الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مأساة بنات السائق

مأساة بنات السائق
7 سبتمبر 2012
نورا محمد (القاهرة) - لم يكن يوما كسولا ولا فاشلا ولا متقاعسا إنما كان ومازال شعلة نشاط مثل النحلة لا يكل ولا يمل يعمل ليل نهار تفوق في دراسته منذ السنوات الأولى يحقق المراكز المتقدمة ويحصل على الدرجات العالية وربما النهائية مع انه مشغول بقية يومه مع أبيه يساعده في أعماله لأنهم سبعة من الأخوة والأخوات وأم لا تعرف الراحة في يومها من الفجر إلى العشاء تمارس أي عمل لتساعد زوجها في تربية وتدبير احتياجات الصغار الكثيرين، ولأنه الابن الأكبر فقد تحمل من المسؤولية مثل ما يتحمله أبوه رغم انه لم يطلب منه ذلك لكنه كان يرى انه من الواجب عليه أن يقوم بدوره في تلك الظروف العصيبة أملا في أن يأتي يوم وتتحسن أحوالهم. في وسط هذه الأجواء والانشغالات حصل على الثانوية العامة بمجموع يؤهله للالتحاق بكلية الهندسة لكنه تردد كثيرا في استكمال دراسته بها لأنها تحتاج إلى مصروفات ومبالغ طائلة لا قبل له ولا لأبيه بها، علاوة على أن الأسرة ستفقد جهوده في مساندتها ومساعدتها ببعض الأموال التي يتحصل عليها من الأعمال الحرفية والمهن المتعددة التي يلقي نفسه بين أصحابها إلى أن يجيدها كأنه واحد من أمهر رجالها، ألح عليه أبوه في أن يلتحق بالهندسة خاصة وأنها أمنية حياته لكنه رفض وقرر أن يلتحق بإحدى الكليات النظرية التي لا تحتاج لا إلى مصروفات ولا إلى مجهود كبير. وما أن وصله خطاب قبوله بالكلية التي التحق بها مضطرا حتى توفي أبوه فجأة بعد أن تعرض لأزمة صحية وخلال يومين انقلبت حياة الابن رأسا على عقب؛ إذ أصبحت الأسرة بلا عائل والصغار في مراحل التعليم والأم لاحول لها ولا قوة الجميع في مفترق طرق هي أقرب إلى الضياع على حافة هاوية نحو المجهول، ولم يكن للدموع الغزيرة التي سالت من كل العيون أي دور في حل المشكلة المستعصية لم يكن مثلهم في البكاء بل أقلهم لأن الهموم منعت دموعه والاستغراق في التفكير، وإن كان غيرهم لم يتردد في إعلان الحل بعد أن اتخذ قراره لم ينتظر كثيرا وصرح به وأعلنه فور انتهاء فترة الحداد، وتلقي العزاء في الحقيقة لم يكن حلا مرضيا لأي منهم ولكنه مثل الهبوط الاضطراري أو قيام الطبيب باستئصال عضو لينقذ باقي الجسد وتستمر الحياة، قرر أن يتوقف عن الدراسة ويتفرغ تماما لتحمل المسؤولية كاملة ويحل محل أبيه الذي رحل ،قابلوا قراره بمزيد من الدموع والإشفاق عليه وهم مغلوبون على أمرهم ليس أمامهم أي اختيار، وهذا الوحيد المتاح شديد القسوة والمرارة على النفوس. جفف دموعهم وربت على أكتافهم ووقف رابط الجأش قويا مثل الأسد وانطلق يبحث عن عمل هنا وهناك فلم يجد إلا مهنة سائق سيارة نقل صغيرة ينقل بها البضائع والركاب، لا فرق ويعمل في كل وقت ليل نهار ويذهب مع كل من يطلبه وفي نهاية كل يوم يقدم لأمه كل ما رزقه الله به ولا يتركها تتحمل مطالب إخوته وإنما يساعدها في تدبير أمورهم، ويستمع لشكاواهم ويحل مشاكلهم ويستجيب لكل ما يريدون ولا يتأفف من كثرة المطالب ولا يعبس من تكرارها، يوجه كل اهتمامه إليهم ولا يهتم بنفسه ولا بمظهره ليس إهمالا وإنما يؤثرهم ويقدم مصلحتهم أولا على مصلحته وهم يدركون ذلك ويرون انه لا يملك سوى قميص وبنطال للصيف ومثلهما للشتاء لا يضيف عليهما إلا شيئا ثقيلا ليحتمي من البرودة الشديدة ويلحون عليه أن يمنح نفسه بعض الاهتمام فيؤكد لهم أن سعادته أن يراهم سعداء. كان مثالا للتضحية والفداء وسببا في ترابط الأسرة التي التف أفرادها حول بعضهم وتماسكوا تسير بهم الأيام بصعوبة بالغة السنون كلها عندهم عجاف لكنها تمضي وهم يتقدمون في مراحل التعليم المختلفة. وفي وسط الرحلة المضنية انتقلت الأم إلى الرفيق الأعلى وأصبح يتحمل المسؤولية كلها وحده ولا احد يعرف كم يعاني لأنه لم يكن يوما يشكو أو يتأفف أو يبوح بما يعاني، ولا حتى يرد لأي واحد من إخوته طلبا ولو كان فوق طاقته يبدو دائما سعيدا راضيا يحدوه الأمل المشرق وإن لم يبد في الأفق البعيد أو القريب أي ضوء لكن الابتسامة التي كانت تكسو محياه تكفي لبث روح التفاؤل. أثمرت رحلة كفاحه عن نجاح كبير تخرج كل الإخوة والأخوات في الجامعات وتزوجت الفتيات منهن وقام بدوره في تأثيث مساكنهن، وحصل الإخوة الأولاد على وظائف جيده واستقل كل واحد من أفراد الأسرة بحياته، حينها أصبح وحيدا وقد اقترب من الأربعين من عمره ومازال يعمل سائقا منذ أن بدأ العمل في هذه المهنة لم يشكو منها وتأقلم معها ولم يفكر في تغييرها لأنه أصبح خبيرا بها لكنه يفتقد إخوته، والمشكلة الآن هي الوحدة التي يعانيها أكثر من معاناته من مسؤوليات إخوته للمرة الأولى تظهر على وجهه علامات الاكتئاب فاضطر مجلس العائلة لاجتماع عاجل لبحث هذه المشكلة وانتهى بقرارات حاسمة وسريعة أن يزوجوه ولو بالقوة فانتزعوا من بين شفتيه ابتسامة رقيقة، ووافق على قرارهم لكنه طلب مهلة للاختيار. كان حريصا على أن يظل بيته مفتوحا لأخوته وأخواته لذلك كان يبحث عن عروس مناسبة تستطيع أن تتأقلم وتتقبل هذا الوضع عن طيب خاطر من دون أن يطلب منها وهو في هذه السن لم يكن هناك الكثير من الفتيات يمكن أن يقبلن به وهو لا يبحث عن مغامرة عاطفية إنما عن الاستقرار وراحة البال. وجاء اختياره على غير ما توقعوا وقعت عينه على أرملة شابة في الخامسة والثلاثين ودق لها قلبه ووجد فيها ضالته وفاتح إخوته باختياره فوافقوا، وقدم كل منهم ما استطاع من مساعدة له معظمها في صور هدايا وإسهامات في الأثاث والمفروشات، وفي عرس كان أكثر ما يميزه هو البساطة وقلة المعازيم تم الزفاف كان مغمورا بالسعادة الجميع يشعر أن هذا هو يوم الإنجاز الأكبر. ..هذا الرجل هو أبي وأنا إحدى بناته الثلاث اللاتي واصل معهن ومع أمي رحلة الكفاح من جديد وكما فعل في مقتبل عمره وضحى من أجل أخوته وامه لم تكن تضحياته معنا أقل بل تزيد لأنه لم يعد في عنفوان شبابه وقوته كما كان في الماضي، فروحه شابة دائما لا تشيخ ولا يصيبها الوهن يجلس بيننا يتذكر كل هذه الأحداث قد لا يستطيع أحيانا أن يقاوم دمعة تسيل رغم انفه على خده وهو يتذكر الصعوبات التي واجهها في خضم بحر الحياة الهائج المتلاطم الأمواج، وهو لا يملك مركبا ولا يرى الشاطئ لا يكاد يصدق انه وصل إلى بر الأمان، وتكتمل سعادتنا ونحن نستقبل احد أعمامي أو عماتي وأبنائهم أو ونحن نزورهم في بيوتهم بمناسبة وبغير مناسبة ولا غضاضة أبدا عندنا في انهم يعيشون حياة أفضل منا من الناحية المالية، وإن كانوا لا يبخلون علينا ولا على بعضهم بما يستطيعون فمازالت أواصر المحبة قوية وباقية. كان أبي ماهرا وخبيرا في طريقة تشجيعه وبث الحماس في نفوسنا نحن بناته الثلاث يؤكد لنا أن أمنيته الأخيرة هي أن يرانا نحن الثلاث في كلية الهندسة ونتخرج جميعا مهندسات لتتحقق أمنيته ثلاث مرات بدلا من مرة واحدة لم يستطع أن يحققها لنفسه، يحوطنا بحبه وحنانه وكل جهده ومن ورائه أمنا التي أحسن اختيارها وكانت نعم الزوجة والأم وهو نفسه يثني عليها ويقول إنه يرى فيها كفاح أمه، وتكللت جهود أبي وقرت عينه بما كان يتمنى وبالفعل كنا عند حسن ظنه والتحقنا بكلية الهندسة وتخرجنا واحدة تلو الأخرى ثلاث مهندسات شقيقات مثل الورود المتفتحة جميلات يزينهن الخلق والالتزام والاحتشام لا ينقصنا إلا الستر في بيوت أزواج نرجو أن يكونوا في مثل صفات أبينا أو بعض منها لأنني اعتقد انه لا يوجد مثل أبي في الدنيا أنني أبالغ في ذلك أو أتحيز له لأنه أبي أو ربما أكون ذلك لكن الحقيقة تؤكد أنه يستحق أكثر من ذلك. بما أنني كبرى أخواتي كنت أولهن حظا في تجربة الخطوبة عندما أبدى أحد زملائي في العمل إعجابه بي، ولم يجرؤ على مفاتحتي لأنني لا أقبل الكلام مع أحد وتوسطت إحدى الزميلات بيننا وياله من شاعر يحمل مشاعر مغرم متيم كدت أن أذوب فيه من أول لقاء، لكن الصدمة الكبرى كانت في انتظاري عندما بدأت جادة أحدثه عن نفسي وظروفي التي أفخر بها ولم اكن أتوقع أبدا أن يعتبرها نقيصة في حقي، فما إن علم أن أبي يعمل سائقا حتى انتفض مثل العصفور المبلل الذي يريد أن يتخلص من الماء، ولم يستطع أن يخفي دهشته واستغرابه بل رفضه كيف يرتبط بابنة سائق وهو مهندس كبير كما يرى نفسه. كانت الصدمة أقوى منى وفوق احتمالي لأنني لم اكن أتوقع أبدا أن يحول الناس القيم الجميلة والكفاح والإيثار والجهاد في الحياة إلى عيوب، وليته كان وحده الذي عنده هذه المفاهيم بل اكتشفت أن كل من حولنا على نفس الشاكلة والاعتقاد فلم يكن احد بعده تقدم لي، إلا وكان بيني وبينه مسافات طويلة من التعليم والمستوى الفكري ونفس المواقف تكررت مع اختيّ الاثنتين عدة مرات كثيرات من البنات من زميلاتنا وجيراننا حتى من أقاربنا وخاصة بنات عمومتي تزوجن بسرعة، رغم أنهن أقل منا جمالا وتعليما في قرارة نفسي لست حزينة على عدم الزواج، ولكن الحزن الأكبر على أبي الذي لم يلق التقدير المناسب من المجتمع الجاحد الذي لا ينتظر منه شيئا. للمرة الأولى يشيب رأس أبي بشكل واضح وهو يرى الناس يتعاملون معه بهذا المنطق قد أصابنا الوهن ونحن لا نستطيع أن نقوم بثورة تصحيح للمفاهيم العقيمة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©