الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المجرم.. الضحية

المجرم.. الضحية
7 سبتمبر 2012
أحمد محمد (القاهرة) - منذ أكثر من عشرين سنة أو يزيد، وأنا أتلقى رسائل على بريدي الإلكتروني من أشخاص مجهولين يعرضون علي تحويل مبالغ مالية ضخمة كلها بالملايين، وكل ما سأفعله، إما أن أحول لهم مبلغاً مالياً بسيطاً أو أعطيهم رقم حسابي بالبنك للتحويل واتخاذ الإجراءات. في المرة الأولى بالطبع اندهشت بشدة عندما تلقيت الرسالة التي يقول صاحبها في مقدمتها «عزيزي.. لا تندهش من ظنك لا تعرفني ولا أعرفك، ولكنني جمعت بعض المعلومات وتأكدت من أمانتك وصدقك وعرفت بريدك الإلكتروني، ثم قررت أن أكتب إليك، أنني أريد أن أحول إليك مبلغ خمسة وثلاثين مليون دولار أميركي، هي كل ما أملك في الحياة، وأود أن تساعدني في إخراجها بأن تعطيني رقم حسابك وتقوم بتحويل مائة وخمسين ألف دولار مصروفات إدارية ورشى لبعض الأشخاص الذين سيقومون بعمليات تسهيل التحويل، وبعد أن تتسلم المبلغ ويدخل في حسابك أثق أنك ستعطيني حقي فيه وأننا سنقتسمه معاً.. تحياتي وهذا بريدي الإلكتروني للتواصل». لا أنكر أن رأسي قد فقد التركيز وتوقف عقلي للحظات عن التفكير وأنا أسمع هذه الأرقام الفلكية، وسرحت بخيالي في هذه الثروة التي هبطت عليّ من السماء فجأة وحققت أحلامي ويزيد، حتى أنني احترت بين المشروعات التي يمكن أن أقيمها والنقلة الكبرى في حياتي، لكنني أفقت على الحقائق المرة، فأولاً ليس عندي حساب في البنك، وثانياً ليس لدي بطاقة ائتمان، وثالثاً وهذا هو الأهم أنني لو أملك من المبلغ المطلوب للمصروفات لأقدمت على تلك الخطوة واستجبت لمطالبه، لكن أصبح من المستحيل أن أتدخل لإنجاز تلك الصفقة التي تعد فرصة من المؤكد أنها لن تعود مرة أخرى. ولكن في لحظة تعقل وعودة إلى التفكير السليم، تساءلت بيني ونفسي، أليس هذا الرجل صاحب الملايين والرسالة غبياً؟ لماذا لا يأخذ من أصل المبلغ ويدفع الرشى التي قال عنها صراحة ويسدد المصروفات المطلوبة، ويحوله لنفسه دون أن يتدخل أحد لاقتسام المبلغ معه، ووجدت تساؤلي مشروعاً ومنطقياً وأيقنت أن في الأمر شيء. بعدها لا يكاد يمضي يوم، إلا وتسلمت ربما عشرات الرسائل من هذه النوعية من أشخاص مختلفين، لكن بالأسلوب نفسه تقريباً، مع اختلاف في الصياغة وقيمة المبلغ، والتأكيد أن يكون ذلك سراً بيني ومرسل الرسالة لأن في ذلك خطراً على حياته وتهديداً بعدم إنجاز الصفقة، ثم سمعت من آخرين عن تلقيهم رسائل مماثلة، فتأكدت أن الأمر لا يعدو أن يكون مزحة ثقيلة في عالم خيالي افتراضي لا تعرف مع من تتعامل فيه ولا تستطيع أن ترد عليه أو تكيد له مثلما فعل، ونسيت الأمر وأصبحت أتجاهل تلك الرسائل، إلى أن قرأت في الصحف ذات صباح القبض على عصابة أفريقية تقوم بالنصب بهذه الوسيلة على المغفلين والطماعين، وتستولي على أموالهم من خلال معرفة حساباتهم وأرقام بطاقات الائتمان أو عن طريق تلقي المبالغ التي يطلبونها بحجة إتمام التحويل، ثم توالت التحذيرات من هذه العصابات، لكن لا تمر أشهر عدة، حتى يتم الإعلان عن سقوط واحدة من هذه العصابات أو تلقي بلاغات من ضحايا وقعوا في شباك هؤلاء المصابين المجهولين. لا يخلو الأمر بين حين وآخر من قيامي بمطالعة تلك الرسائل من باب الفضول لا أكثر وأضحك كثيراً، وأنا اقرأها من سذاجة أصحابها الذين يكررون أساليبهم المكشوفة والتي لم تعد خافية على أحد وإن كانوا يحققون نجاحات مستمرة حتى لو كانت الآن محدودة، وكان من بين تلك الرسائل واحدة يقول صاحبها إنه يعمل في بنك بإحدى الدول الأوروبية وهناك حساب باسم شخص عربي الجنسية ربما يكون عراقياً وقد مات أثناء الحرب وليس له ورثة، ولا يعرف أحد بحسابه لدى البنك، علاوة على أن المبلغ تضخم من الفوائد التي تضاف إليه كل عام منذ أكثر من عشرين سنة، والمهم كما قال إنه تم التأكد من أن صاحب الحساب ليس له أي أقارب فلم يسأل أحد عن هذه الأموال طوال هذه السنين، ولم تجر عليه أي عمليات لا سحب ولا إيداع ولا استعلام ولا تحويل، وطلب مني مرسل الرسالة أيضاً رقم حسابي ليقوم بتحويل نصف المبلغ لي وسيكون النصف الآخر له، وأكد أنه لا يستطيع أن يستولي على المبلغ مباشرة ولا أن يقوم بسحبه أو تحويله في الداخل، لأن هذا سيعرض العملية للاكتشاف خلال المراجعة والتدقيق، لذا يجب أن يتم تحويل المبلغ خارج البلاد وإلى اسم شخص عربي حتى لا تحوم الشبهات حول العملية، وضحكت أيضاً من هذه السذاجة التي لا تعدو إلا أن تكون استمراراً في عملية النصب نفسها، مع تغيير الأساليب والحيل والأشخاص الوهميين. أما هذه المرة، فلم تكن المسألة عن طريق الإنترنت ولا رسائله، وإنما كانت حقيقة لا خيالاً، شخص بشحمه ولحمه يقف أمامي عياناً بياناً، أسمر البشرة من المؤكد أنه أفريقي، ألقى عليّ التحية مع ابتسامة رقيقة يبدو على وجهه حزن دفين، قال وهو يعتذر لأنه استوقفني في عرض الطريق واختارني للحديث معي لأنه شاهدني وأنا خارج من المسجد بعد صلاة العشاء ارتدي الجلباب الأبيض وهذا ما جعله يثق ويطمئن في الحديث معي على حد قوله. لأول وهلة اعتقدت أنه يريد مساعدة مالية، لكنه لم يجعلني استمر في حيرتي وواصل حديثه، وقال إنه من أصل أفريقي وإن أباه كان يعمل في أميركا وقد قام بتحويل عشرة ملايين دولار له في بلده، ثم قامت عصابة بقتله هناك، لأنها كانت تريد أن تستولي منه على المال. وأضاف محدثي أنه يريد أن يعطيني هذا المبلغ لنستثمره معاً، وقد استطاع أن يهربه في رسالة من العاج عن طريق سفارة بلاده، وهو فقط يريد أن يستخدم اسمي في التعامل مع الجهات الرسمية ليتم تسهيل الإجراءات وكل ما يطلبه ضماناً لذلك أنه يريد أن يعرف مسكني. وفهمت أن هذا يعني أنه قد يعرض أهلي لمكروه إذا ما استوليت على المبلغ المزعوم، وعندما طلبت منه أن يكون ذلك كله معلناً عن طريق الجهات الرسمية وتحرير محضر في الشرطة لضمان صحة وسلامة الإجراءات، أنهى الكلام فجأة واختفى من أمامي، فتأكدت أن هذا واحد من سلسلة النصب. سمعت كذلك وقرأت عن عمليات تبييض الدولارات وتوليد العملات والوسائل التي يتبعها هؤلاء الأشخاص، لكن الرسالة التي جاءتني مؤخراً كانت مختلفة جملة وتفصيلاً، حيث أكد صاحبها أنه يعرف أن مثل هذه الرسائل غير موثوق فيها ولا شك أنها كلها نصب واحتيال، لكنه يؤكد لي أنه يعرف اسمي وعملي في تجارة الأجهزة الكهربائية والاستيراد والتصدير، وأنه تأكيداً لمصداقيته، أرسل لي صورته ورقم هاتفه وقال إنه يرغب في التعامل معي، وطلب خمسة ملايين دولار أقوم بتحويلها له لشراء أجهزة على مرات مختلفة، ولمزيد من التأكيدات والتطمينات التي يكثر منها، قال إنه سيرسل لي سكرتيرته لإنجاز التعاقد وجهاً لوجه وهو الذي سيتحمل نفقات إقامتها وتنقلاتها، ومن جانبي لن أقوم إلا بتحويل المبلغ ويقوم هو في المقابل بشحن الأجهزة. وجدت أن الفارق بين هذه الرسالة والرسائل الأخرى مثل ما بين السماء والأرض، فأنا هنا أتعامل في تجارة وتسليم وتسلم، فوافقت خاصة أنا أتعامل مع أشخاص حقيقيين وبشكل مباشر، وافقت مبدئياً إلى أن وصلت السكرتيرة بالفعل واستقبلتها في المطار وأوصلتها إلى الفندق الذي قامت مسبقاً بالحجز فيه عبر الإنترنت قبل وصولها، وانطلقنا في التنفيذ وتوقيع العقود وتلقيت صوراً بالأجهزة والمعدات التي سيرسلونها وقمت بتحويل خمسة ملايين دولار على حساب شركته في أحد البنوك الخارجية وانتظرت استقبال الشحنة في حضور السكرتيرة التي اعتبرتها ضماناً للتنفيذ وعدم التلاعب وقالوا إنها ستصل خلال يومين. الصدفة وحدها كشفت اللعبة، عندما علمت أن الفتاة الجميلة ما هي إلا فخ وقعت فيه، فهي تستعد للرحيل والهروب بعد أن حصل صديقها على الملايين وأصبحت في حسابه، وليس لديه أجهزة ولا يحزنون إنما الصور كانت وهماً، كان لا بد أن أرد لهما الصاع صاعين، ادعيت أنني أدعو الفتاة إلى نزهة في بلادي لزيارة بعض معالمها قبل أن تغادر، فلم تستطع أن ترفض ولم تجد حجة للتهرب، واصطحبتها إلى منطقة نائية وهناك أخبرتها بأنني اكتشفت اللعبة، وعليها أن تبلغ شريكها ليرد المبلغ وإلا قتلتها وستظل رهينة عندي إلى أن استرد حقي كاملاً، وبالفعل قامت بإبلاغه بأنها في خطر وعليه أن يتصرف بسرعة لإنقاذها، ووعدها بالتدخل لحل المشكلة، محاولاً أن ينفي اتهامه بالنصب أو الاحتيال وأنه سيفي بالتعاقد الذي بيننا. لم يمض سوى ساعات قليلة، حتى وجدت قوة من الشرطة تلقي القبض عليّ بتهمة اختطاف الفتاة واحتجازها بلا وجه حق، وأنني لم اتبع السبل الرسمية في الإبلاغ أو التعامل مع المشكلة، فقد اكتشفت أن شريكها قام بإبلاغ الشرطة عني، واتهمني بخطفها، متجاهلاً ما فعلاه بي واستيلائهما على خمسة ملايين دولار، وهكذا تحولت من ضحية مجني عليه إلى متهم، وأنا الذي كنت ادعي الوعي والحذر والحيطة، وصدق المثل «راح يصطاد صادوه».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©