الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثلاثية الإبداع والمشاغبة

ثلاثية الإبداع والمشاغبة
15 ديسمبر 2010 19:34
بلا شك أن مفردة تقنية تنقلنا فوراً إلى أدوات الاشتغال المعروفة في المسرح، كأدوات الإضاءة التي تؤدي المؤثرات الضوئية وأجهزة المؤثرات البصرية، وكذلك وسائل الخدع وآلاتها وآلياتها، وتضم كذلك الاشتغال على اللون في الديكورات والأزياء، أسلوب الأزياء وتصاميمها من حيث إنها تخاطب وعي الطفولة وتستدعي خياله وتحرك فيه الجمالي، وكذلك تقنيات الديكور من حيث تأثيره في رسم بيئة العرض والمساهمة في دعم الخيال، وتذهب التقنية الى المؤثرات الصوتية التي يجب مراعاتها لخصوصية الطفل ومتطلبات ذلك في الأغنيات المستخدمة وتوظيف الآلات الموسيقية المناسبة. في هذا الإطار تكون التقنية في محلها الطبيعي الاعتيادي والعادي، لكن بفتح نطاقها الأوسع على الإبداع المسرحي، نجد أن التقنية أضحت تشمل العملية الإخراجية في بناء مرتكزاتها وتعاملاتها خلال تأسيس الفرجة المسرحية، مع جميع المعطيات على الخشبة، وعلى رأسها أداء الممثل، ولم تبتعد التقنية أيضاً عن فضاء النص الذي يجب أن يؤسس حكايته وأحداثه على تقنية لا تخرج عن سياق نوعية المتلقي الذي تتوجه إليه. إن التقنية تذهب بنا الى كامل العملية المسرحية، فما بالنا ونحن نتصدى لصناعة مسرح يتوجه الى عوالم الطفولة، حيث يقف الإبداع المسرحي عند هذه العتبة، كمرب ومعلم ومحفز على الجمالي والخيالي، فيحتاج هذه التقنية احتياجاً كبيراً، الأمر الذي يجعل من صناعة مسرحية موجهة لجمهور الأطفال، صناعة تقنية مئة بالمئة. جمهور الطفل أمانة كبيرة وخطيرة حينما توضع في يد المسرحي، خصوصاً المسرحي الذي يعي ما تعنيه خصائص مرحلة الطفولة، إذ لا يخفى عليكم ما تعنيه هذه الخصائص من أهمية فائقة للمشتغل في حقل مسرح الطفل، وللأسف فإن كثيرا من المسرحيين العاملين في هذا المجال يتعاطون مع تلك الخصائص بطريقة فطرية بعيدة عن العلم والخبرة، بعيدة عن نظريات علم النفس والتربية، وبعضهم يغفلها إغفالاً تاماً، ولا أتصور أن مسرحيا قادرا على أن يصل الى جمهور الطفل دون إدراك ووعي علمي ومعرفي بالشريحة التي يتوجه لها. إن إدراك خصائص مرحلة الطفولة، هذا الإنسان الصغير الجميل، الذي ترتكب بحقه في أحيان كثيرة أخطاء كبيرة نتيجة الجهل به. كيف يتعاطى الطفل مع الخيال، كيف يتعاطى مع الخطأ والصواب، مع قناع الشر وقناع الخير، مع الدراما وسراديبها، مع فضائها الواسع والشاسع، مع الحس والإدراك، مع الحس العاطفي، والحس الحركي، مع المحركات التي تستفز الذكاء وغيرها من الأمور؟ وهي أسئلة أولى لابد أن يحملها المسرحي الذاهب الى قاعة الصغار لكي يمارس المسرح وخطاب المسرح وفنون المسرح. وبدون هذا الزاد من الأسئلة، وبدون المعرفة والدراية والخبرة والعلم، تكون هناك كارثة مهيأة لهذا الطفل، الصفحة البيضاء النقية. وفي إطار الحديث عن المواصفات التقنية التي تجعل من عرض مسرحي موجه لجمهور الأطفال عرضاً ناجحاً بكل المعايير والمقاييس الفكرية والتربوية والإبداعية. فإن هذا العرض بلا شك يجب أن يحاط بعناية فائقة بدءاً من نصه الأدبي المكتوب، ومروراً بأسلوب تأسيس الفضاء المسرحي والاعتناء بالأدائي عند الممثلين، وأخيراً بالرسالة المراد إيصالها، أو التأثير الذي نريد الطفل أن يمر به، فيخرج مختلفاً من قاعة العرض. كل هذه الأمور يجب ألا تخرج عن إدراكنا وخبرتنا العلمية والعملية في التعامل مع هذا الطفل الذي تنمو حواسه ومداركه ما بين أيادينا فيحملنا هذا الوضع خطورة ما نقوم به وأهميته. أنا أقول هذا الآن، وأمام نخبة من الخبرات والقامات، أمام مهتمين بشأن المسرح الموجه للطفل، فيما خارج هذه القاعة هناك مئات المؤلفين والمخرجين والممثلين يعدون عدتهم لاقتحام الصالات المليئة بالأطفال، جمع كبير من هؤلاء يحملون سموماً موجهة لعقول الأطفال وحواسهم ونفوسهم الصغيرة البريئة، دون وعي ودون تخطيط ودون إدراك لخطورة ما يقومون به. لهذا فإن ملتقانا هذا وجمعنا هذا من المؤمل عليه أن يسعى لإنارة الطريق الصحيح أمام هؤلاء المسرحيين، الذين لا أعتقد أنهم يبيتون النية لإلحاق الضرر بالطفل، ولكن لأخطاء في الفهم للاستسهال، وبعضهم يعتبر جمهور الطفل لقمة سائغة يمكن التهامها بسهولة، وباباً مفتوحاً للربح والتربح. لهذا يجب أن نرسل رسالة، أو إشارة الى هؤلاء أن طريق مسرح الطفل يحتاج الى عناء، يحتاج الى عدة علمية، يحتاج الى مؤهلات خاصة ترتكز على علم نفس الطفل وسيكولوجية الطفولة، والنظر الى القدرات الفذة لعقل هذا الطفل والى خياله الجامح. كيف نرى عملاً مسرحياً موجهاً لجمهور الأطفال يحمل صفات ومواصفات العمل المسرحي المدروس، عملاً متكاملاً ومتميزاً وفائق الدقة والأهمية؟ بلا شك أن هذا النوع من المسرح يتطلب مشتغلين من نوع خاص، أناس يدركون أن المهمة الملقاة على عاتقهم ليست بالسهلة، بل خطرة جداً، لأنها تعنى بتربية الذائقة الجمالية عند الطفل وترتقي بخياله وفكره وتغذيه التغذية المطلوبة. فكاتب نص مسرح الطفل لا يمكن أن يكون أي كاتب، ما لم يكن مدججاً بخبرة ومدارك كافية بسيكولوجية الطفولة، وما لم يكن ملماً بواقع الطفولة وما لم يكن قريباً من مظاهرها وتمظهراتها المختلفة ومسايراً لتطوراتها، فهذا الكاتب لا يمكن أن يكتب من مكان بعيد وناءٍ، ولا يمكن أن يأتي من الزمن البعيد، ولا يمكن أن يكون منفصلاً عن روح الطفولة. ومخرج عرض مسرح الطفل لا يمكن أن يكون أي مخرج، فهو الآخر لابد وأن يأتي مشغولاً باهتمامات الطفولة والتربية والتعليم والجمال، يعي أدواته جيداً، ويعي توظيف دلالاتها وإشاراتها لخدمة فرجة مسرحية لا تتعالى على عقول ونفسيات المتلقي الصغير، ولا تبعث على التشويش، وكذلك لا تأتي سطحية، ساذجة تستخف بعقول المشاهدين الصغار، تتجاهل ذكاءهم وحنكتهم. ومع هذا سأترك هذا جانباً رغبة في التركيز حول مسألة أرى أنها تحمل خطورة كبيرة، وباتجاه تقنيات الفنون الأدائية في مسرح الطفل، تمثيل الممثل، أداء الممثل، الذي أراه مصاباً بالعشوائية ومتروكاً للأهواء ومزاجات ومستنقعات سوء الفهم عند كثير من الممثلين الذين يزجون بأنفسهم أمام جمهور الأطفال. هناك خطورة كبيرة يجب الالتفات إليها في هذا الجانب.. وأنا أؤشر على السلبي باعتبار أن الأداء الإيجابي المطلوب تتوفر مواصفاته بإدراك سيكولوجية التلقي عند الطفل، وهذا الأمر لا يحتاج الى فلسفات ولا الى استطرادات لا لزوم لها. ممثلنا أيها السادة حينما يقف أمام جمهور الطفل يتحول الى الأداء العبيط أو الأبله الساذج حد السماجة، تحت فهم خاطئ، أن هذا يسعد الأطفال ويضحكهم، هذا نوع أول من الممثلين الذين يذهب بهم مخرج العرض الى سكك وأساليب أدائية، متكئاً على جملة تفهم فهماً خاطئاً للأسف.. (صغر نفسك) كن طفلاً، وياليت الذهاب الى الطفل سيكون دقيقاً، حتى الذي يؤدي دور شيخ عجوز كهل، يوجهه بعض المخرجين بهذه العبارة، كن أكثر طفولة عند الأداء.. فتمسخ الشخصية، ويمسخ الأداء، وتغيب الحرفية، وتغيب الإيماءة الذكية ودلالاتها، وهذا أيضاً يسحب معه تقنية الصوت عند الممثل الذي يعمد الى استعارات مزيفة في طبقات صوته لكي يجسد دور الشرير أو المجرم، أو الشخصية السالبة.. يكثر الشجار والسقوط بصورة عشوائية، تتسرب كلمات وألفاظ سوقية تستدعيها حالات الارتجال. أما الممثل الآخر المقابل لهذا النموذج، فهو الممثل الذي يتحول الى مدرس، أو واعظ أو مرشد، يلقن الأطفال الخطأ والصواب، يقف وقفة خطيب المنبر، أو المعلم أمام السبورة، يلقي خطبه متعالياً متكبراً على جمهور الصغير، يقطع الهواء بيديه، متخشب الجسد، ساكناً في زاوية ما من المسرح، يسكن معه الفضاء كاملاً، فيأتي أداؤه جافاً لا يخلو أيضاً من الاصطناع، فينفر الأطفال ببلادة حركته، وبجديته المبالغ فيها. متشنج، متصنع، متكلس في مكانه.. الصورة التي يرفضها الطفل رفضاً قاطعاً، ويواجهها بالتجاهل والهرج والمرج. إننا الآن بين ممثل ساذج يعتمد التهريج والفوضى الأدائية لجذب الطفل، وبين ممثل يحاول أن يكون معلماً وموجهاً مستنسخاً صوراً جامدة. والنموذجان منفران.. إذ يعطي النموذج الأول مخرجات أدائية مبهمة، تربك عملية التلقي وتخلط الإيجابي بالسلبي، فتميع الدلالات وتصاب بالتشوش، فتفقد العلاقة بينها وبين جمهور الأطفال، ويعطي النموذج الثاني مخرجات أدائية سالبة نتيجة التبلد والصلافة. أركز على الممثل باعتباره الأداة الأصل في التوصيل، والمسرح بلا ممثل لا يكون مسرحاً.. من هذا الباب، أرى أن هناك غياباً كبيراً في مسألة تدريب الممثل المتخصص في مجال مسرح الطفل. وليس أي ممثل يصلح، وليس أي نوع من الأداء، إن لم تكن الأمور مدروسة بعناية فائقة. مسرح النصائح والدروس والمواعظ وبالأساليب التقليدية التي تعارف عليها مسرح الطفل العربي، ينفر الطفل باعتباره مسرحاً جامداً يعتمد الخطابة والسرد والتقريرية، ومسرح التهريج والفوضى لا يخلف إلا فوضى في صالة المتفرجين الصغار. أما الممثل الذي ينجح في المرور الى جمهور الأطفال، فهو ذاك الممثل الذي يدرك تفاصيل أدائه المطلوب منه في حيز الحدث والفعل، معتمداً دلالات مقننة في عملية التقمص والإيماء، بعيداً عن العشوائية والفوضى، الممثل صاحب الصوت الواضح، ومخارج الحروف النظيفة، وصاحب المشاعر المتدفقة، فالطفل أكثر صدقاً في تعاطيه مع ما يدور من حوله، وكلما كان الصدق ممنطقاً ومهندساً ومشغولاً بعناية، كان نحت الممثل في الفراغ نحتاً سليماً. إن مسرح الطفل وسيط نزيه بين الفن والتربية، ومن هذا المنطلق يجب أن تبنى تقنيات العرض المسرحي المقدم لجمهور الأطفال. إن ممثل مسرح الطفل لا يحتاج أن يصغر سنه، وأن يؤدي في حالة العبط، بل عليه أن يتحلى بروح الطفولة، وما تعنيه هذه العبارة من معنى ودلالات. أن يحترم الطفل ويقدر قدراته العقلية والنفسية وأن يراعي خياله الجامح خلال عملية التلقي، أن يعي أن اللغة عند الطفل هي لغة إشارية وصفية وليست تحليلية ونقدية، أن يعي أن البصري لدى الطفل هي لغة إشارية وصفية وليست تحليلية ونقدية، أن يعي أن البصري لدى الطفل هو الأكثر جذباً وتأثيراً، ومن هنا يحدد الممثل أسلوبه في الأداء بناء على المبدأ. أن يبتعد عن التكلس والتبلد، أن يعي أن جسده كله آلة تفصل الكلمات، أن يتحلى بالمرونة والرشاقة واللياقة والخفة.. فالممثل في حالة الأداء وأمام عين الطفل حصان خياله الجامح.. خصوصاً إذ ما التفتنا الى العلاقة التي تنبني وشائجها بين الطفل وما يحدث فوق خشبة المسرح، إن الطفل يقود عملية التخييل الى تشظيات خطرة، بعيدة وواسعة المدى وعلى الممثل أن يعي هذا البناء عند الطفل لحظة التلقي. وهذا بلا شك يتطلب تقانة عالية عند الاشتغال على عملية التجسيد. إن النص المسرحي هو الأساس الأول الذي يقود الرؤى التي تليه، وبالنسبة للمخرج الناجح هو الذي يبني نصاً يحتوي على فضاء جيد ومناسب للتعاطي مع جمهور الأطفال، نص لا تتوالى فيه الأحداث بصورة ساذجة، وإنما يعتمد تقنية التشويق ويدفع بالأطفال الى حالة من التعاطي الآني، يدفعهم الى التحليل والربط والاستنتاج، يدير معهم حلول القصة ويشركهم من خلال عملية التلقي والانجذاب، نص يخرج عن إطار النصوص المعتادة.. فإذا ما استهلكنا شخصية الثعلب الماكر والبطة المظلومة المختطفة دائماً من الأشرار، فإن واقع الطفل العربي اليوم يشير الى احتياجات مختلفة، فطفل اليوم طفل الوسائط المتعددة، طفل السينما المتطورة، ثلاثية الأبعاد، وتقنيات الجرافيك العالي الجودة، والتي وفرت مساحات شاسعة لإبحار الخيال، لهذا صار علينا أن نذهب الى واقع هذا الطفل اليوم.. واضع خطا تحت كلمة اليوم. إن حقيقة المقولة (إن أطفال اليوم صاروا أكثر إلماماً من آبائهم) صحيحة، وهذه الصحة، خطرة، إذ على المسرحيين أن يعوا هذه الحقيقة عند تأسيس الخطاب الفكري والعاطفي والجمالي الموجهة الى جمهور الأطفال، وهذا يحتاج الى تقانة. ولتوصيل هذا بالاتكاء على نص مدروس يعي روح الطفولة ورؤاها، وفرجة تعي ذلك أيضاً وممثل يدرك ما يرسمه في فضاء الخشبة.. فإن التقنيات المسرحية المتعارف عليها هي الأخرى أيضاً يجب أن تكون مواكبة لهذا الفهم وهذا الإدراك. وكذا الأمر بالنسبة لتأسيس الفضاء المسرحي الذي يجب أن يخرج من إطار الغابة الذي لازم عروض الأطفال كفضاء للأحداث.. وكذلك الأمر بالنسبة للمؤثرات البصرية التي أرى أن مسرحنا العربي تركها في آخر الهامش عند الإعداد لمسرحيات الطفل، ولا زالت تتعكز على عكاز مكسور بسبب التجهيزات الفقيرة لمسارحنا. أختم بالعودة الى الممثل باعتباره الرقم الصعب في مسرح الطفل، لأن توفير مصممي الأزياء والديكورات والإضاءة يصبح سهلاً في أحيان كثيرة، لكن توفير ممثل يعي الوقوف أمام جمهور الطفل هو النادر، وهو ما تحوم حوله الشكوك في مسألة الدربة والتقانة. حاولت أن أذهب باتجاه السلبيات، ولا أحمل في هذه الورقة خارطة طريق وتنظيرات لتقنيات مسرح طفل ناجح، سوى أننا اليوم في أمس الحاجة الى ثلاثة مداميك مهمة: مؤلف قريب من روح الطفولة، مخرج يرى العالم بعين طفل شديد الذكاء، وممثل ينحت فضاء الخشبة بخيال طفل مشاغب. * كاتب ومخرج وممثل إمارتي، والورقة قدمت في إطار ملتقى مسرح الطفل العربي الذي نظمته مجموعة مسارح الشارقة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©