السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

المجتمع المدني في العراق.. قراءة في عصرين

16 ديسمبر 2006 00:12
د· رسول محمد رسول: بعد عقود من الاستبداد السياسي مرَّ بها المجتمع العراقي فتحت الحرب الأخيرة عليه أبواب التحرك في اتجاهات مختلفة، ومنها إقبال العراقيين على الاشتغال بجملة من المفاهيم السياسية الجديدة التي كان الاستناد إليها أوالتحدُّث في شأنها من قبيل الإثم السياسي في أزمنة الدولة البعثية الغابرة، ومنها مفهوم (المجتمع المدني) الذي أخذ بالتداول بعد انهيار تلك الدولة في أبريل ،2003 وصارت له جملة من التطبيقات الميدانية بين العراقيين· الكاتب والمفكِّر العراقي فالح عبدالجبار أمعن النظر في مفهوم المجتمع المدني في كتابه الجديد (المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب) الذي تضمن مقدمة وستة فصول، والصادر عن (معهد الدراسات الإستراتيجية) في بيروت هذا العام· مصطلح المجتمع المدني بداية، يتساءل عبدالجبار عن ماهية المجتمع المدني: ما هو؟ وما ليس هو؟ ويعتقد أن هناك اختزالاً شائعاً لمفهوم المجتمع المدني ينزل به إلى حدود ضيقة ومحدودة جداً تقتصر على ما يُعرف بـ(الاتحادات والجمعيات الأهلية أوالمدنية)، بل إن البعض يحيلهُ إلى ما هو أضيق من ذلك، فيختزلهُ إلى (المنظمات غير الحكومية)، لكن (مفهوم المجتمع) المدني يتعدّى هذه الروابط؛ فهو يشير إلى ذلك ويتضمن في ثناياه بُنى اقتصادية واجتماعية وثقافية متنوعة ومتعددة المستويات، تنشأ وتتطور وتنضج كمجموعة من المؤسسات والبُنى الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية· ومع أنه من الصعوبة حصر جميع المفاهيم الخاصة بالمجتمع المدني التي تم تداولها حتى الآن، إلا أنَّ المؤلف يشرع في متابعة أهم تلك المفاهيم بالانطلاق من أن مقولة (المجتمع المدني) هي مقولة تاريخية لظاهرة لها وجود حقيقي، متغير في الزمان، وجود يمكن تلمس قسماته العامة· يعرض المؤلف لأربعة مفاهيم أومقاربات مركَّزة عن ماهية مفهوم (المجتمع المدني)، الأولى: مقاربة اقتصادية تاريخية من المدرستين الإنجليزية والألمانية، وكلتاهما ترى أن المجتمع المدني هو المجتمع التجاري الرأسمالي الذي يكون فيه المجال الاقتصادي متميزاً ومستقلاً عن المجال السياسي· الثانية: المقاربة الفرنسية الكلاسيكية التي أرسى دعائمها مونتسكيو، والتي ترى أن المجتمع المدني هو مجتمع (المؤسسات الوسيطة) بين الفرد والدولة التي تنبثق من التشكُّلات الاجتماعية الاقتصادية، أي الطبقات الاجتماعية من نبلاء وملاّك عقارات وإكليروس وصناعيين· الثالثة: هي المقاربة التي طوَّرها ألكسي دي توكفيل عندما استبدل مفهوم (المؤسسات الوسيطة) بمفهوم (الاتحادات الطوعية غير القرابية)، أي أن هذه الاتحادات متحرِّرة من قواعد القرابة أوالوراثة، فهي جمعيات حديثة أساسها قانوني، ومغزاها ثقافي أواقتصادي تحقِّق التواصل بين الدولة ومجتمع الأفراد الأحرار· الرابعة: هي المقاربة التي ترى المجتمع المدني بأنه مجال عام تتم فيه تسوية المصالح والعائلة والنظام التربوي وهي التي تُعرف بالمقاربة الثقافية· جذور ومشكلات هل يعني ذلك أنه لا وجود لمجتمع مدني في العراق؟ في الواقع يحفر المؤلف في تاريخ العراق الحديث من أجل استظهار معطيات المصطلح الواقعية أومعادلة الموضوعي على صعيد الميدان، وقد تمحورت في تحديث الدولة والاقتصاد والمجتمع عندما تمَّ اعتماد الحكم الدستوري، وإنشاء البيروقراطية الحديثة والجيوش النظامية· واستعرض عبدالجبار نمو طبقات جديدة في المجتمع العراقي كالصناعيين والتجار والمقاولين وملاك الأراضي وطبقات التكنقراط الجدد والقادة العسكريين، ويعتقد أن سيطرة تلك الطبقات ومؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية على الحياة في المدن، وأكد على أن ولادة الاستثمارات النفطية في العام 1951 لم تؤد إلى إضعاف المجتمع المدني المزدهر، بل على العكس ساعدت عائدات النفط التي تزايدت بسرعة على تسريع تحديث الدولة والمجتمع في أكثر مفاصلهما، إلا تلك التجربة الرائعة تعرَّضت إلى تحديات عدّة، قال المؤلف: لقد حالت الحرب الباردة دون ترسيخ هذه الحركات الاجتماعية المدينية والتحديثية، اليسارية في معظمها، ترسيخاً مؤسساتياً· يتوقف المؤلف عند أهم محطة ضاع فيها المجتمع المدني العراقي، تلك هي محطة الدولة البعثية، وكان للفورة النفطية في السبعينات دور بارز في زيادة تسلُّط الدولة وإنماء قدرتها على تغيير بنية ما بقي من طبقات رجال الأعمال، فتطوَّر نوع جديد هو مزيج من (الرأسمالية القرابية) المحصورة في الأقارب و(رأسمالية المحاسيب والأتباع) المحصورة في الأصدقاء، وصار الدخول إلى هذه الطبقة العليا حكرا عليهم· فتح الفضاءات المحرَّمة مع سقوط تمثال الرئيس المخلوع في ساحة الفردوس بقلب العاصمة بغداد، يقول المؤلف: حتى تحرَّر المجتمع بأكمله من قيود النظام الشمولي لا لشيء إلا ليكشف هذا المجتمع أنه يفتقر إلى أية مؤسسات أواتحادات وروابط مدنية، بل وجد نفسه في حالة من التشظِّي والانقسام الديني أمام أزمة هوية مزمنة، وما أن بدأت سلطة الائتلاف المؤقتة إصلاحاتها المتتالية والجذرية حتى فتح ذلك الفضاءات المحرمة أمام النشاط والتعبئة حتى من دون استبعاد القوى المعادية للتغيير، وتحررت القوى الاجتماعية، المسالم منها والعنيف، تحرراً حيوياً وفعالاً، كما تحرَّرت القوى الثقافية لتجتاح بسرعة المجال الثقافي والإعلامي العام والمفتوح، ووجدت القوى الاقتصادية نفسها في عالم أحلام جديد من المؤسسات الحرة، وتكاثر بين ليلة وضحاها كل ما يمكن تصوره من جمعيات، وشهد المجتمع المدني ولادة جديدة· إن وضع العراق الجديد دعا المؤلف إلى دراسة المجتمع المدني الاقتصادي الجديد من حيث حراك طبقات رجال الأعمال والطبقات الوسطى في المجتمع العراقي، وبالتالي الطبقة العراقية العاملة، ويعتقد في شأن هذه الأخيرة أن الاتحادات تمتلك- إذا ما اتبعت برنامجاً مدروساً- القدرة على نشر أفكار الاعتدال وتخفيف صعوبات الانتقال إلى اقتصاد السوق· لكنه ينتقل تالياً إلى دراسة المؤسسات الوسيطة، أي الجمعيات المدنية والتجمعات السياسية والشبكات الاجتماعية المنظمة، التي تشكل النسيج الحي للمجتمع المدني، والتي نجح النظام البعثي في قمعها وتذويبها تحت سطوة البُعد الواحد، ولكن مع سقوط الديكتاتورية والاستبداد في بغداد، تهاوت الأسطورة التي تقول: إن العراق مجتمع صواني وأحادي خاضع لسيطرة حزب البعث الكاملة· وأشار فالح عبدالجبار إلى أن عدد المنظمات السياسية التي سبقت سقوط البعث العراقي كان يصل إلى ما يقارب التسعين، وبعد السقوط وصل تعدادها إلى نحو 240 كياناً سياسياً تمثل معظم التلاوين الأيديولوجية والاجتماعية والثقافية في المجتمع العراقي، وهي تدل على انتقال كبير للنشاط السياسي الأيديولوجي إلى النشاط السياسي القائم على الهويات الصغيرة· ونلاحظ أن المؤلف يحفر في تفاصيل بدت غاية في الأهمية من حيث علاقتها بالأحزاب الدينية والسياسية، الكردية والسنية والشيعية، التي تضافر ظهورها بعد أبريل ،2003 ويعزز تحليلاته بعدد من الجداول الإحصائية، لكنه يوجه النقد إلى كل جوانب المشهد ذاك، قال في هذا الصدد: هناك مجموعة من العوامل السلبية تعرقل نمو المنظمات غير الحكومية حالياً أبرزها العنف السياسي والإجرامي، إضافة إلى النزعات الاستبدادية التي تظهرها الأحزاب الإسلامية التي تضايق الناشطين الاجتماعيين أوتعوق تصنيفهم ضمن جمعيات بسيطة، ومن العقبات أيضاً معانات المنظمات غير الحكومية العاملة من قلة الخبرة في التنظيم، وقلة المعرفة في حشد المساندة الاجتماعية والرسمية· ختم المؤلف كتابه بما عنوانه (الإعلام وولادة الرأي العام)، قال فيه: باتت ولادة الإعلام الحر في العراق واقعاً معيشاً، لكنها لا تزال تتطلَّب جهداً قوياً لجهة التمويل المستقل والخبرات والمعدات والاحتراف وبالطبع انتهاء عصر المليشيات، ولم تعد محاولة السلطة المركزية لتقليص الحريات تنجح، وعلى عكس الإعلام الموالي الذي تملكه الأحزاب والمؤسسات السياسية النافذة، يواجه الإعلام الخاص تحدياً طويل الأمد لمواجهة النزعات الاستبدادية لإلغاء حريات الإعلام والرأي العام· جذور بدأت لبنات المجتمع المدني في العراق الحديث بالظهور في ظل الإصلاحات العثمانية التي أُجريت في أواخر القرن التاسع عشر، واستمرَّت في عهد الانتداب البريطاني والحكم والملكي· المسارات الأربعة إن المجتمعات الشرق أوسطية، بما فيها العراق، الخارجة من ماضٍ غير صناعي وحاضر ''توتاليتاري''، هي في الواقع مجتمعات انتقالية يحتاج فيها المجتمع المدني إلى أن يتطوَّر وفق المسارات الأربعة الآتية: اقتصاد السوق، بناء المؤسسات الوسيطة، الإعلام الحر، نشوء المنظمات غير الحكومية التي تتبنى قضايا معينة· سياسات الحرمان أدّى القمع السياسي للمؤسسات والأحزاب العراقية إلى العمل السري خارج المؤسسات الدستورية، مما أدّى بدوره تدريجياً إلى تآكل شرعية السياسة الرسمية للنظام الملكي، وتفاقم حرمان الطبقات الحديثة من حقوقها الدستورية والسياسية، وزيادة تركُّز الثروات عند طبقة عليا قليلة العدد، تطوَّر إلى انشقاق اجتماعي/ سياسي لا رجاء في إصلاحه، قضى على ديمقراطية تعدُّدية دستورية كانت في وقت من الأوقات فاعلة بالعراق· بلاءُ الجمهوريات! بعد زوال الملكية، توالت على الحكم ثلاثة أنظمة عسكرية في الفترة بين عامي 1958- ،1968 وتلاها النظام البعثي 1968-،2003 قضت على الديمقراطية الدستورية، وأدت النزعات التنموية أوالاشتراكية التي تمحورت حول الدولة كقوة أساسية للتحديث، إلى تشويه المجتمع المدني أوتفكيكه وامتصاص بعض عناصره أوحتى تدميره، فتهاوى المجتمع المدني في بعض الأحيان إلى دائرة الأفكار الخاصة التي تكمن في مخيلة الفرد·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©