الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في مرايا الأيّام

في مرايا الأيّام
3 مارس 2016 05:14
العادل خضر يمثّل القرن العشرون منعرجاً حاسماً في الفكر الغربيّ هو المنعرج اللّغويّ، فقد وقع كلّ شيء في قبضة اللّغة، فصارت كلّ الظّواهر تقرأ بوصفها كلمات وعلامات ونصوص وخطابات، بما في ذلك اليوميّ، فقد أضحت حوادث الأيّام، وما يجري في كلّ يوم وما يجدّ فيها من أحداث لافتاً للنّظر. فبات الحديث عن الرّاهن اليوميّ ظاهرة لافتة للانتباه بسبب كثرة ما كتب في الحياة اليوميّة أو اليوميّ، وهي على كثرتها ليست اختصاصاً، وإنّما هي طريقة في النّظر إلى الحياة اليوميّة، وقراءة ما يجدّ فيها من حوادث وأحداث وما ينبثق فيها من ظواهر بوصفها خطابات، ولكنّها من نوع خاصّ، لأنّها تخفي خطابات أخرى هي الّتي يتعيّن كشفها أو فضحها. الكتابة في اليوميّ بهذا المعنى هي ضروب شديدة التّنوّع من التّشخيص، شبيهة بالتّشخيص الطّبّيّ، تتّخذ من التّفاصيل الصّغيرة الّتي تعجّ بها حياتنا اليوميّة مادّة خامّا تحتاج إلى إضاءة وتكبير لإطارها. وقد كان والتر بنيامين يرى في هذا الضّرب من التّكبير التّحليليّ للحدث، أو للمقطع، أو للتّفصيل الصّغير مجالاً لعصرِ تقاطعِ التّحليل النفسيّ وعصرِ إعادة الإنتاج التّقنيّة الفوتوغرافيّة والسّينمائيّة. وقد اتّبع (رولان بارت - Barthe) النّهج نفسه في تحليل الصّور الفوتوغرافيّة. فهو يُسمّي هذا التّفصيل الصّغير النّابي النّافر من الصّورة «النّاتئَ» le punctum. وهو (أي«النّاتئ») في نظرنا مبدأ قراءة لنوع من الصّور لا يكتمل فهمه إلاّ بمفهوم المنتشر studium. فالنّاتئ عموما هو هذا التّفصيل الصّغير الّذي ينبثق من حقل «المنتشر» الواسع، فلا ينتظم بانبثاقه المباغت في شفرته ولا ينقاد لنسقه. إنّ هذا الّذي ينبثق بغتة فيباغت كلّ توقّع هو ما تعتني به الكتابات في اليوميّ، ذلك أنّ اليوميّ هو ما يحدث في كلّ يوم، ولكن ليس على وتيرة كلّ الأيّام بسبب تغيّر نسق سرعته. فالحادث هو حدثُ سرعةٍ، هذا إذا اعتبرنا الحوادث مرتبطة بإسراع accélération التّاريخ وسرعة الواقع. ولعلّ ما يميّز الأحداث المعاصرة هي كونها حوادث، فسقوط مبنى التّجارة العالمي 2001، وانهيار البورصة المالية 2007، وثورات الرّبيع العربي 2011، إنّما هي حوادثُ سرعةٍ. هذا الضّرب من الحوادث يسمّيه بول فيريليو Paul Virilio الحادث الكامل un accident intégral، لأنّه يفجّر سلسلة أخرى من الحوادث. تاريخ الحوادث لئن وجد دوما تاريخان: التّاريخ العامّ والتّاريخ الحدثيّ l›histoire événementielle كالثّورة الفرنسيّة 1789، واكتشاف أمريكا، والحرب العالميّة... فقد أصبح لنا بسبب تغيّر سرعة الواقع اليوميّ تاريخا واحدا، هو تاريخ الحوادث. وهو تاريخ المفاجآت، أي هذا الّذي يقع فجأة خارج كلّ توقّع. فما وقع في مبنى التّجارة العالميّ ليس حدثاً، وإنّما حادث له قيمة الحدث، ولعلّه بسبب سرعة وقوعه المباغت، أضحى زمنُ تلك الحوادث نادرا تخلّده الذّاكرة وتحافظ عليه حتّى لا يتكرّر. هذا التّشخيص الأوّليّ يحملنا على أن نتساءل: هل اليوميّ هو من جنس الحوادث الصّادمة؟ إذا كان اليوميّ نسبة من «اليوم»، فإنّ من معاني «اليوم» في «لسان العرب» أنّه «يُقال عند الشّدّة والأَمرِ العظيم: اليومُ»، فهل اليوميّ هو الحدث الّذي عظمت شدّته فخرج من حدّ الرّتيب والمعتاد، ودخل في حدّ النّادر والاستثناء؟ لنسجّل من الآن أنّ اليوميّ ليس استثنائيّا، وهو رغم ذلك حدث صادم عنيف، ولكنّ مصدر عنفه ليس بسبب دخوله في حدّ النّادر والاستثناء، وإنّما بسبب مكوثه في حدّ الرّتيب والمعتاد. فاليوميّ يستمدّ عنفه من رتابة ما يقع كلّ يوم على نحو ناعم شفّاف. وتخفي هذه الشّفافيّة نوعا من الاضطراب نترجمها بلفظ anomalie وهو لفظ وصفيّ يستخدم لتعيين واقعة من الوقائع موسومة بالاضطراب وعدم الانتظام، فابتعدت من جرّاء فوضاها désordre عن الغالبيّة العظمى من الوقائع الّتي يمكن أن تقارن بها، بخلاف لفظ anormal (اللاّسويّ) المعياريّ الّذي يتضمّن إحالة على قيمة مّا. وباسم هذه القيمة تُقصى على سبيل المثال قوى الشّرّ الّتي هي بالضّرورة قوى نقصان مقترنة بالألم والخطيئة والقبح. فالإقصاء هو في النّهاية ترجمة لـ «ما يجب أن يكون» Devoir-être. بيد أنّ هذه القوى الّتي كانت تُرمى خارج المشهد hors-scène اليوميّ قد أضحت بفعل الإقصاء مشهدا مرذولا obscène. وهو لفظ عسير التّرجمة، إلاّ أنّنا يمكن أن نقول في تعريفه بشيء كبير من الاختزال: إنّه المشهد الّذي صار اليوم ينتهك الدّوائر الخصوصيّة والعموميّة، فلا يعترف بحميميّة الحياة الخاصّة، ولا يُقيم وزنا لحُرمة الفضاء العموميّ. هذا المشهد شفّاف، أي لا توجد علامات تمثّله، فغدت قراءته عسيرة تحتاج إلى تشخيص متنوّع المداخل والاختصاصات. قراءة اليوميّ إن هذه الشّفافية هي الّتي حملت كبار المفكّرين إلى العناية باليوميّ، فإن يعتني أحد الفلاسفة المعاصرين من حجم «تشيتجاك» ببعض السّلع كبيضات «كندار سربريز Kinder Surprise»، فيجري عليها ضربا من التّحليل (يستمدّ مراجعه النّظريّة والإجرائيّة من التّحليل النّفسي اللاّكانيّ بصفة خاصّة) فمعنى ذلك أنّ تحوّلاً عميقاً قد جدّ في طرائق النّظر إلى أشياء اليوميّ في «مجتمع الاستهلاك». فبيضات كندار الّتي من المفروض أن يشتريها الأطفال ليأكلوا الشّوكولاتة إنّما صارت تُشترى من أجل أن يعثروا على المفاجأة، وهي هديّة صغيرة. وقد بيّن «تشيتجاك» من خلال هذا المثال أنّ موضوع السّتّينيّات (من القرن العشرين) الأكبر الّذي كان يدور على نقد «مجتمع الاستهلاك» قد أصبح اليوم صيغة في النّقد شديدة السّذاجة. فهذا المجتمع الّذي كان يلبّي بعض المسرّات الزّائفة والمباهج الصّغيرة والملذّات الحمقاء، إنّما كان يهدف من كلّ ذلك إلى حرماننا من أشواقنا الحقيقيّة désirs vrais. فبيضات كندار تبيّن أنّ المنطق المتحكّم في ترويج البضائع هو منطق الشّوق désir لا منطق الاستهلاك، وليست بيضات كندار سلعة استثنائيّة لأنّها صنعت على منوال جميع البضائع الّتي تعدنا بشيء مّا زائدٍ فوق ما يمكننا استهلاكه، مثل تلك اللّفافات الّتي تحيط بالبضاعة وقد كتب عليها «تجدون جوائز كثيرة في انتظاركم». ففي رأي «تشيتجاك» ينبغي أن نتحسّب من أسطوريّة «مجتمع الاستهلاك» الّتي لا غاية لها سوى المزيد من الاستلاب، استلابنا، والأسطوريّة الّتي تخاطب أشواقنا الحقيقيّة. ومهما يكن الأمر فإنّ الفكر اليوم، في عهد الـ «نيوآيج New Age» يدلّ باهتماماته الجديدة أنّه قد غادر منذ زمان صرح المعرفة النّبيلة، ليعتني بالشّأن اليوميّ، وأشيائه الصّغيرة والكبيرة وظواهره الجديدة أو المتجدّدة. المفكرون واليوميّ لم تبدأ العناية بالحياة اليوميّة وأساطيرها اليوم، فقد دشّنها في واقع الأمر الفكر الألماني، ويمكن أن نجد الخيوط الأولى عند الفيلسوف المتعدّد الاهتمامات والتر بنيامين Walter Benjamin الّذي كان من أوائل من كتب عن التّصوير الفوتوغرافيّ في مقالة معروفة بعنوان «موجز تاريخ التّصوير الفوتوغرافيّ»، أو مقالته الشّهيرة عن «الأثر الفنّي في عصر إنتاجيته التّقنيّة»، ولكن يظلّ فرويد، فيما نعلم، أوّل من اعتنى بالحياة اليوميّة على نحو مباشر لمّا ألّف كتابا عنوانه «الأمراض النّفسية للحياة اليوميّة»، وهو كتاب يعتبره الكثير من الباحثين يتنزّل في نطاق مغامرات سيجموند فرويد Sigmund Freud الّتي تهدف إلى التّوسعة من مجال النّظريّة النّفسيّة، وجعل نطاق الإجراء فيها أرحب يشمل الثّقافة والدّين والحياة اليوميّة أيضاً. وقد لفت فرويد في هذا الكتاب الانتباه إلى الأمراض النّفسيّة الّتي تعجّ بها حياتنا اليوميّة، كنسيان الأسماء أو الكلمات الّتي تنتمي إلى لغات أجنبيّة، أو ذكريات الطّفولة وزلاّت اللّسان وأخطاء القراءة والكتابة... ولا نعرف من المحلّلين النّفسيّين المعاصرين ممّن جارى فرويد في العناية بالحياة اليوميّة من منظور التّحليل النّفسي سوى دانيال سيبوني Daniel Sibony المحلّل النّفسي الفرنسي (ذي الأصول المغربيّة) الّذي كتب مقالات كثيرة تعالج بمتابعة لصيقة وعن كثب الأحداث والظّواهر الجديدة الّتي ما فتئ اليوميّ le quotidien يفاجئنا بجدّتها، أو يفاجئنا بعودتها في أشكال جديدة. إنّ كتاب سيبوني يحمل عنواناً جامعا ًلأجزائه الثّلاثة هو أحداث Evènements فإذا ما عرّفنا الحدث بوصفه هذا الاصطدام الّذي يحدث مع الواقع، أو هو هذا اللّقاء الصّادم traumatique مع الواقع فإنّ الأحداث الّتي لا نتعجّب من وقوعها وإنّما من عدم تنبّؤنا بوقوعها تخفي في حقيقة الأمر ميلنا إلى أن نتوقّع حدوث «كلّ شيء» حتّى لا يحدث «شيء» فلا يحدث لنا «أيّ شيء». إنّ ما قام به سيبوني Sibony في هذه المقالات هو متابعة لصيقة لأحداث تتعلّق بالرّياضة، والسّيدا، والشّرق الأوسط، والبوسنة، والانجذاب إلى المال، والبطالة، والتّمييز العرقيّ اليوميّ، والتّعذيب، وحلول عام 2000، وانتخابات فرنسا، وكرة القدم، والإدمان على الكحول، والعنف المدرسيّ، والاستنساخ، وأفلام سبيلبيرغ، وتعليقات على أفلام كثيرة... وليس التّحليل في هذه المقالات سوى تسليط زاوية نظر على الحدث في شكل إضاءة وامضة، أي في شكل ومضة ملتقطة من الواقع، مأخوذة من الحدث، أو الحدث اليوميّ الّذي ينفتح إذا ما تجاوزنا حدوده الظّرفيّة على مشاهد أخرى مضطرمة ومضطربة، حيث يغدو المرئيّ من الحدث تحت طائلة قوى أخرى، كقوى الذّاكرة والفنتازما، والدّوافع القديمة والمكبوتات الغامضة الخفيّة الّتي تطفو على السّطح، فتجعل الحدث ينجم، فتعرضه أمام عيوننا المندهشة على نحو يذهلنا وينوّمنا. أسطوريات بارت بيد أنّ الفضل الكبير يعود إلى رولان بارت الّذي وهب لليوميّ وأساطيره «ألقاب نبالته ses titres de noblesse» لمّا نشر كتابه «أسطوريّات - Mythologies» للمرّة الأولى في فبراير من سنة 1957. ويحتوي هذا الكتاب على ثلاث وخمسين مقالة عن أساطير المجتمع الفرنسيّ كتبت بانتظام كلّ شهر، ونشرت بالصّحف الباريسيّة بين سنتي 1954 و1956. وقد كان بارت يحاول فيها التّفكير بانتظام في بعض الأساطير من الحياة اليوميّة الفرنسيّة متّخذا ممّا يصدر في الصّحف (مقالات صحفيّة، أو صورة فوتوغرافيّة منشورة في مجلّة أسبوعيّة، أو شريط سينمائيّ، أو عرض مسرحيّ أو معرض من المعارض) منطلقا للتّأمّل والتّحليل. ونجد في هذه المقالات نقداً إيديولوجيّاً موضوعه لغة الثّقافة الّتي تسمّى «ثقافة الجماهير culture de masse»، ولكنّه نقد مشفوع بتحليل سميولوجيّ لهذه اللّغة. فقد عالج بارت هذه «التّمثيلات الجماعيّة» على أنّها أنظمة علامات آملا من هذا الإجراء أن يفضح هذه الأنظمة ويبيّن بالتّفصيل ما فيها من تزييف وأسطرة قد قلبت ثقافة البرجوازيّة الصّغيرة إلى طبيعة كونيّة. وقد ساهمت الصّحافة والفنّ والحسّ المشترك في أسطرة هذا الواقع التّاريخيّ على نحو انقلب فيه (أي هذا الواقع التّاريخيّ) إلى واقع طبيعيّ مؤسطر، وقد كان همّ بارط هو فضح هذا الاستغلال الإيديولوجيّ الّذي كان يتخفّى بالأشياء وفي الأشياء. لقد اعتنى بارت في هذه المقالات بمواضيع تبدو هامشيّة وبعيدة في الظّاهر عن كلّ أدب (أو عن تحليلاته الأدبيّة السّابقة الّتي ظهرت في كتابه البكر «الدّرجة الصّفر للكتابة»)، مثل مباراة في الكاتش le catch الّتي حلّلها بارط ليبيّن أنّ الكاتش ليس رياضة حقيرة، وإنّما هو مجرّد عرض شبيه بالمصارعات الّتي كانت تجري في المسارح الرّومانيّة، أو تحليله لدورة فرنسا في الدّرّاجات الّتي ارتقت إلى مصافّ الملاحم، أو قراءته لخطاب الإشهار والدّليل الأزرق السّياحي، أو تحليله لبعض الوجوه الّتي انقلبت إلى أيقونات تخفي أساطير الجمال البرجوازيّ مثل وجه غاربو أو أساطير البرّ والإحسان الّتي يمثّلها وجه القسّ بيار L›abbé pierre، أو استقراؤه لبعض الصّور الصّادمة photos-chocs أو الأشياء الّتي تعمّر الكون البرجوازيّ مثل تحليله لسيّارة الستروين الجديدة ولعب الأطفال وغير ذلك من المواضيع... الّتي كانت تمثّل في نظره مجموعة من الأساطير تغذّي الحياة اليوميّة، وتشكّل في الآن نفسه ثقافة الجمهور الحديثة. ولا تتحدّد الأسطورة عند بارت بموضوعها وإنّما بطريقة قول الموضوع وعرضه. فالأسطورة عنده لا تنبثق من طبيعة الأشياء، وإنّما هي كلام أو عبارة اختارها التّاريخ، ولذلك كان شغله الشّاغل في هذا الكتاب هو الإجابة عن السّؤال التّالي: كيف تصنع الأساطير؟ لأنّه بمعرفة طرائق صناعتها وتشكّلها يمكن أن نفكّك رموزها ونحلّ طلاسمها. وبعد مرور نصف قرن من صدور «أسطوريّات» يبدو هذا الكتاب لقارئه اليوم كأنّه مخزن عجيب من الأشياء الّتي عفّى على الكثير منها الزّمان، لكأنّ بارت بهذا الكتاب كان يصون كلّ ما كان آيلاً للاندثار، ويصنع منها ذكريات وأشياء للذّاكرة. واحتفاء بهذا الكتاب الّذي وسم جيلاً بأكمله أشرف جيروم غارسين Jérôme Garcin على كتاب جماعيّ بعنوان «الأسطوريّات الجديدة» شارك في تأليفه مجموعة من المؤلّفين من اختصاصات متباينة، ويبدو أنّ مشروع هذا الكتاب هو فضح الأساطير الجديدة على غرار بارت وفي خطّه دون التّقيّد بمنهجه أو بطريقته في معالجة أساطير اليوميّ. إنّ نظرة خاطفة في مواضيع هذا الكتاب، أو في هذه «الأسطوريّات الجديدة»، كفيلة بأن تؤكّد أنّها مواضيع مختلفة عمّا عالجه بارت في الخمسينيّات من أساطير أنتجها المجتمع الفرنسيّ. فالهاتف الجوّال وستار أكاديمي والبوتوكس والـ SMS (الرّسائل القصيرة السّريعة)، وسيارة 4×4 والواي فاي وغوغل Google والحجاب وكرة القدم وزيدان (لاعب فرنسا الدّولي)، وشخصيّات مثل عارضة الأزياء كايت موس، وخطاب موادّ التّجميل الشّهير الّذي ابتدعته شركة أوريال (لأنّني حقّا أساويه - Parce que je le vaut bien)، حيث تنتقل القيمة في هذا الشّعار من الموضوع إلى الشّخص... إنّما هي جميعا أساطير مختلفة جذريّا عن الأساطير الّتي عالجها بارت لأنّها لا تخصّ المجتمع الفرنسيّ وحده (أو مجتمعا بعينه)، فهي أساطير مترحّلة يستهلكها كلّ النّاس أينما انتقلت تلك البضائع. وإذا كان بارت في كتاب «أسطوريّات» قد بدأ يستكشف ملامح اختصاص جديد هو السّيميولوجيا معتبرا أنّ دراسة الأساطير فرع منه فإنّ أمبيرتو إيكو قد نحا في كتابه «حرب الزّيف» نحو بارت. وهذا الكتاب هو بدوره مجموعة من المقالات نشرت في الصّحف الإيطاليّة اليوميّة والأسبوعيّة على امتداد سنوات. وقد اعتنى فيه إيكو بالأشياء الّتي ما فتئت تؤثّث حياتنا اليوميّة وتعمّرها ككرة القدم والجينز الأزرق والتّلفزة والإرهاب وظواهر الموضة وما يفوق الواقع والمستجدّات التّكنولوجيّة والأهواء المتعدّدة. ولا يبتعد إيكو عن بارت في هاجسه السّيميولوجيّ، إلاّ أنّ ما كان يشغله في كلّ المقالات الّتي تؤلّف كتاب «حرب الزّيف» هو استراتيجيّات الإيهام. وهي إستراتيجيّات لا تعني عند إيكو التّقابل بين الصّحيح والزّائف كما يمكن أن يفهم من عنوان الكتاب. فليس «حرب الزّيف» مجرّد كتاب عن الخطاب الزّائف الّذي يخفي حقيقة الأشياء ويحجبها، إذ لا توجد في الكتاب تحليلات للخطابات الزّائفة محكومة بميتافيزيقا الحقيقة، بل لا يوجد شيء من هذا القبيل. فما يعرضه إيكو في مقالاته هو خطابات تخفي بدورها خطابات أخرى، أو هي خطابات تعتقد أنّها تقول (أ) لتوعز بـ (ب)، أو قل هي خطابات تعتقد أنّها تقول (أ) ولكن ينبغي أن تُؤوّل على أساس أنّها (ب)، أو هي خطابات تعتقد أنّها تقول شيئا مّا ولكنّها تخفي في واقع الأمر هشاشتها وعدم تماسكها ووَهَنَها inconsistance وتناقضها الخاصّ أو استحالتها. وبصفة عامّة يرى إيكو أنّ هذه المقالات إن كانت تفضح شيئا مّا لفائدة قرّائها فإنّ ما تفضحه لا يتعلّق باكتشاف الأشياء المتخفّية تحت الخطابات، وإنّما اكتشاف الخطابات المتخفّية بالأشياء والمتوارية خلفها. ابتداع اليوميّ يمكن أن نضيف إلى هؤلاء الكتّاب اسم المؤرخ الكبير المتعدّد الاختصاصات ميشال دو سرتو Michel de Certeau. فقد كتب بدوره في مجال اليوميّ كتاباً شائقاً عنوانه «ابتداع اليوميّ». وقد كان شاغله في هذا العمل أن يكشف كيف يقاوم الإنسان العاديّ العقل التّقنيّ الّذي كان يعتقد أنّه يعلم حقّ العلم كيف ينظّم الأشياء والنّاس بتخصيصه لكلّ واحد مكاناً ودوراً وموادّ للاستهلاك، غير أنّ هذا الإنسان الّذي يمكن أن نصفه بعنوان رواية روبار موزيل بأنّه «إنسان بلا مزايا»، كان يبتدع اليوميّ بفضل حسن صنيعه وفنون الفعل وحيله اللّطيفة وتكتيكه أو خطط المقاومة الّتي بواسطتها كان يداور الأشياء الجديدة وسننها ويستعيد من جديد تملّك الفضاء ليستخدمه كما يريد. فالسّواد الأعظم ليس مطيعاً كلّ الطّاعة ولا هو بالمسلوب الإرادة، وإنّما هو يمارس ضربا من الانزياح عندما يستخدم البضائع المفروضة عليه، بحرّية لامبالية بواسطتها يسعى كلّ فرد أن يتعايش على نحو أفضل مع النّظام الاجتماعي وعنف الأشياء. وإذا كانت معالجة الأساطير، ومحاربة الأوهام الّتي تحيط بالأشياء الّتي تعمّر حياتنا اليوميّة قد دشّنتها السّميولوجيا فإنّ الغالب على الأعمال الّتي اعتنت بأشياء الحياة اليوميّة أو بأحداث اليوميّ، مهما كانت زاوية النّظر المعتمدة، ظواهريّة أو سميولوجيّة، تحليليّة نفسيّة أو أنتروبولوجيّة، سوسيولوجيّة أو ميديولوجيّة... إنّما هو وعيها الحادّ بتعقّد المشهد اليوميّ. فقراءة اليوميّ وما ينجم فيه كلّ يوم من ظواهر وأشياء وأحداث وأساطير وتخييلات يحتاج إلى دراية عظيمة تكشف هذا المعقّد في المشهد اليوميّ من خلال استقراء العلامات والقرائن الدّالّة على التّحوّل. وهو في واقع الأمر تحوّل لم يجرِ في «مجتمع الاستهلاك» وإنّما في مفهوم الاستهلاك ذاته. فعندما تفتح المدينة أبوابها وحدودها لتمرّ البضائع بكلّ حرّيّة، وهي ميزة لا يتمتّع بها النّاس اليوم، فإنّ انفتاح فضائها لاستقبال السّلع والبضائع لم يحوّلها إلى «مدينة» لأنّ الاصطناعيّ l›artificiel قد غزا المدينة فقلبها إلى مزبلة تتراكم فيها النّفايات وتدفن، وإنّما قلبها إلى «لا مدينة» لأنّ الرّأسماليّة قد أصبحت اليوم «مترحّلة» nomade. فبنية الذّاتيّة الرّأسماليّة اليوم هي بالضّبط بنية الذّات المترحّلة sujet nomade، بلا هويّة ثابتة. وهي أينما حلّت «تعيد بناء مجالها»(دولوز)، وتعيد في الآن نفسه هيكلة الذّوات والأشواق Les désirs، وتجدّد في طرائق صناعة أساطيرها بابتداع اليوميّ في صور أخرى. فما ينبغي نقده اليوم في رأي «تشيتجاك» هو فكرة الاستهلاك ذاتها ونتساءل: أما زلنا نعيش اليوم في مجتمع الاستهلاك؟ يجيب هذا الفيلسوف: إذا كان منوال السّلعة اليوم هو على قياس «قهوة بلا كافيين»، أو جعة (بيرة) بلا كحول، أو قشدة بلا موادّ دسمة، فإنّ ذلك يعني أنّ خوفنا ما فتئ يتعاظم من الاستهلاك. نريد أن نستهلك لكن دون أن ندفع الثّمن. فإذا أردنا أن ننتقد المجتمع الحديث، فلا ينبغي أن نتمسّك كثيرا بفكرة الاستهلاك لأنّ الرّأسماليّة المترحّلة قد غيّرت جذريّاً من مكوّنات الاستهلاك ذاته، فهل تجسّم أساطير اليوميّ الجديدة هذا التّغيّر؟ الفكر لم يعد نبيلاً في رأي «تشيتجاك»، ينبغي أن نتحسّب من أسطوريّة «مجتمع الاستهلاك» الّتي لا غاية لها سوى المزيد من الاستلاب، استلابنا، والأسطوريّة الّتي تخاطب أشواقنا الحقيقيّة. ومهما يكن الأمر، فإنّ الفكر اليوم، في عهد الـ «نيوآيج» يدلّ باهتماماته الجديدة على أنّه قد غادر منذ زمان صرح المعرفة النّبيلة، ليعتني بالشّأن اليوميّ، وأشيائه الصّغيرة والكبيرة، وظواهره الجديدة أو المتجدّدة. استقراء قراءة اليوميّ وما ينجم فيه كلّ يوم من ظواهر وأشياء وأحداث وأساطير وتخييلات يحتاج إلى دراية عظيمة تكشف هذا المعقّد في المشهد اليوميّ من خلال استقراء العلامات والقرائن الدّالّة على التّحوّل. وهو في واقع الأمر تحوّل لم يجرِ في «مجتمع الاستهلاك»، وإنّما في مفهوم الاستهلاك ذاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©