الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشباب + نون النسوة + «الربيع» = المسرح العربي

الشباب + نون النسوة + «الربيع» = المسرح العربي
23 يناير 2013 20:25
لدورته هذه التي أقيمت في الدوحة برعاية الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر، خلال الفترة من التاسع وحتى الخامس عشر من هذا الشهر، يبدو أنه ما من ثابت في مهرجان المسرح العربي الذي تقيمه الهيئة العربية للمسرح بدءا من العاشر من يناير في كل عام في بلد عربي، بالنسبة لخياراتها المسرحية الفنية سواء على صعيد الأسس التي تبني عليها الاختيارات ضمن توجّهات بعينها أم على صعيد الهواجس والقضايا السياسية والاجتماعية الأبرز التي تمرّ بها المجتمعات العربية والتي يعاينها المسرح العربي أو يتناولها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى غابت بلدان عربية للمسرح فيها حضور تاريخي بل وغابت من بعض البلدان تجارب أساسية ما زالت مؤثرة في الحركة المسرحية على الأقل ومتميزة بمعالجتها البصرية للإشكاليات التي كانت تلّح على وجدان الفرد العربي حتى قبل أعوام قليلة ماضية، كالتجربة التونسية وحضرت تجارب أخرى لم نسمع بها من قبل. جهاد هديب كيف من الممكن أن يُقرأ ذلك؟ هل هناك هبوط في المستوى العام للمسرح العربي، قد بات ملموساً ومن غير الممكن غض البصر عنه؟ هل تدفّقت دماء جديدة فيه تطرح مقولات مختلفة فنيا وتعالج قضايا أخرى لم تعد تتلمسها التجارب المسرحية التي باتت كلاسيكية الآن أم أن هذه التجارب تتعالى عليها؟ ثم لماذا فازت مسرحية «الديكتاتور» لفرقة بيروت 8:30 من إخراج لينا أبيض وتمثيل جوليا قصّار وعايدة صبرا وليس سواها؟ أيضا، لماذا لم تفُز مسرحية مثل «صهيل الطين» لمسرح الشارقة الوطني من إخراج محمد العامري رغم معالجتها البصرية المتميزة لفكرة التسلط والقمع البطركي في إطار رؤية إخراجية متبلورة؟ المسرح والناس بدءا، فقد بدا لافتاً للنظر أن أحداث الربيع العربي وتداعياته على المسرح قد أثرت في توجهات الهيئة العربية للمسرح على نحو مباشر. ففي العامين السابقين أقامت الهيئة العديد من الملتقيات والمنتديات والأنشطة الموازية لمهرجان المسرح العربي أولت ما بات يسمّى بـ «الربيع العربي» اهتماما خاصا باتجاهين: البحث في إخفاقات المسرح العربي عن مواكبة مجتمعاته وما تمور به من أسئلة وترهص به من قابلية على التمرد إلى حدّ لا يتذكر المسرحيون والعاملون في المسرح والمتابعين للمسرح أي عمل مسرحي بارز تنبأ بما سيحدث، باستثناءات نادرة سُمح لها مثلاً أن تتحدث عن فكرة السلطة عبر تناول ثيمة «الكرسي» عموما وعن فكرة «الديكتاتور» على نحو أكثر ندرة. أما الاتجاه الأخير فكان المرأة، أي حضورها في المسرح، فأطلقت الهيئة عام المرأة في المسرح العربي ليكون واحداً من أنشطتها الدائمة فلا تسمح بأن تكون الهيئات المنبثقة عنها أو عن شركائها خُلواً من حضور نون النسوة فيها. لكن هنا من الواضح أن الفنانات العربيات الكلاسيكيات في حضورهن عربيا، كي لا نشير إلى أنهن نجمات أو مخضرمات فالكثير منهنّ لم يعدن كذلك، هنّ اللواتي يحظين بنصيب الأسد في ذلك بينما غابت تقريبا دماء شابة أو غير معروفة على نطاق واسع إلا قليلا. ما يعني غياب خبرات أخرى. مهما يكن من أمر، فإذا كان من الممكن أن نسمي دورة عمّان من المهرجان دورة حرّية التعبير وتجاور الأشكال المسرحية، فإن هذه الدورة هي دورة الإصغاء للمخرجين والفنانين الشباب من العاملين في مختلف الفنون المسرحية، وإعطائهم المساحة كاملة لقول ما يشاؤون دون رقابة فكرية أو غير فكرية مسبقة: تعال وقل ما تشاء، كان هذا هو لسان الحال. فهل كانت هذه واحدة من المعايير التي تمّ بناء عليها اختيار الأعمال المشاركة بالمعنى الفني للكلمة؟ ربما، لكن بدا ذلك ملموساً لهذه الدورة. هكذا من الممكن أن نطرح المعادلة التالية التي تمثل دورة مهرجان المسرح العربي على هذا النحو: أحداث الربيع العربي + اهتمام ناشئ بالمرأة من العام الماضي + حركة مسرحية عربية شابة = مهرجان المسرح العربي لدورته الخامسة في الدوحة. وهنا بعض المؤشرات التي تدلل على أصالة هذا التوجه لدى الهيئة العربية للمسرح، من موقع المتابع وليس المطلّ على قرار: تنافس على «جائزة سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عرض مسرحي عربي» مخرجين شابين: محمد العامري من الإمارات عن «حرب النعل» ومريم بوسالمي من تونس عن «زهايمر» وفازت بها الأخيرة، وفي هذه الدورة شارك المخرج عبد الله التركماني من الكويت بعمله «مندلي» الذي بدأ مشروعا مسرحيا أكاديميا تخرج به من المعهد العالي للمسرح في الكويت، والحاصل على جائزة أفضل عمل مسرحي متكامل وأفضل مخرج وأفضل ممثل لدور ثان ناله ضاري عبد الرضا في مهرجان أيام المسرح للشباب لدورة العام الماضي بالكويت. أما مسرحية «انفلات» للمخرج وليد الدغسني من تونس، فحازت الجائزة الذهبية لمهرجان ليالي المسرح الحرّ الدولي في عمّان مثلما تمّ تكريمها في مهرجان بجاية الدولي للمسرح الذي يعقد في مدينة بجاية بالجزائر. حدث ذلك مع أن الممثليْن: أماني بلعج ومكرم السنهوري هما ممثلان هاويان وليسا بمحترفين، كما أن العمل هو الأول لفرقة سبيس للإنتاج الفني، في الوقت الذي تعجّ به تونس بممثلين قديرين ومحترفين ومعروفين مغاربيا وعربيا. الأمر ذاته يكاد ينطبق على العرض العراقي «باسبورت» للفرقة الوطنية للتمثيل من إخراج علاء قحطان، باستثناء أمر «الهواية» إذ أن هؤلاء الممثلين العراقيين هم من خريجي معاهد واكاديميات مختصة وعاملين في فرقة. غير أن ما يجمعهم هو الاشتغال على الخشبة الفارغة للمسرح والاكتفاء بعنصر أو عنصرين بالإضافة إلى الإضاءة التي تلعب دورا حاسما في في الدلالة وفي إبراز فعل الممثل وعلاقة حركة جسده بما يلفظه هذا الجسد من جهة وعلاقته بالأجساد الأخرى للممثلين من جهة أخرى. وهذه بالفعل مغامرة تُحسب للممثلين والمخرجين في العرضين: «انفلات» و»باسبورت»، لكنّ ما نفذه ممثلا «انفلات» يحمل قبسا من تجربة المسرح التونسي، مع خطّ موازٍ من المسرح الفرنسي، وتحديدا ذلك الاتجاه الذي ينحو إلى أن يكون جزءا من المسرح الفقير ومن ما يعرف بمسرح القسوة معا، إنه مزيج تمّ الاشتغال عليها على نحو لافت ومميز. أما المخرج الإماراتي محمد العامري، الذي يعتبر واحدا من أكثر المخرجين الإماراتيين قلقا وأخصبهم خيالا، فهو يحاول في «صهيل الطين» أن يعمق من اشتغاله على المشهدية البصرية عبر التقاط مفردات دالة في العرض يأتي بها من ما هو مباغت لنا ومختلف عن ما عهدنا من قبل وبالتالي غير المتوقع ويحمل دلالة في «سيمياء» العرض المسرحي من جهة، ثم عبر إدارة الممثل من جهة أخرى مستفيدا من خبراته في التمثيل المسرحي والتلفزيوني، إذ لا يأبه، في صناعته المسرحية، إن كان الممثلون حشدا أم لا لثقته بنفسه وبمقدرته على إدارة فريقه، تبعا لما يريد قوله من العرض وتبعا لما يريد إيصاله إلى الجمهور، عندما يريد تجسيد حالة مسرحية ما. وبالتأكيد، لا محيد عن الإشارة للبنانية لينا أبيض ومسرحيتها «الديكتاتور» التي حازت الجائزة على نحو متوقع، فلقد عادت في زمن الثورات العربية إلى نص قد كتبه أحد كتّاب المسرح الحديث عصام محفوظ منذ أربعة وأربعين عاما، أي في زمن الهزيمة بالتحديد، لتقلبه مرة أخرى فيصبح راهنا يخاطب واقعا معيوشا ومؤثرا في حيواتنا كل يوم بوصفنا أفرادا وشعوبا. يمكن القول إن هذا العرض يحمل توقيع ثلاث نسوة، هنّ المخرجة والممثلتان جوليا قصّار وعايدة صبرا، اللتان تعتبران من أبرز ممثلات المسرح اللبناني في سنواته العشرين الأخيرة على الأقلّ ومن أكثرهن موهبة واجتهادا وكفاءة. في هذا العرض، للتجريب اتجاهين، أحدهما يذهب باتجاه بالإبقاء على صيغة المذكر في الحوار المسرحي إنما بأداء نسوي شابه بعض التأنيث من قبيل الإضحاك ربما، والآخر هو الذهاب باتجاه المسرح الفقير. هل كان هذا الخيار مفروضا؟ الأرجح أن الإجابة: لا، فما قدمه العمل بدلالته الواسعة والعريضة يشير إلى أن العمل بمجمله كان موقفا من ما يجري حولهن ومن ما خبرنه طوال أعوام من العيش في ظلّ سلطات وحروب تقلّبت على مجتمعهن إلى حدّ أن هذا العرض هو عرض الاشتغال على الذاكرة الشخصية إنما في فضاء مسرحي جامع. أي أن الممثل ليس معزولا عن النص ولا عن الصراع الاجتماعي بكل أبعاده الذي خرج منه هذا النص، وكذلك هي الحال بالنسبة للمخرجة. سؤال الواقع وتحولاته والسؤال هنا: إذا كان الواقع كذلك بكل ما يجري فيه من اهتزازات للثابت والراسخ والقارّ واليقيني، فهل سيكون المسرح العربي بمنأى عن هذه الاهتزازات بكل ما تحمله من أبعاد إبداعية تؤثر في جوهره مثلما تؤثر في دوره؟ وهل يمكن للمسرح في المستقبل أن يكون له دور؟ بحسب ما جرى في مهرجان المسرح العربي، وبحسب هذا التجاور بين أجيال مسرحية من مخرجين وممثلين، وبحسب ما قُدّم من أعمال وبوصف هذه الأعمال عيّنة على ما يمور في المسرح العربي من أسئلة، وبعيدا عن الميول والأهواء ما أمكن، فإن من الصعب القول بأن المسرح العربي هو في مرحلة مواكبة لما يحدث، بل إن ما حدث قد أربك القناعات الثابتة في المسرح العربي. لأن من العسير على المسرح أن يستمر هكذا في حال من الاغتراب والنأي عن ما يجري من حوله مثلما كان يحدث في السنوات الثلاثين الأخيرة. وذلك فضلا عن أن التحولات في الإبداع، إجمالا، وأساليبه وطرائقه، أي خلق مسارات جديدة فيه أمر يحتاج إلى زمن لهضم أسئلة الواقع الراهن الذي لا يكفّ عن طرح الأسئلة على كائن إبداعي حساس ورقيق مثل المسرح، فهو من أصفى الفنون وأقلّها صناعة وخداعا، إلى حدّ أن صناعة عمل مسرحي أشبه ما يكون بصناعة قصيدة، لذلك فإن تجليات هذه التحولات من العسير أن تظهر مباشرة و(الآن، وهنا). من هنا، فإن الاختلاط بين الأساليب المسرحية ومناهج الأداء المسرحي وتعدد المدارس في والرؤى وفي الإخراج والتمثيل وتلاقح الخبرات بين الأجيال المتعددة هي، جميعا، ما ينبغي تحققه، وليس بخلع هذا النهج وتثبيت ذاك، وليس بالمواقف والتصورات المسبقة عن هذا المسرح أو ذاك. إذن، ماذا عن الجمهور في هذا الخضّم، الأرجح، أن المسرح سينشغل به أهله خلال فترة مقبلة ليست قصيرة لكنها تمهّد لمسرح حديث ومتطور قوامه الأفراد لا المجموع، أي الحضور لا الجمهور، والشخص لا الحشد. ربما يحدث ذلك يوما ما وربما لا. مرة أخرى، لماذا فازت «الديكتاتور»؟ ببساطة لأنها أقنعت لجنة التحكيم بأن ما قدّمتْه هو الأبرز. هنا، يلاحظ المرء أن أعضاء لجنة التحكيم ينتمون في مجملهم إلى ذلك الجيل المسرحي العربي الذي لم يكفّ عن طرح الأسئلة على جوهر الفن المسرحي وعلاقته بالواقع الاجتماعي وشكل هذه العلاقة، وفي هذا الاتجاه قدّموا، بوصفهم مخرجين وكتّاب ونقّاد مسرحيين عطاء تألق خلال الثمانينات والتسعينات وحتى بداية الألفية. أيضا، بالتأكيد فقد تأثروا بما يدور في بلدانهم والبلدان العربية الأخرى من أحداث وتأملوا في كيفية تأثيرها على الأحداث. بالتالي، يعني هذا الأمر في ما يعنيه، أنهم منفتحون، على الأرجح، على الاتجاهات المسرحية بكافة أشكالها دون انحياز، إنما دون تنازل عن شروط وثوابت فنية ينبغي تحققها، من بينها أن التمثيل بوصفه فعلا وردّ فعل وجملة استجابات حركية لانفعالات درامية هي انعكاس للنص وتجسيد له أمر لا مزاح فيه، من هنا يمكن النظر إلى «الديكتاتور» بوصفها قد حققت أصعب الشروط. أما لماذا خسرت «صهيل الطين» الجائزة؟ فلعل الاجابة ممكنة، غير أنها تذهب باتجاهين: الأول ذاتي، إذ بدت واضحة تلك الهنّات في التمثيل هنا وهناك أو قُلّْ الأداء غير المقنع كفاية في بعض مطارح التمثيل، رغم الجماليات الذكية التي قدّمها العامري على مستوى المشهدية البصرية وتوظيف دلالاتها سيميائيا، بمعنى أن الذهاب نحو المسرح الفقير والاكتفاء بعناصر قليلة من السينوغرافيا في بعض العروض الأخرى بدت هروبا بالقياس إلى ما أنجزه العامري، وهذا كلّه من جهة ولنسمِّه سببا ذاتيا. لكن من ناحية أخرى ولسبب موضوعي فإن مؤلف النص، الكاتب المسرحي اسماعيل عبد الله، هو الأمين العام للهيئة العربية للمسرح، أي الجهة القائمة تحديدا وراء هذا الحراك المسرحي عربيا. نعلم جميعا أن الوسط الفني المسرحي، بوصفه شريحة من الشرائح الاجتماعية العربية النخبوية والمثقفة، هي مجتمعات نميمة قبل أن تكون مجتمعات إبداع، مجتمعات تثرثر أكثر مما تقرأ أو تتأمل، وتتكئ على قوالب ومقولات فنية مسرحية معدّة سلفا، بعد أن تخلّت للندرة من المسرحيين عن التأمل في المسرح بكل أبعاده. للأسف هذا هو واقع الأمر وكلنا يعلم بذلك. وهو أمر تحليله صعب ومعقد ويحتاج إلى كتب لو أخذنا هذه النخبة المثقفة كشريحة لعقل عربي فاعل في زماننا هذا. بالمقابل فإن الهيئة العربية للمسرح قد بنت، وتبني صدقيتها في الوسط المسرحي العربي، بناء على حيادها بحيث أنها لا تُقحم نفسها ولا تفرض توجهاتها الفنية المسرحية أو رأيها على لجنة تحكيم او حتى على رأي في كتاب توافق على إصداره لجنة خاصّة تتبع الهيئة، بحسب مشوارها القصير منذ نشأتها العام 2007، وذلك، مرة أخرى، من موقع المتابع وليس من موقع الذي يمتلك معلومة. والحال هذه، لو افترضنا جدلا، أن «صهيل الطين» فازت بالجائزة فما الذي سيحدث؟ ستصبح «صهيل الطين» لاسماعيل عبد الله وحده وسيتقبل التهاني من المسرحيين أكثر مما يُشار إلى المخرج وصنيعه، هو الذي فكك النص إلى مشهدية بصرية وأدار فريقا من الممثلين وغير الممثلين يتكوّن من واحد وعشرين رجلا وامرأة، وسينتهي الأمر عند هذا الحدّ على مستوى الظاهر. لكن في حقيقة الأمر أن الثقة بالهيئة العربية للمسرح، التي بنتها خلال أعوام من التعب والجهد، سيكون قد جرى هدمها في لحظة واحدة. ستكون الهيئة هي التي اختارت لجنة التحكيم وهي التي فرضت رأيها بحيث جرى منح الجائزة لا لعمل يستحق، إنما لـ «مسرحية اسماعيل عبد الله». باختصار، وبلغة أهل مصر، ستكون «فِضيحة مجلجلة بجلاجل». وربما لا مبالغة في القول بأنها ستضع حدّا لثقة أهل المسرح العربي، بعجره وبجره سواء مبدعيه الحقيقيين أم المدّعين فيه والمتطفلين عليه، بالهيئة العربية للمسرح إلى حدّ بعيد. إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أهل هذا الوسط يسمعون اكثر مما يتأملون ويؤولون الحادثات أكثر مما يقرأونها. للأسف فإن خسارة «صهيل الطين» جاءت أيضا، فضلا عن تلك الهنّات في التمثيل، لهذا الظرف الموضوعي أيضا. غير أن الحلّ في أحد أوجهه قد يكون هو واحد من أمرين لمواجهة ظرف كهذا: إما توسيع الجائزة بحيث تتعدد كما هي الحال في المهرجانات المحلية العربية، مثل جائزة مهرجان أيام الشارقة المسرحية مثلا، أو أن تُمنح جائزة خاصة لعمل مسرحي آخر قد يكون جديرا بالجائزة بحيث يقترن المنح للعملين بتقرير للجنة التحكيم تتم تلاوته على الملأ مع توضيح تلك الأسباب التي أدت إلى منح الجائزة لهذا العمل وليس لذاك، وأن تتوفر إرادة تحكيمية تقوم على جرأة المنطق والعقل باتخاذ قرار الحجب لهذا العام أو ذلك مع إبداء الأسباب كاملة، وذلك دون الاكتفاء بإعلان عنوان المسرحية الفائزة بالجائزة في حفل الختام، والسلام. تكريم ثريا جبران ولكل مهرجان ذلك الخاص وما يميزه عن سواه من دوراته السابقة وكذلك المهرجانات الأخرى، وهو من ذلك النوع الذي يترك أثرا في ذاكرة الذين هم على تماس مع أحداثه يوما بيوم. الحدث الخاص لهذه الدورة كانت الفنانة المسرحية المغربية ثريا جبران. هي امرأة ذات أبعاد مسرحية مغاربية وعربية وعالمية بعض الشيء أيضا، وحظيت باحترام خاص في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ولا زالت، نتيجة لمواقفها الفنية- المسرحية والجمالية والسياسية المُعلنة باستمرار إلى حدّ تعرضها للاختطاف بسبب آرائها المعلنة. كان مجرد الإعلان عن أنها هي التي ستلقي رسالة المسرح العربي في حفل افتتاح المهرجان التفاتة عربية كريمة لجهد هذه الممثلة والمثقفة من نوع لافت، لا مسرحيا فحسب، بل على نطاق معرفي أوسع، إذ بالإضافة إلى لغتها الأم، تتقن ثريا جبران الفرنسية وجانبا من الاسبانية ولها صلات واسعة مع مثقفين وفنانين من مختلف أنحاء العالم. وفضلا عن تربيتها في بيت ذي نزعة عروبية فقد مارست العمل السياسي على الخشبة وخارجها. يمكن اعتبار هذا التكريم لثريا جبران تكريما لتجربة اتجاه منطقي وتقدمي في المسرح العربي خاض البحث في الشكل والمضمون المسرحيين وفقا لنزعة يسارية فكرية مثقفة جنحت قليلا باتجاه المحكي الموروث والشعبي الحكائي مثلما استفادت كثيرا من طروحات التقدميين المسرحيين في الغرب وبكل ما قدّموه من أشكال مسرحية خاصة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي قبل تراجع الدور الاجتماعي للمسرح في الغرب مع ما يعرف بـ «ثورة» الطلاب» 1968 التي عمّت العالم آنذاك. وما حدث في المهرجان أنه، يوم وصول الوفود وحتى لحظة الافتتاح، لم يتمّ الإبلاغ عن إصابة ثريا جبران (60 عاما، قضت 36 منها على خشبة المسرح) بوعكة صحية، قيل إنها نوع من الشلل الذي أصابها سابقا، ما ألزمها الذهاب إلى المستشفى. هكذا جرت مراسيم الحفل حتى جاءت لحظة لم تكن في الحُسبان، إذ عِوَضا عن صعود ثريا جبران إلى الخشبة لقراءة رسالة المسرح العربي، بدأت هذه الفقرة من الحفل بفيلم تسجيلي قصير تناول مسيرة تجربتها الفنية على وجه الإجمال، ثم ليتم الإعلان عن اسمها لتتقدم إلى الخشبة، وفي هذه اللحظة بالذات بُدِء ببث شريط مصور تظهر فيه ثريا جبران طريحة فراش في إحدى مستشفيات الرباط، ثم ليأتي بها ممرضون تمشي بعسر وعناء وفي يديها وأنفها أنابيب الجلوكوز ثم يحدث قطع فإذا بها تتحدث وقد امتدت يد أحدهم بالميكروفون قريبا من فمها، وقالت: «كان بودي أن أكون بينكم لكن وعكة صحية ألمّت بقلبي جعلتني أغيب عنكم، لكنني حاضرة معكم قلبا ووجدانا، ولي أمل كبير في أن أراكم في أقرب يوم». هنا توقّف الشريط إلى حدّ بدا أن ثمة خلل ما فيه أو في طريقة بثه، إلا أن أضواء الخشبة أضيئت ثانية، كما أنّ صوت المرأة بدا أنه توقف أيضا من فرط ما كان يرتجف ومن فرط التعب، ربما لم تستطع المرأة أن تكمل، أو ربما لا تريد إدارة الحفل إيلام الحضور أكثر خاصة وأن في القاعة أصدقاء كثر لثريا جبران من كل بلد عربي تقريبا. عندها أُعلن عن أن الممثلة المسرحية اللبنانية رندا أسمر سوف تنوب عن ثريا جبران لقراءة رسالة يوم المسرح العربي ولما وصلت إلى المنبر قالت: «الحِمل ثقيل». لقد أعيد نشر هذه الرسالة في أكثر من يومية عربية قبل إلقائها بالإنابة وبعد ذلك، بل أخذتها بعض وسائل الإعلام بوصفها الحدث الأبرز في حفل الافتتاح الذي انتشر عربيا على نحو واسع. لا بدّ وأن الكثير من مفاصل هذه الرسالة قد لامس شيئا ما عند كل مَنْ قرأها خاصة أهل المسرح. كانت رسالة حارّة أشبه بنشيد طويل، وأقرب إلى روح الشعرية عندما تكون هذه الروح هي خلاصة أي فن، كما أنها نتاج خبرة مخيضة وخبرة أخرى موازية جماليا ومعرفيا، بل خبرة في التعامل مع القلق الابداعي ومحاولة التعايش اليومي معه: «المسرح إنصات وصمت وتأمل وسكينة. فضاءٌ للأمل، وحتى حين ييأس المسرح يكون يأسه خلّاقا ومدهشا وحيّا، وليس عدميا أو سلبيا. المسرح ثقافة واستثمار ثقافي، خيال وتقنية وصناعة حضارية وإنسانية». وبروح من النقاء والشفافية والمصداقية، لم تنس ثريا جبران أولئك الذين أثروا فيها فكريا وثقافيا وإنسانيا من المثقفين العرب، ولم تنس أولئك الذين قاسموها خبز التجربة وملحها وسكّرها طيلة السنوات الطويلة من المسرح في كل مكان عربي؛ بل على كل خشبة مسرح عربية ثم لتختم رسالتها بالقول: «هل قلت لكم إنّ المسرح فنّ حقيقة؟ أجل، ولكنه فنّ الشكّ أيضا. فالمسرح تعبير عن الشك بامتياز. الشك الذي يوقظ فينا الوعي والسؤال. هكذا تعلمت المسرح، وتعلمت في المسرح، أن نخدم الحقيقة وأن نشكّ فيها. فيا حماة الحقيقة اتحدوا، ويا جيل الشكّ كنّْ بالمرصاد». هكذا كأنما توقع ثريا جبران على خاتمة تجربتها، أمدّ الله في عمرها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©