الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رحلت نزيهة سليم·· فمن التالي؟

رحلت نزيهة سليم·· فمن التالي؟
23 فبراير 2008 00:26
في حي الوزيرية وسط بغداد، وفي أحد الشوارع المحاذية لكلية الفنون الجميلة، هناك بيت عتيق عاشت فيه أهم شخصية فنية عراقية، ذلك هو النحّات والرَّسام الراحل جواد سليم، صاحب (نصب الحرية)، وهو البيت ذاته الذي عاشت فيه أيضاً شقيقته الفنانة العراقية الرائدة نزيهة سليم· وأنتَ تمر من ذلك البيت ستشعر بالمهابة، لكنك تشعر أيضاً بالحزن والأسى؛ فالهدوء المنكسر يلقي بظلاله على البيت، والعتاقة المهيمنة على كل شرفاته وحوائطه وأبوابه ونوافذه وحديقته، توحي لكَ أن روحاً مبدعة لكنها متعبة تنبض هنا، تتأمل الماضي قصد استعادة لحظاته النبيلة، وجسداً عفرته سنوات العمر الطويلة يمكث هنا· هذا البيت وقد رحل كل أهله، وما بقي منهم سوى الفنانة نزيهة سليم، شقيقة جواد سليم، يودِّع اليوم كل قاطنيه المخضرمين برحيل نزيهة عن دار الدنيا إلى دار الخلود· في يوم الجمعة قبل الماضي، وكعادته، كان الهدوء ضارباً بخيامه على شوارع حي الوزيرية ببغداد، لكن عصف الموت حلَّ على منزل سليم، فقطف روح آخر مبدعات هذا البيت؛ خطف روح نزيهة سليم لتستريح من عناء مرض غير رحيم رافقها لسنوات عجاف حتى تمكَّن منها تمكُّن موجة بحر هائجة من زهرة برية طرية العود· في اسطنبول، ولدت نزيهة لأبوين عراقيين عام ،1927 وببغداد رحلت في فبراير/ شباط 2008 والعراق يرزح تحت صخب الموت المجاني ليضيع هذا البلد في متاهات داكنة ومآس طاحنة ودروب شائكة· ربما كانت نزيهة لاتشتري قمع صدّام حسين لرواد الفن العراقيين بعفطة عنزة، لكن حصار التسعينيات الدولي، وهو من مقدمات الاحتلال، كان أمضى وجعاً في روحها قبل جسدها، لتأتي صفحة الاحتلال الأميركي الجديد حيث لا ماء نقيا للشرب، ولا كهرباء يضيء مصابيح شوارع حي الوزيرية الوارفة بالذكريات الدافئة، بل لا طريق للوحة تحملها يد فنان ما كي يراها الناس، ولا حديث؛ لا عن جواد ولا نزيهة، وبالتالي لا حديث عن الفن في ظل أحاديث الخراب والموت اليومي المعجون بآلام العراقيين المباحة في كل لحظة· في عام مضى، فقدَ العراقيون نجوم الإبداع والأدب والفن والفكر، وفي هذا العام تبدو المجرة تدور ولا هوادة تُذكر· قبل أيام فقد العراقيون الروائي والقاص فؤاد التكرلي (1927 ـ 2008)، وها نحن بعد موت رائد الخيال القصصي الخلاق، نودِّع نزيهة سليم، صاحبة الريشة الخفيفة، والمفارقة أن كلاهما مات في غربة صاخبة؛ فقد مات فؤاد في عمَّان غريباً وإن قال محبوه إنه كان يعيش بين أهله الأُردنيين، وماتت نزيهة في بغداد وحيدة الدار غريبة الأثر؛ فبغداد لم تعد سوى مدينة عارية من كل شيء سوى أرواح بشرية متعبة، تحوم حولها غربان الموت الجائعة، وينتظرها حفارو القبور، ونعاة الأموات· في ثمانينيات القرن الماضي خافت نزيهة من قنابل حرب الخليج الأولى، وبكت حدَّ اللطم على أموات تلك الحرب القذرة، وفي التسعينيات جاعت نزيهة، وبكت على أطفال بلدها المشلولين والمعاقين والأيتام والمُشرَّدين في شوارع التسوُّل الرخيص، وفي مطلع القرن العشرين، وتحديداً بعد نيسان ،2003 ما عادت نزيهة تميز النهار عن الليل، ولا الهدوء عن الصخب، فالحياة كلها، كل الحياة العراقية، أصبحت وجوداً أصم، وإذا نطقَ منه شيء، فذلك نُطق الألم، ونطق شهقة الموت، وترتيلة العدم· رحلت نزيهة سليم·· فمن التالي؟·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©