السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتاب والآيباد.. أيهما خير جليس؟

الكتاب والآيباد.. أيهما خير جليس؟
3 مارس 2016 05:14
إميل أمين في مقدمة الأفعال البشرية التي ميزت الإنسان عن سائر المخلوقات يأتي فعل التفكير، والتفكير بدون نص يفكر المرء فيه شأن غير وارد أو ممكن، ولا نص من دون تدوين على لوح، ولا تدوين من غير طريقة ذهنية ما للتواصل، من هنا ابتكر الإنسان اللغة، تلك الكلمة اليونانية الأصل «اللوغوس»، بمعنى اللسانيات، والكلمة هي مفتاح القراءة، أصل الحضارة، ومنشأ التاريخ، وقد قيل لأرسطور ذات مرة: كيف تحكم على إنسان فأجاب أساله كم كتاباً يقرأ؟ وماذا يقرأ؟ أما فوليتر رجل التنوير الفرنسي فعندما سئل عمن سيقود الجنس البشري؟ فأجاب: الذين يعرفون كيف يقرؤون. منذ عهد أوراق البردي والألواح الجلدية ولا حقاً المعدنية، ظل الكتاب على اختلاف المادة المصنوعة منه، عصارة الفكر ونتاج العلم، خلاصة الفهم ودوحة التجارب وهو عطية القرائح وثمرة العبقريات، وقد قال أحد الفلاسفة: «الكتب سعادة الحضارة بدونها يصمت التاريخ، ويخرس الأدب، ويتوقف العلم، ويتجمد الفكر، ويعجز التأمل». عن أي قراءة نتحدث؟ يبدو أن إفرازات العولمة تقودنا عبر مسار جديد للقراءة ربما مغاير لفعل القراءة الأولى عبر الكتب الورقية، حيث يبذل القارئ جهداً إلى جهد، ويراكم كداً إلى كد، للحصول على معرفته، فالقراء الجادون دائماً كادون، وكلما دنوا من غايتهم بعدت عنهم تلك الغايات، ليبدؤوا من جديد، مرحلة شاقة من البحث عبر رفوف المكتبات، وهى على ذلك شيقة لما فيها من غوص في عوالم من درر التراث، بين أحاجي الكون، ومآسي الإنسان. هل هذا التغيير في حد ذاته علامة خوف وقلق على مستقبل القراء حول العالم أم أن الهدف واحد وإن تعددت المسارات وتنوعت السبل؟ قطعاً كان لابد للتطور التكنولوجي المثير والسريع في عالم الكمبيوتر والإنترنت أن يدفع صناعة النشر إلى دائرة «الكلمة المرئية»، تلك التي تبرق وتلمع عبر الشاشة بأقل مجهود، فقط لا يحتاج الأمر أكثر من كبسة زر، على أطراف الفأرة «الماوس»، وكأن العالم قد استحضر روح الأساطير، فتأتي لك المعلومات والبيانات في لمح البصر. لمَنْ الغلبة؟ ولعل الحقيقة المؤكدة اليوم هي أن النشر الإلكتروني بات من أهم وسائل الأعمال في ترويج الكتب والكتابات، ولهذا يسارع المؤلفون ودور النشر، لتقدم ما لديهم عبر الوجهين، الإلكتروني والورقي على حد سواء، وعلامة الاستفهام هنا... لمن له النصرة والغلبة، أو المقدرة على إزاحة الآخر عن طريقة والانفراد بعالم القراءة والقراء مرة وإلى الأبد؟ يبدو أن هناك من يرى أن الكتاب الإلكتروني سوف يهيمن على سوق الفكر في القريب العاجل، وهذا يعني اختفاء الكتاب الورقي، فيما يذهب نفر آخر إلى القول بأن هذا ادعاء يجانبه الصواب، بينما طرف ثالث يمثله بروفيسور الإعلام الأميركي الشهير «فيليب مايرز» والذي يخبرنا عن أن آخر المطبوعات الورقية ستصدر في عام 2043، أي بعد ثلاثة عقود زمنية تقريباً، وهذا يفيد بأن هناك فترة زمنية قبل أن ينقرض الكتاب الورقي. بماذا يدافع وينافح أصحاب الكتاب الإلكتروني والقراءة السريعة عبر الشاشات فيما يتصل بمستقبل هذا النوع من القراءة في مواجهة خصومهم من أصحاب الأوراق من زمن «جوتنبرغ» حتى الساعة؟ البداية تتصل ولا شك بعامل السرعة في تطورات الحياة والأحداث، والسفر والتنقل، بين الدول وفي داخل الدول الواحدة، فأنت لا تستطيع أن تحمل معك مكتبتك الورقية إلى حيث تشاء متى تشاء، لكن عبر تطبيق إلكتروني مثل «كيندل» أو موقع «أمازون»، تقدر أن تقرأ وأنت مسافر في البر، أو طائر في الجو، وحتى لو كنت مبحراً في المياه العميقة، ولست في حاجة إلى أكثر من جهاز صغير وخفيف يأتيك من «سبأ بنبأ يقين». عالم الأحلام التي لا وقت لديها للاستلقاء على الآرائك وتقليب صفحات الكتب، أو التنقيب في المكتبات، لتوثيق معلومة أو الاستزادة من صحة فكرة أو نقضها. يدعم «الكتاب الإلكتروني» كذلك التخفيضات الكبرى التى تتواصل مع تطور الأجهزة الإلكترونية، ونقصد تخفيضات الأسعار، فعلى سبيل المثال تضاعف معدل نمو مبيعات «كيندل» 300% بعد خفض سعر الجهاز من 259 دولاراً إلى 189 دولاراً خلال عام 2011، بحسب بيان من مكتبة «أمازون دوت كوم»، وقد سبق ذلك تخفيض من منافستها مكتبة «بارنز آند نوبل»، والتي خفضت سعر جهازها للقراءة الإلكترونية المسمى نوك من 259 دولاراً إلى 199 دولاراً، وفي الوقت ذاته كانت شركة «أبل» تصدر بياناً سريعاً يفيد بانها خلال تلك الفترة نفسها، قد باعت ثلاثة ملايين جهاز آيباد خلال شهر من دون أن تحدد التاريخ. ما حاجة القارئ إذن إلى دفع ما بين مئة ومئة وخمسين وأحياناً مئتي دولار لشراء كتاب حديث، مثل كتاب «هنري كيسنجر عن العولمة» أو «المستقبل الأقصى» لعالم المستقبليات الأميركي «جيمس كانتون»، إن كان في مقدوره قراءته وغيره بما لا يتجاوز ببضع دولارات قد لا تتجاوز الثلاثين دولاراً اشتراكاً شهرياً؟ لم يتوقف الأمر عند حدود الكتاب، فقد انسحبت التبعات كذلك على الصحف والمجلات الورقية، وقد كانت البداية عام 1993 عندما أطلقت صحيفة «سان جوزية ميركوري» الأميركية نسختها الإلكترونية، تلاها تدشين كل من صحيفتي «ديلي تليغراف» و«التايمز» البريطانيتين لنسختها الإلكترونية عام 1994. تطور الأمر لاحقاً، ليشمل إلغاء الأعداد الورقية تماما لصحف ومجلات عريقة، ففي العام 2008 ألغت صحيفة كرستيان سانيس مونيتور نسختها الورقية، واكتفت بنسخة رقمية على موقعها على شبكة الإنترنت، وقد تبعتها في ذلك واحدة من أعرق المجلات الأميركية «النيوزويك»، كما توقفت مجلة «يوأس نيوز ريبورت» بدورها، وهي الثالة الأوسع انتشاراً في أميركا في العام 2010، إضافة إلى المئات من الصحف المحلية الأميركية، التي اختفت عن الوجود نهائياً. هل قضي الأمر إذن وتوارت الكلمة المكتوبة عبر الكتاب الورقي، والصحيفة اليومية المطبوعة، والمجلة الأسبوعية أو الشهرية، التي كانت تتخاطفها الأيادي من عند بائعة الصحف على النواصي والزوايا؟ المطبوع لن ينقرض تضيق المساحة المتاحة للكتابة عن الإفصاح والإسهاب في دفع هذا الاتهام، فعلى الرغم من قوة وفاعلية الصحافة الإلكترونية، والكتاب المقروء، إلا أن مرحلة انقراض «الكلمة المطبوعة» تبدو بعيدة عن الحدوث في المستقبل المنظور... ما السبب في ذلك؟ أحد أفضل الكتاب المعروفين جيداً حول العالم نيكولاس كارن «الأميركي الجنسية» وأستاذ الأدب الإنجليزي يتهم وسائل القراءة الحديثة وفي مقدمتها الإنترنت بأنها حولت الناس إلى «أغبياء وسطحيين»، وهذا ما يورده بالتفصيل في كتابه «المتسطحات: تأثير الإنترنت على عقولنا»، ومرد ذلك عنده أن الوسائل الاجتماعية الحديثة، عند الاعتماد عليها في تحصيل المعرفة، تفقدنا الربط بين ما نتلقاه وما يرسخ في الذاكرة من معرفة... هل يعني ذلك أنه في الغرب نفسه من يؤمن بأن الكتاب الإلكتروني لن يهيمن على سوق الكتاب الورقية؟ فى العام 2010 تحدث «نيكولاس نيجروبونتي» مؤسس معمل الوسائط الحديثة للاتصال بمعهد ما ساتشوستس للتقنية، أحد أهم المراكز البحثية العلمية الأميركية بالقول إنه: خلال خمس سنوات أي في العام 2015، سوف تختفي الكتب المطبوعة، وستكون الكتب الإلكترونية هي السائدة..... هل تحققت تلك النبوءة؟ في مجتمع الرأسمالية الأميركي الذي لحقت نيرانه بالحياة الأدبية والفكرية، يبدو أن هناك من يسعى إلى تحقيق ما يعرف بالـ SELF PROPHCEY، أي التنبؤات التي تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها، إذ لا يغيب عن ناظري الكثيرين، ما لتلك المعاهد من علاقات بالشركات التجارية الكبرى، التي تقدم لها التبرعات، من أجل بلورة رؤى إعلامية تفيد تلك المؤسسات الاقتصادية الكبرى في تحقيق مكاسب هائلة لاحقاً... هل من دليل؟ لقد تجاوز العالم 2015، ولا يزال أمام الكتاب المقروء ورقياً، عقود طوال حتى يمكن بالفعل إعلان انقراضه... هل الأمر يتعلق إذن بالمسألة العمرية عند الأجيال الحالية أو المستقبلية؟ يذهب عدد من المحللين من النقاد الثقات إلى أن القول بأن الأجيال المتقدمة عمرياً هي من يصر على الطبعات الورقية دون الإلكترونية، وأن الأجيال الجديدة مغرمة حتى الإغراق في النظر إلى الشاشات قياماً وقعوداً... غير أن هذا حديث غير صحيح في غالبه، وعلى الناظر أن يسترجع صور صفوف الشباب أمام المكتبات غداة صدور الأجزاء المتتالية من رواية «هارى بوتر» لمؤلفتها الإنجليزية «جى. كي. رولينغ». وعليه فلا يعد عمر القارئ هو السبب الوحيد في التفضيلات، فمتوسط عمر من يقبلون على شراء الكتب المطبوعة هو اثنان وأربعون، بينما متوسط عمر من يشترون الكتب الإلكترونية هو واحد وأربعون عاماً، ولا يزال الأطفال يحبون القراءة من الكتب المطبوعة، وتبين استطلاعات الرأي أن الطلاب يفضلون الكتب الدراسية المطبوعة على الإصدارات الإلكترونية بفارق كبير، وهذا يعني أننا لسنا بصدد تحول كبير على مستوى الأجيال المختلفة. هل من أضرار اجتماعية وصحية تتسبب فيها «الكلمة الإلكترونية» ولا تحدثها «الكلمة الورقية المكتوبة»؟ في بدايات الصيف الماضي، 2015، نشرت شركة «ما يكرو سوفت» تقريراً يشير إلى أن الاستخدام الكثيف فى القراءة عبر شاشات الهواتف الذكية على سبيل المثال/‏ أدى إلى تراجع معدل قدرة تركيز الأشخاص من 12 ثانية في العالم 2000 إلى 8 ثوانٍ حالياً، عطفاً على ذلك فقد أشارت البيانات الواردة في التقرير عينه إلى أن قدرة تركيز الأشخاص لمدة محددة، أصبحت قليلة جداً حتى مقارنة بسمكة مائية، تلك التي لا يمكنها أن تحتفظ وتركز على فكرة واحدة لمدة طويلة، وخلاصة التقرير أن الأطفال الذين ينشؤون على التكنولوجيا الرقمية أكثر عرضة للأمراض المتعلقة بضعف التركيز من الأجيال السابقة. ماذا عن الأمراض الاجتماعية؟ يعن لنا أن نطرح بعداً جديداً في هذه المقاربة، يتصل بالمقدرة على الحفظ، أي حفظ الكلمة ذاتها عبر الأجيال، حفظها من الضياع، أو الاضمحلال، فقد وصلتنا كتب الأولين عبر وسائط عدة، لم تكن مرتبطة بأشكال الطاقة الحديثة، فالكتاب الورقي المقروء، يمكن الاطلاع عليه في ضوء الشمس، وفى خلفية «السراج» المتواضع... لكن ماذا لو أصيبت اسطوانات تخزين الكلمة المقروءة بعطب يتصل بالطاقة وعدم المقدرة على تشغيل الأجهزة الإلكترونية الحديثة..... أي القراءتين أبقى وأطول عمراً؟ هنا تكسب الكلمة المطبوعة ورقياً، فهي بناء صلب وسيظل لها عشاقها والمخلصون الطائعون في محرابها، وفي الوقت نفسه سنرى حتماً تقدماً سريعاً في «المد الرقمي»، تقدم يتنامى يوماً تلو الآخر، ولعل العاصم الوحيد للكلمة الورقية، من الزوال، هو أن تراعى فيما تقدم ما يتجاوز المسألة الخبرية، تلك التي تنتهى بمجرد أن تطرح على الشاشات في ثوانٍ معدودات، غير أنها حال تقديم التحليل المعمق، والرؤية الرصينة، والجدل العقلاني، يمكن لها أن تحتفظ بقطاع واسع من قرائها ومتابعيها من كل الأعمار. لم يعد إذن خير جليس في الدنيا «الكتاب» بمفرده، فقد يشاركه الآيباد في الأمر، ومع ذلك تبقى القراءة في كل الأحوال الفعل الخلاق الذي يخصب ذهن البشرية ويشق أمامها جديد الآفاق. تعايش المؤكد أن الوسائط الأكثر حداثة، لا تقوم بإزاحة سابقاتها مرة واحدة، فالكتاب المسموع على سبيل المثال، لم يقض على الكتاب المقروء، والمواقع الإخبارية للصحف والمجلات، لم تمنع فريقاً كبيراً من القراء، من متعة شراء الصحيفة الورقية صباح كل يوم، وتثبت التجربة حتى الآن أن الكلمة المقروءة عبر الأوراق، ومن خلال الوميض الكهربائي، يمكنهما أن يتعايشا، لا سيما وأن لكل منهما قارئه الخاص به، ومصدره في استقاء الأخبار. أثر الكتاب يقول «الجاحظ» إن الكتاب يقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، ويوجد مع كل زمان، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره، هذا في واقع الأمر لا يحدث مع الكتب الإلكترونية، والتي تعتبرها الرأسمالية العالمية مجالاً لترويج صور أخرى، للسلع الاستهلاكية، وللخدمات الترفيهية، ولضمان انتشار منظومات فكرية وسياسية وعولمية، قد تذهب بالقارئ بعيداً جداً عن ما تحدث به الجاحظ، فهيمنة الصورة قد جاءت في الأساس كنتاج ثقافة رأسمالية واستهلاكية فيها من الضرر بقدر ما فيها من الفائدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©