الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تزعجه البلاغة كما طنين الذباب !

تزعجه البلاغة كما طنين الذباب !
3 أكتوبر 2014 23:04
لست أدري لماذا ظلّ العرب يجهلون حتى هذه الساعة، المفكر والمؤرخ الإيطالي المرموق جيامباتيستا فيكو (1686 ـ 1744) صاحب كتاب «العلم الجديد» الذي ترجم إلى العديد من اللغات ما عدا العربية على ما أظن! والحال أن فيكو هو الأقرب الى ابن خلدون من كلّ المفكرين والمؤرخين الغربيين الآخرين. وقد أثر كتاب «العلم الجديد» في كبار الروائيين المعاصرين من أمثال جيمس جويس، وصاموئيل بيكت. لكن علينا أن نقرّ بأن عظمة فيكو لم تنكشف لأهل الفكر والثقافة في الغرب إلاّ بعد وفاته بسنوات مديدة. بل لعلّها لم تنكشف لهم سوى في القرن العشرين. أما في حياته فقد كان المدركون لسعة علمه وعمق تفكيره نادرين. وفي السيرة التي خصصها لنفسه، كتب فيكو يقول: «على جمهورية الآداب التي أثقلت كاهلها وفرة الكتب ألاّ تقبل بتحمل ما يمكن ان يضاعف من ذلك. لذا علينا ألا نقدّم لها سوى الكتب التي تحتوي على الاكتشافات الجديدة، الأكثر إفادة للناس». وكان فيكو محقّا في ما قال ومنسجما مع نفسه تمام الانسجام إذ إنه لم يؤلف طوال حياته التي امتدت 76 عاما سوى عدد قليل من الكتب، غير أنها كانت جميعها نافعة ومفيدة. وأول كتاب انجزه كان بعنوان: Ratione، وفيه حدّد البعض من مفاهيمه حول الثقافة، والعلم، والتاريخ. وفي الأصل كان الكتاب المذكور نصّ محاضرة ألقاها فيكو في جامعة «نابولي» حيث كان يدرّس، وفيها كان يتجنّب البلاغة الرنانة التي كانت سائدة في عصره، والتي كانت تزعجه أكثر مما يزعجه «طنين الذباب». والذين استمعوا الى تلك المحاضرة كانوا في جلّهم من أعيان المدينة، ومن الطلبة، والأساتذة. وفي محاضرته طرح فيكو الأسئلة الجوهرية التي كانت تحيّره: لماذا ندرس؟ وما هي الفائدة التي يجنيها المجتمع من التعليم؟ وما هو دور التعليم في ازدهار الثقافة والآداب؟ وكيف نرتقي بالآداب الى مستوى عال؟ وكان هدف فيكو من هذه الأسئلة التصدّي للأفكار الفلسفية التي كانت قد شاعت في عصره، والتي كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت عَلما من أعلامها. وكما هو معلوم، كان العقل بالنسبة لصاحب «خطاب الطريقة» هو المرشد، والدليل، وهو «المنقذ من الضلال»، و»الهادي الى الحقيقة». غير أن فيكو كان معارضا لهذا الخطاب الذي جاء به ديكارت، ومتناقضا معه إذ إنه كان يرى فيها خطرا على الخيال، وعلى الحساسية، وعلى العواطف والمشاعر الإنسانية، وعلى المكونات الأخرى التي تساهم في تقدم المعرفة. وقد اتهم فيكو معاصريه من أتباع ديكارت بـ»ملء رؤوس» الشباب بكلمات كبيرة، وبنظريّات تقودهم ال عالم بارد، أو الى ما سمّاه بـ»البربرية الفكرية». ويعتقد فيكو أن الإنسان في عملية اكتسابه للمعرفة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتمد على العقل فقط، وإنما هو يحتاج الى جميع ملكاته الأخرى. وفي محاضرته، أدان فيكو العقلانية المفرطة التي تؤدي بحسب رأيه الى الفراغ الأخلاقي، والى الجفاف الروحي. وبذلك يصبح المثقف عاجزا عن فهم الحياة في جريانها!. وقد اعتبر كتاب «العلم الجديد» أوّل كتاب انتقد الحداثة الأوروبية في جانبها العقلاني. كما انه كان منتقدا لفلسفة الأنوار قبل ظهورها. والآن وقد بدأ الكثير من الناس يشكّكون في قدرة العقل البشري وحده على اكتشاف الحقيقة، وأن العلم يمكن ان يحقق السعادة للبشرية، عاد كتب «العلم الجديد» ليكتسب أهمية كبيرة لم يكتسبها من قبل أبدا!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©