الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأقلية الهائلة..

الأقلية الهائلة..
23 يناير 2013 20:19
عبّرت الأفلام التي تصدى لها السينمائيون الإماراتيون الشباب، والتي احتضنتها ثلاثة مهرجانات محلية كبرى خلال العام الماضي، عن مدى التنوع في الأساليب الإخراجية وطرائق التنفيذ التقني التي لجأت لها هذه الأفلام؛ لاختبار الحساسية الفنية الخاصة بنقل وترجمة واقتناص الحكايات والقصص والرؤى والأبعاد الإنسانية والجمالية القابلة للنفاذ والتبلور من خلال وسيط بصري مهم وهو الكاميرا التي تفتح كادراتها المرهفة بعد ذلك على الشاشة، لتقرأها شريحة واسعة من الجمهور المتعدد الأذواق والمشارب والمرجعيات، على الرغم من أن جلّ هذه الشريحة، وخاصة في المهرجانات التخصصية مثل مهرجان أبوظبي السينمائي ومهرجان دبي السينمائي ومهرجان الخليج بدبي، هي شريحة أقرب لأن تكون نخبوية نظراً لقربها واشتغالها وانشغالها أيضا بالشأن السينمائي المحلي، وبرغبتها المتوقّدة في ترويج مفهوم الفن السابع، وتطويره نظرياً وإجرائياً. إبراهيم الملا امتازت تلك الأفلام الإماراتية وفي جانبها الأعمّ بالكثافة والإيجاز تماشياً مع طبيعة الفيلم الروائي القصير، المهيمن على الخيارات الفنية للمخرجين وعلى أفلامهم التي شاهدناها في السنة الفائتة، ولعل الدافع الأقوى للذهاب نحو الفيلم القصير والتصدي له، هو توفر شرط زمني يسمح بتمرير الفكرة أو النمط القصصي بأقل كلفة إنتاجية، وبمقولات يمكن أن ننعتها بأنها موجزة ورمزية، تقتصد أكثر مما تسهب، وتوحي أكثر مما تشير وتؤكد، وإن كان أغلب المخرجين وخصوصا المبتدئين منهم والطلبة لم ينتبهوا لهذا الجانب المتفرّد والمستقلّ الذي يتمتع به الفيلم القصير. حدود شائكة من جانب آخر فإن الأفلام التسجيلية التي شاهدناها ورغم قلتها، أثبتت أن واقعية الموضوع وجرأته وتعبيره عن هوية الفيلم، لا تعني غياب وانحسار دور المخرج خصوصا وأن القراءة الواعية والإعداد الوافي والمستفيض والمسبق لموضوع الفيلم التسجيلي قبل البدء في تصويره، هما عاملان مهمان لتقديم وثيقة بصرية مفعمة بالجمال كما بالصدمة، وبالشعرية كما بالألم، وعليه، فإن وصف الفيلم التسجيلي بأنه : «ضمير السينما»، يعتبر وصفا دقيقا لهكذا فن يوغل في الحقيقة حتى حدودها الشائكة، ويقتحم الخفايا وصولا لأعماقها المأهولة بالصراخ. هذا الصراخ الأنيق، والمتواري في صمته المزدحم، سمعناه بشكل جلي ورأينا شروخه ونثاره والتماعاته أيضا في أفلام الشاعرة والمخرجة نجوم الغانم، من خلال سلسلة متوالية من الأعمال التسجيلية التي ابتدأتها بفيلم «ما بين ضفتين»، ثم: « المريد» ، وألحقتهما بفيلم: «حمامة»، وفي العام الماضي قدمت نجوم فيلم : «أمل» لتؤكد في هذا الفيلم الأخير على أهمية الذخيرة المعرفية والخبرة الحياتية والإبداع الذاتي المتراكم، من أجل تكوين هذه العلاقة الإنسانية الأثيرة والمتوهّجة بين المخرج وبين ثيمة أو موضوع الفيلم الذي يطرحه أمام الجمهور. شارك فيلم : «أمل» في الدورة الخامسة من مهرجان الخليج السينمائي الذي أقيم العام الماضي في دبي وحازت الجائزة الثانية في مسابقة الأفلام الطويلة وسط منافسة قوية مع أفلام اتسمت بحرفية عالية على مستوى التنفيذ خصوصا وأن أغلبها أفلام نفذها مغتربون عرب في المهجر الأوروبي، ولكن الخصائص التي تمتع بها فيلم نجوم من جرأة في الطرح وجاذبية في المحتوى وشعرية في الأسلوب أهلّتها كما في أفلامها السابقة إلى أن تكون واحدة من أهم المخرجات في المنطقة من حيث تقديمها لنماذج إنسانية مكافحة وممزقة بين ضفتي الأمل والأسى، والتي تتغذى من انكساراتها وتعيش فوق أرض مهتزة وخطرة لتقول لنا بصريح الحالة واللسان أن الحياة لا تكتسب قيمتها الحقيقية سوى من التحدي ومن النضال الداخلي المناوئ والمضاد لكل ما يعمل على إطفاء جذوة المحبة والدهشة والرغبة المشتعلة فينا. ومن الأفلام التسجيلية الأخرى التي يمكن الإشارة إليها هنا يأتي فيلم (بصيرة) للمخرجين الإماراتيين أحمد زين وناصر اليعقوبي والذي عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي، ليؤكد أن البحث الميداني المسبق هو العمود الفقري والأساسي لتقديم فيلم تسجيلي ناجح ومطابق لشروط وقياسات هذا النوع من الأفلام، فالبحث أو الإعداد الذي يعتمد على التقصي وقراءة التفاصيل الخفية والبعيدة لشخصية الفيلم أو لموضوعه العام، هو مرتكز مهم لبناء الهيكل العام للعمل وللتقطيعات الزمنية والتنويعات المشهدية التي يتطلبها الإيقاع السردي والتسلسل البصري الرشيق والمتوازن بداية من المشهد الأول ووصولا إلى المشهد الختامي، وهو أمر لم يتوفّر ولم يتأصل أيضا في فيلم (بصيرة) الذي أراد أن ينقل لنا القصة الواقعية ليوميات بحار إماراتي أعمى يقطن في مارة رأس الخيمة ويرفض رغم إعاقته البصرية وكبر سنه أن يترك مهنة صيد الأسماك أو أن يغادر لذة الحساس بالمتعة والخطر أثناء ارتياده لأعماق الأزرق الكبير. تعامل فيلم (بصيرة) مع موضوعه من جانبه المباشر والخارجي، ورغم الجهد التقني الكبير الذي بذل في تنفيذه، إلا أنه افتقد البعد الجمالي واقتصد كثيرا في القراءة الداخلية لنوازع وعذابات ومحطات السيرة الذاتية لشخصية تبدو غنية ومفعمة بالتجارب والحكايات وبانتباهات الذاكرة البعيدة، والتي كانت بحاجة أيضا لاستدعائها في الفيلم حتى لو من خلال مشاهد درامية إضافية ومتخيلة، تزيد من وقع وتأثير الحالة أو المحتوى النفسي للشخصية المحورية في الفيلم. الإشكال الأسلوبي نفسه رافق أيضا الفيلم التسجيلي: «نصف إماراتي» للمخرجة الشابة أمل العقروبي، والذي عرض ضمن مسابقة المهر الإماراتي بالدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي في شهر ديسمبر الماضي، حيث جاء الفيلم أشبه بريبورتاج تلفزيوني، واعتمد على عنوانه المثير للانتباه ليتناول قضية اجتماعية حساسة تتعلق بتفسير معنى الهوية والآليات النفسية للتكيف معها وسط العائلة ثم وسط المحيط الخارجي، خصوصا مع فئة من الإماراتيين الذين وجدوا أنفسهم منتمين للمكان بحسب جنسية الأب بينما تنتمي الأم لجنسية أخرى ومغايرة لطبيعة وهوية وهوى هذا المكان، واكتفت العقروبي في فيلمها بعمل لقاءات مباشرة مع هذه الفئة من (النصف إماراتيين) دون أن تخرج بكاميراتها إلى الواقع الخارجي المحيط بهذه الفئة، كي ترصد على الأقل (المدلول الحسي) للقضية الأساسية في فيلمها، بدل من أن يكون محتشدا فقط (بالمدلول اللفظي) والذي اعتمدت عليه كليا وأهملت العناصر البصرية المكملة لهكذا مواضيع، تحتاج لاشتغال حقيقي وبحث جاد ورصد ظاهري وملامس لخشونة الواقع وغرابته. الأقلية الهائلة وبعيدا عن إشكاليات الإعداد المسبق واللغة التعبيرية والأسلوب الفني للأفلام التسجيلية الإماراتية، فإن الأفلام الروائية القصيرة رغم وفرتها وتعدد أنماطها ومستوياتها، إلا أن الأسماء المميزة والنماذج القوية تظل قليلة هنا وهي صفة ملازمة على العموم للمبدعين الحقيقيين على مستوى الإنتاج المتتابع والمتفرّد أيضا للفنون الأخرى السائدة في المكان مثل الشعر والقصة والرواية والتشكيل والمسرح وغيرها، والسينما الإماراتية التي تشكلت ملامحها قبل عشر سنوات تقريبا ما زالت تراهن على هذا العدد القليل من المبدعين الذين يمكن نعتهم (بالأقلية الهائلة) حسب وصف الناقد والشاعر المكسيكي الراحل أوكتافيو باث، ففيلم مثل (سبيل) للمخرج الإماراتي الشاب خالد يمكن اعتباره نموذجا هنا لقيمة وقوام وتأثير الفيلم الروائي القصير المتماسك والمتخلص من الزوائد والهوامش المقحمة ذلك أنه فيلم يتمتع بلغة تعبيرية عالية وبكادرات مشهدية أنيقة تكاد أن تكون شفافة وتلامس نوافذ الروح. يعرض المحمود ومن خلال سيناريو متقن للشاعر محمد حسن أحمد، قصة شقيقين يعتنيان بجدتهما المريضة وسط بيئة جبلية معزولة، بحيث تكون صلة الوصل الوحيدة بين هذين الشقيقين وبين العالم الخارجي هي الدراجة النارية التي يستقلانها إلى الشارع العام من أجل بيع الخضروات التي يزرعانها حتى يمكن لهما شراء الدواء الذي تحتاجه الجدة، تتحدث الكاميرا هنا ومن خلال متواليات بصرية متقنة وانتباه صاف لمعنى الوحشة ولهوس الفقد المسيطران على المكان وعلى دواخل الشقيقين أيضا، وكان لغياب الحوار عن الفيلم دورا في إضفاء حس تأملي كبير على أجواء الفيلم رغم الإشارات المأساوية في نسيج الحكاية، وكان الصمت الطاغي هنا يتلون بأصداء عميقة وبصرخات وتأوهات، لا يمكن سوى للسينما، والسينما وحدها أن تنقلها للمشاهد بكل هذا الوعي الجريح، وبكل هذا الألم العاري والمنهمر نحو البصر والبصيرة في آن. ومن الأفلام الروائية القصيرة التي شاهدناها مؤخرا في مسابقة المهر الإماراتي بمهرجان دبي السينمائي التاسع نذكر أفلاما استطاعت أن تؤكد على تنامي الوعي بأهمية اللغة السينمائية في رصد الحالات والقصص الإنسانية والتعاطي معها من جانبها الأكثر رهافة وتسللا إلى دواخل المتفرج، ففي فيلم بعنوان : (الفيل لونه أبيض) يقدم المخرج وليد الشحي وبأسلوب يمزج بين الواقعية والسحرية حكاية الشاب المراهق الذي يتسبب دون قصد في سقوط أخته من إحدى المباني العالية، وكيف أن هذه الحادثة باتت تلاحقه أينما ذهب ومن دون قدرة على التخلص من عقدة الذنب وتبعات المأساة التي سببها لوالدته. في فيلم (أصغر من سماء) ينطلق المخرج عبدالله حسن أحمد في بناء التفاصيل المشهدية لفيلمه اعتمادا على الميثولوجيا الشعبية أو الخرافة المحلية التي تمتد أصداؤها إلى الحاضر، من خلال تناوله لحكاية عائلة مكونة من أب وأم وطفلة صغيرة تجمعهما السيارة في رحلة وسط الجبال، وعندما ترتطم السيارة بطائر عابر وتلتصق بقاياه بزجاج السيارة الأمامي تتساءل الطفلة عن معنى الموت، وتحتشد اللقطات المتتالية بعد ذلك بصوت خارجي لترنيمات شعبية معروفة، في محاولة لخلق عتبة نفسية تهيئ المتفرج للدخول والتواصل مع المشاهد الغرائبية التي تلي وقوع حادث مفاجئ ومأساوي للعائلة ينتج عنه وفاة الأب والابنة وبقاء الأم في شبه غيبوبة تقاوم من خلالها الموت ولكنها تعجز عن تفسير الخيالات الراعشة والأطياف الغريبة التي تحوم حول السيارة المنقلبة والمشرفة على السقوط في واد عميق، وتتكشف للمشاهد خيوط هذه اللعبة الجهنمية في مكان محصور جدا ومحاصر بالأذى العميق والفناء الجسدي والألم الفادح عندما تتوافد صور وأخيلة تجسّد شكل الانتقام ووقع اللعنة التي حلّت بالعائلة بعد اصطدام السيارة بالطائر، وفي متواليات بصرية مكثفة ومتمهّلة يتداخل فيها العجائبي مع الواقعي، نرى الأم وهي تختبر لحظاتها الأخيرة مع الوجود المنسحب والحياة المتضائلة في حيّز إيهامي ومحسوس أيضا، ولكنه حيّز يشرف على هاوية يختمها الفيلم بمشهد تدهور السيارة وسقوطها في الوادي بعد أن تحط حمامة عابرة على السيارة، وتغادرها فجأة كي تتحول اللعنة بثقلها الميثولوجي إلى حالة تدميرية ضارية، يعجز أمامها التفسير الظاهري، وتبقى كل الأسئلة الغامضة والملغزة معلقة في فضاء الغيب والرهبة. قراءات وتأملات وفي فيلمه الروائي القصير (رأس الغنم) يتناول المخرج جمعة السهلي حكاية الفتاة التي تهرب من منزلها خوفا من بطش الزوج والأب واللذين باتا يعاملانها بأساليب قهرية ومتجردة من الحس الإنساني، مما يعمق من مأساتها الشخصية وحيرتها الذاتية في كيفية التأقلم والعودة إلى الحياة الطبيعية وسط كل هذا الإقصاء الذكوري لتطلعاتها الأنثوية السوية والطامحة للعيش في مجتمع متصالح وخال من العقد المترسبة والأحكام الخاطئة والمتراكمة. وفي فيلم: «الرحلة» للمخرجة هنا مكي والذي شاهدناه في مسابقة (أفلام من الإمارات) بمهرجان أبوظبي السينمائي السابع تقدم مخرجة الفيلم سردا آسرا ومتوائما مع طبيعة (أفلام الطريق) حيث يروي الفيلم حكاية فتاة أثيوبية مثقفة ومتعلمة تأتي إلى الإمارات كي تعمل خادمة في منطقة ليوا الصحراوية والبعيدة عن العاصمة أبوظبي، وفي اختيار موفق ومعالجة متقنة تلجأ المخرجة إلى خلق حوارات وانتقالات ديناميكية مشوقة تجمع بين العاملة الأثيوبية الشابة التي تزور الدولة لأول مرة وبين السائق الهندي الذي يقلها من العاصمة إلى منطقة ليوا حيث يقع منزل الأسرة المواطنة المنتظرة قدوم الخادمة الجديدة. يحقق فيلم : «رحلة» المعاني المضمرة في عنوانه وبامتياز، فهو أشبه برحلة حياة ومصائر لشخصين أتيا من مرجعيات ثقافية مختلفة وجمعهما المكان الغريب والأحلام المشتركة، التي تختلف مقاييسها ومددها حسب الظروف الأحداث المفاجئة وغير المتوقعة، ونستمع للفتاة وهي تقول للسائق بأنها اضطرت للعمل كخادمة رغم إتقانها اللغة الفرنسية، ورغم عملها كسكرتيرة في بلدها، كي توفر مصاريف السفر إلى أميركا واللحاق بشقيقها الذي يعمل هناك، بينما يبوح السائق الهندي للفتاة بحكايته الغريبة عندما أتى للإمارات كي يحقق أحلامه في فترة وجيزة ومحددة ثم يعود إلى موطنه، ولكنه استمر في البقاء لمدة عشرين عاما دون أن يحدد ملامح هذا الحلم حتى الآن، ولا كيفية التعامل مع مستقبله المجهول في المكان، وتساهم العزلة المشتركة والخلاء الرملي المفتوح طوال الطريق في تكثيف الحالة الدرامية المتوارية في الشخصيتين، وجعل المتفرج أكثر قربا وتماهيا مع القصص المؤثرة لشخوص غرباء يحيطون بنا، ولكننا لا نعرف حجم ما يختزنونه من مرويات فاتنة ومدهشة، ومن تأملات قارئة بدقة لمعاني الحنين المتسرب من أرواحهم، ومن تشكّلات الحاضر المضطرب حولهم، والخوف المتنامي مما هو قادم من أيامهم. استطاع فيلم «رحلة» أن يقدم وثيقة بصرية حول الألفة الفطرية والصحبة الإنسانية التي تصنعها الظروف المتداخلة، وحول المصادفات الغريبة التي تجمع أرواحا متشابهة في أمكنة باتت أشبه بمحطات «ترانزيت» للأحلام العابرة، وأشبه بحواجز مؤقتة في مسيرة طويلة نحو تحقيق الذات أو إعادة اكتشافها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©