الاشتغال على إنجاز برنامج تحفيز شامل للقارة بأسرها. ويتعين على دول منطقة "اليورو"، وهي تتلمس خطواتها للأمام أن تعمل على دمج الهندسة المالية المطلوبة للتغلب على الأزمة العاجلة، مع استراتيجية نمو لإعادة المنطقة إلى دائرة الحيوية الاقتصادية. عندما تبنت أوروبا العملة الموحدة استلزم الأمر منها عشر سنوات كاملة، كي تواجه بأول أزمة اقتصادية وسياسية جادة. والآن بعد أن وصلت هذه الأزمة، فإن أوروبا يجب أن تنتهز الفرصة التي وفرتها من أجل إصلاح أحوال مؤسساتها الاقتصادية التأسيسية، واستكمال بناء بيت اليورو -الذي لم تكمل سوى نصفه- عن طريق إجراء التعديلات، والمراجعات اللازمة على المعاهدة المنظمة لذلك، وإصلاح المؤسسات المعيبة كما سبقت الإشارة إليها. بي. سي فريد برجستن مدير معهد بيترسون الدولي للاقتصاد والمساعد السابق لوزير الخزانة الأميركي للشؤون الدولية ينشر بترتيب خاص مع خدمة" تريبيون ميديا سيرفس"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©