الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في قراءة ما لا يقرأ

في قراءة ما لا يقرأ
3 مارس 2016 05:12
د. أم الزين بنشيخة المسكيني حينما تعود إلى بيتك كلّ ليلة، إن كان لديك بيت، وتركن إلى كنبتك وشاشتك، ستداهمك حتما صور الدمار اليومي في مدن يصرّ التاريخ أن يُكتب فيها بدماء أهلها. وبالرغم منك أنت الذي جئت من متاعب يومك لاجئاً إلى موقع راحتك، عليك حينئذ أن تنضمّ إلى منطق ذاك الدمار وأن تستسلم في ضرب من الموقف الكلبيّ إلى ركح الصور. ستساهم بعينيك وقلبك وجسمك المنهوك في قطاف حصاد اليوم من البربرية المتوحّشة. ماذا تطلب منك صور القتلى؟ أن تكون مجرّد متفرّج؟ ومن يتسلّى بأشلاء الضحايا؟ بالرغم منك عليك أن تقرأ الرسالة التي تصلك في شكل صور.. وذلك بالرغم من أنّك قد تكون لست بقارئ..لا حرج عليك.. فالصور لا أبجديّة لها.. هي هنا من أجل الأمييّن أيضاً.. كيف يمكن أن نقرأ صور الدمار في مدن الرماد والرعب؟ وكيف يمكن لأعيننا الصغيرة من وراء نظّاراتنا الهزيلة أن تلتقط حروف الأشلاء وما تبقى من البشر؟ ما هي وسائلنا التأويلية في قراءة الخراب؟ أم أنّ الخراب لا يُقرأ بل هو يُرسم أو يصوّر أو هو يُكتب فحسب؟ ربّما صار من بواعث البهجة لأبناء الديجيتال التحرّر من قراءة الكتب لكن ربّما لا أحد منّا بوسعه أن يفخر بقدرته على أن يفلت من قراءة الصور. بأيّة لغة تُكتب الصور ومن يجيد قراءتها؟ الشفاهة والكتابة لقد قال دريدا الفيلسوف الجزائري الأصل ذات يوم: إنّ عصر الكتاب قد انتهى. وإنّا دخلنا عصر الكتابة. وهو في ذلك إنّما يستعيد بضرب من الشرخ الرشيق لتاريخ الغرب القائم على مركزية اللوغوس، طيف توث الإله المصري القديم الذي انهزم أمام آمون في عقر مدينته طيبة ثمّ انهزم ثانية أمام أفلاطون في مدينة أثينا التي لا تستضيف الشرق إلاّ بوصفه غريباً. هو «الغريب» الذي جعله أفلاطون في كتاب النواميس يذكّر بقصّة القدامى الذين كانوا يعيشون وفق نواميس أي وفق «عادات غير مكتوبة» وهي عادات الآباء القدامى. وبهكذا كلام تبدو الكتابة أمراً هجيناً لدى أفلاطون لأنّ القدامى كانوا يعيشون دوماً وفق نواميس أبويّة. أي وفق ثقافة شفويّة يفرضها الآباء ورؤساء العشيرة والقبيلة والحكماء والآلهة. كلّ الثقافة القديمة هي ثقافة المشافهة لأنّ الكتابة حدث متأخّر في تاريخ البشر. وهو ما يقصّه سقراط في محاورة الفيدروس، وهي محاورة حول الجمال والحبّ، على محاوره فيدروس، حول أسطورة الإله المصري توث الذي اخترع علم الأعداد والهندسة والفلك والكتابة أيضاً، حين دخل توث ذات يوم على الملك آمون يعرض عليه علومه ومنافعها. وحين وصل إلى اختراع الكتابة، قال توث لآمون: «أيّها الملك، إنّ هذا العلم سوف يجعل من المصريين أكثر علماً وسوف يسهّل عليهم فنّ التذكّر، لأنّي قد وجدت الترياق من أجل شفاء العلم والذاكرة». لكنّ الملك آمون ردّ عليه معترضاً: «هذا العلم ليس بوسعه أن ينتج في النفوس غير نسيان ما تعلمُه، وذلك بجعلها تهمل الذاكرة.. إنّك قد وجدت الترياق لا من أجل إثراء الذاكرة إنّما من أجل المحافظة على الذكريات التي تملكها». تلك هي أسطورة الجدل بين ثقافة الشفاهة وثقافة الكتابة التي وقع الانتصار فيها طويلا للخطاب ضدّ الكتابة. لذلك لم يكن ممكناً اكتشاف مقولة القارئ في ثقافة الأب والحكيم والخطيب والفقيه. لأنّ ولادة مفهوم القارئ تقتضي أن تتحوّل سلطة الحقيقة والمعنى من الخطيب والحكيم والفقيه، إلى كلّ القرّاء الممكنين لنصوصنا سواء كانت مقدّسة أو بشريّة. كما يقتضي مفهوم القارئ سياسات مغايرة للذاكرة التي سيساهم في حفظها وإثرائها سلسلة من القرّاء المؤوّلين بعد أن ينسحب الكاتب بما هو المالك الوحيد لمعنى ما يكتب. موت الكاتب.. ولادة القارئ ذلك هو معنى انتصار فلاسفة القرن العشرين للكتابة ضدّ ما يسمّيه دريدا بمركزيّة اللوغوس، وذلك ضدّ كل من يدّعي ملكيّة سلطة الخطاب بما هو المتحكّم الوحيد بالمعنى النهائي لما يقول. ومن أجل ذلك كان عليهم أن يعلنوا عن موت الكاتب كي لا يكون ثمّة كتاب. غادامار يقول: «مات الكاتب ولم يتبقّ غير النصوص» ورولان بارط يقول: «ينبغي أن يموت الكاتب من أجل أن يولد القارئ». أمّا بول فاليري فيذهب إلى أنّ «موقّع الكتاب ليس هو المالك الوحيد لمعانيه». ونحن الذين ننتمي إلى لغة الضاد نعلم يقيناً منذ الجاحظ أنّ «المعاني مطروحة على قارعة الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ والحضريّ والبدويّ والقرويّ والمدنيّ». ولقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين اكتشافا جماليّا لمقولة القارئ نجدها بخاصّة في جماليّات التلقّي مع هانس روبارت جوس. وهي جمااليّات تقترح ضدّ النظرية الأدبية الكلاسيكيّة الماركسية والشكلانية بخاصّة ضرورة تنشيط مفهوم القارئ من أجل تصوّر جماليّ جديد لتاريخ الأدب. وذلك لأنّه بحسب عبارات جوس نفسه: «إنّ حياة الأثر الأدبي في التاريخ لا يمكن تصوّرها من دون المشاركة النشيطة لأولئك الذين إليهم يتوجّه الأثر». والمقصود ههنا أنّ التجربة الأدبية غير ممكنة إلاّ بالقارئ الذي يكتب من أجله الكتّاب. وهو بذلك يعتبر نظرية الأدب الكلاسيكيّة قد سجنت الواقعة الأدبية داخل الدائرة المغلقة لأستطيقا الإنتاج والتمثيل «مصرّا على ضرورة اعتبار تاريخ الأدب بما هو «سيرورة لتلقّي ولإنتاج جماليّ يتمّ ضمن تحيين النصوص الأدبيّة من طرف القارئ الذي يقرأ». ضجيج المياه يقلق راحة الإمبراطور يُحكى أنّ إمبراطورا صينيّا كان قد طلب من رسّام البلاط أن يمحُوَ شلاّلا كان قد رسمه على جدار القصر، وذلك لأنّ ضجيج المياه يقلق راحة نومه. لكنّ ديكارت فيلسوف حداثة الغرب كان ليردّ على هذا الإمبراطور الصينيّ ضاحكاً: إنّ ضجيج الناس لا يٌقلقني، بل هو عندي كخرير الجداول». وعن خرير المياه كتب أيضاً أكبر مهندسي النهضة الإيطاليّة ليون باتيستا ألبرتي: «من النافع جدّا بالنسبة إلى شخص محموم أن يرى رسومات تجسّد نافورات، وبحيرات وشلاّلات. وإن لم يستطع إمرئ ما أن ينام ليلًا، فعليه أن يتأمّل منابع المياه، عندئذ سينام حتما». إذا كانت الرسومات تصلح أيضا لتهدئة النفوس وشفائها من الأرق، فهل تشفينا صور الرعب التي ننام عليها كلّ ليلة؟ ذاك كان إذا إنسان الأمس. هو المسموح له بأن يرى ما تمنحه الطبيعة لعيونه بكل سخاء ومحبّة. وذلك حينما كان العالم يوماً ما مكاناً هادئاً وحضناً دافئاً تصلح فيه رؤية الشلالات والنافورات بَلسماً للروح لبشر يحملون أرواحهم جيّداً. ما الذي يمكن أن يهدّئ أعصاب إنسان اليوم؟ في عالم لا يمنحه غير صور الرعب حتى وهو يستعدّ للنوم، هل ستكفيه رؤية الجداول والشلاّلات في قرن الاحتباس الحراري وتحت راية سماء بخيلة بكرمها؟ لكلّ عالم نصيبه ممّا يرى. لكن ماذا نرى اليوم؟ وهل أنّ ما نراه هو النصّ الوحيد الذي علينا قراءته؟ أم ثمّة نصوص أخرى لا نراها بأعيننا بل علينا قراءتها بعقولنا؟ القارئ الأمِّي ثمّة القارئ ولكن ثمّة أيضا اللاّقارئ. ذلك أنّ نسبة الأمّيين في العالم قد بلغت أكثر من 16 بالمئة. منهم 127 مليون شابّ لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ومنهم أيضاً 67 مليون طفل غير ملتحقين بالمدارس. أمّا في العالم العربي فقد بلغت نسبة الأمّية 19 بالمئة أي قرابة 96 مليوناً من الأمّيين. هذا والعالم لازال يتثبّت في إحصاء عدد الأطفال اللاجئين الذين لم يعد لديهم لا مدارس ولا سقف يأويهم ولاوطن يحميهم.. كيف سيقرأ هؤلاء عالمهم الذي انهار تحت أقدامهم؟... وإذا كانت القراءة في المعنى الأصلي لها حكراً على من يجيد قراءة الأبجدية في لغة من اللغات أو أكثر فهل هذا يعني أنّ قراءة العالم كما يقع علينا بأحداثه وبصور رعبه الخاصّ، لا يتقنها غير القرّاء من غير الأميين؟ لكنّ الأمّيين ممّن ليس «بقارئ» هم أيضاً قادرون على قراءة الصور لأنّ الصور لا حروف لها. ههنا يتغيّر مفهوم القارئ كي يتّسع في ضرب من كرم الصورة إلى غير القرّاء أي إلى الذين لا يجيدون أكل الحروف. وربّما لم تعد الحروف في عصر الصور، في إجتياحها العاصف لوجودنا، ضروريّة للقراءة. بوسع أيّ منّا فيما أبعد من كلّ أبجديات اللغة أن يميّز جيّداً بين صور الإغراء والمتعة، وصور الدمار والدماء. وأن يقرأ صورة إشهاريّة ولقطة من سينما الرعب وصور حصاد اليوم من قتلى سوريا أو اليمن أو ليبيا أو العراق. وكلّ ذلك في ليلة واحدة وهو يجلس على نفس الكنبة ويحدّق بنفس الشاشة. تستوي حينها كلّ العيون التي ترى وتستوي كل مقاسات الشاشات وكلّ أجسادنا المنهوكة بنهار ثقيل. مادمنا جميعاً نرى نفس ما تريده منّا سياسات الصورة أن نرى. ومادمنا جميعاً مدعوّين إلى قراءة ما تمنحه لنا شاشاتنا من صور بما هو ذاك هو عالمنا الوحيد وتلك هي قصّتنا الكبرى التي تحكينا والتي تبكينا. لا أحد منّا يفلت من هذا التمرين كل ليلة. كما لو كنّا بصدد واجب مدرسيّ مثل أطفالنا المطالبين بقراءة وحفظ جداول الضرب جيّداً. لن «يأخذوا الكتاب بقوّة» من المفزع لنا أن يكفّ أبناؤنا شيئاً فشيئاً عن قراءة الكتاب، لكنّ هذا قد لا يفزع إنسانيّة المستقبل في شيء لأنّ لها خطّة أخرى في القراءة لا نعرف آليّاتها. وربّما لن يكون في خطّة أبنائنا ولا في رغبتهم العميقة أن «يأخذوا الكتاب بقوّة» لأنّ الصورة تحاصرهم من كلّ صوب وتغريهم بأن ينضمّوا إلى لعبتها. وفعلاً هاهم يتحوّلون كلّ يوم إلى لاعبين افتراضيين تاركين الواقع بين أيادي اللاعبين الحقيقيين بعالمهم وبمستقبلهم، وغير آبهين بحضارة الكتاب. وتبقى صور الدمار التي تدعونا إلى حيّزها الشاشات كلّ ليلة وتجبرنا على قراءتها بما يجدر بها، هي صور بالرغم عنّا على حدّ عبارة لجورج د يدي هيبرمان. نعم نحن بإزاء «صور بالرغم عنّا: صور بالرغم من قدرتنا على النظر إليها بما يليق بها، صور بالرغم من عالمنا المتخم، الذي يكاد يختنق بالسلع الخياليّة». ورغم ذلك نحن مطالبون بقراءة هذه الصور أي بتسجيلها في ذاكرتنا الكبيرة كآخر من يشهد على عالم في حالة انهيار عميق أو كمن يتماسك في الخراب أو كمن يحاول الموت واقفاً مثل نخلة باسقة. فحين ننضمّ إلى منطق هذه الصور كقرّاء فنحن لسنا بالمتفرّج الذي يتسلّى، لأنّ صور القتل ليست تسلية لأحد. ونحن حينئذ لسنا بالقارئ العاديّ الذي يتصفّح الخبر مصوّرا في شكل أشلاء هنا ودماء هناك وجثامين في قلب الصورة محاطة بدموع من هنا وهناك، لا أحد منّا ههنا سيبقى قارئاً. في زمن الخراب، قد تنهزم كل مناهج القراءة من تحليلات سيميولوجيّة وتأويلية وجمالية وإستراتيجيّة.. ربّما علينا أن نكتفي بأن نرى فقط. يقول روني شار: «لو لم يكن الإنسان يغلق عينيه أحيانا، فهو سوف ينتهي بألاّ يرى ما هو جدير بأن يُرى». ويقول ألفاروس موتيس في كتابه «الوجه الأخير»: «أنت تنظر، وتنظر إلى حدّ تكفّ فيه عن أن تكون أنت نفسك». هل أنّ ما نراه هو الجدير بأن نقرأه أي بأن نكتب معناه العميق وأن نسرد قصّته الصامتة؟ ثمّة ثلاث إمكانيات للإجابة عن هذا السؤال: 1) أنّ ما نراه هو نصيبنا الوحيد من هذا العالم، وأنّ ما تنعم علينا به شاشاتنا في حضارة انسحاب الكتاب، هو نصّنا الوحيد الذي يُسمح لنا بقراءته. 2) أنّ ما نراه هو ما يريدون منّا أن نراه وأنّ لا أحد يختار مجاله البصري أي نصّه وقصّته الجديرة بالقراءة. 3) علينا أن نغلق أعيننا كي نرى ما ينبغي رؤيته. لأنّ النصّ الجدير بالقراءة هو نصّ لامرئي وأنّ الصورة لم تكن إلاّ من أجل خلق العتمة... أحزان لا تنام يُحكى أنّ إمبراطورا صينيّاً كان قد طلب من رسّام البلاط أن يمحُوَ شلاّلا كان قد رسمه على جدار القصر، وذلك لأنّ ضجيج المياه يقلق راحة نومه. لكنّ ديكارت فيلسوف حداثة الغرب كان ليردّ على هذا الإمبراطور الصينيّ ضاحكاً: إنّ ضجيج الناس لا يٌقلقني، بل هو عندي كخرير الجداول». وعن خرير المياه كتب أيضاً أكبر مهندسي النهضة الإيطاليّة ليون باتيستا ألبرتي: «من النافع جدّا بالنسبة إلى شخص محموم أن يرى رسومات تجسّد نافورات، وبحيرات وشلاّلات. وإن لم يستطع امرؤ ما أن ينام ليلا، فعليه أن يتأمّل منابع المياه، عندئذ سينام حتما». إذا كانت الرسومات تصلح أيضا لتهدئة النفوس وشفائها من الأرق، فهل تشفينا صور الرعب التي ننام عليها كلّ ليلة؟ نصوص الألم البصري إنسان الأمس كان مسموحاً له أن يرى ما تمنحه الطبيعة لعيونه بكل سخاء ومحبّة، وذلك حينما كان العالم يوما ما مكانا هادئا، وحضنا دافئا تصلح فيه رؤية الشلالات والنافورات بَلسما للروح لبشر يحملون أرواحهم جيّدا. ما الذي يمكن أن يهدّئ أعصاب إنسان اليوم؟ في عالم لا يمنحه غير صور الرعب حتى وهو يستعدّ للنوم، هل ستكفيه رؤية الجداول والشلاّلات في قرن الاحتباس الحراري وتحت راية سماء بخيلة بكرمها؟ لكلّ عالم نصيبه ممّا يرى، لكن ماذا نرى اليوم؟ وهل ما نراه هو النصّ الوحيد الذي علينا قراءته؟ أم ثمّة نصوص أخرى لا نراها بأعيننا بل علينا قراءتها بعقولنا؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©