الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسمار ذهبي في نعش بيزنطة

مسمار ذهبي في نعش بيزنطة
15 ديسمبر 2010 19:35
بين كل أشكال الحياة الشرسة والهانئة في مدينة اسطنبول والتي تبدو للمشتبك في تفاصيلها، وكأنها خارجة للتو من ضباب الأسطورة، يقف الشاعر حسين داده في الهواء الطلق محاطا بأغنية bohemian rhapsody غير مكترث بضجة الكائنات والموجودات من حوله، وكأنه ينظر للعالم من زاوية تنعدم فيها المسافات والأطر الاعتيادية لحياة عابرة ومتبخرة مثل دخان سيجارته التي تلازمه طوال الوقت. في معية ظلال الوجد والتأملات، ووسط حفيف الشجرة الهائلة في ميدان (با يزيد) في اسطنبول القديمة والتي تغذت من أنهار الدم والعذابات والتأوهات البعيدة، ينظر داده للكون المجرد من كل شيء، وكأنه يقشر اللحاء الميت للأمكنة كي يصل لجمالها الخاص ويفهم رموزها ويتخلص من تناقضاتها. يقف داده مثل سلطان عثماني زاهد، يمسّد الأضرحة الصامتة، يلامس روح الدراويش الخارجين من معطف النسيان، ويمتزج كليا مع طيف الكلمات الصافية لجلال الدين الرومي، متجاوزا بذلك كل تعقيدات الحياة الزائفة، والتبدلات العنيفة التي عصفت بالمكان وشوهت ملامح اسطنبول العتيقة. وداده الأشبه بقديس منهك، تتدلى خيالاته وتفيض، تماما مثل لحيته الطويلة وشعره المسدل، وكأنه منذور لرحيل دائم بحثا عن لغز دائخ أو كنز خفي يمنح الحياة سرها الدائم ودفقها الروحاني الذي لا يعرف التوقف. داده شاعر العزلة والغياب، وقنّاص الممرات الخفية التي نحتت كلماتها على حجارة الظل والعتمات، يكتب داده معاناته من خلال شعر حي ومشتبك بأحلامه اليقظة والسارحة في ذات الوقت مع أمواج البوسفور الحزين، والمثقل بأصوات الماضي والتكسرات الهائلة لانهيار وغرق إمبراطورية كاملة في غمض عين! تعيش اسطنبول وتتغذى من شعره، رغم أنها مدينة عنيدة وماكرة، ولكنه رغم ذلك يروضها بنزوات الكتابة ويضعها في قفص ذهبي من الأحلام الشفيفة والرائعة، لأنها المدينة التي أصابها مس الجمال وظلت لقرون طويلة تبحث عمّا يخلّد ويؤبد هذا الجمال والذي يبقى دائما عصيا على التفسير والانكشاف، رغم عنف التاريخ وقسوته المتوارثة. يقول الشاعر جيلر سوكار: “إن الشجرة هي أعظم بكثير من كونها شجرة”، ولعل في هذا القول ما ينطبق على القامة الإبداعية لشاعر مثل حسين داده، المرتبط بعلاقة حميمة مع كل الأشياء اللامرئية والذي يحمل تساؤلات مرّة تجاه ما اقترفته الإنسانية من جرائم ضد الحب والحرية والفطرة الصافية. لقد دفن داده تحت شجرة الحياة الكبيرة، ستة وأربعون عاما من سيرة حياته المحملة بالأسرار وهذيانات الليل، يلجأ داده لهذه الشجرة لأنها الكائن الوحيد الذي يحبه ويلجأ إليه منذ طفولته، وكأنه يتبع بذلك نداء غامضا وممتلئا بالحزن ليصل من خلال طقوسه الشعرية إلى منظومة حياة مختلفة ومتجاوزة لشراسة وعبث الوجود، فآلية تفكيره متوحدة بشجرة الخلاص والسلام الداخلي رغم اضطراب كلماته وتوقه العارم للدهشة الممزوجة بالقلق، إنه أيضا الزمن المتوحش الذي ينحت خرائبه على جسد الشجرة وجسد الشاعر في آن، إنه القرين الذي يوغل في ذاكرة وروح شبيهه ونظيره، كي يصل لذروة التوحد مع الطبيعة الكلية والشاملة. تكبر شجرة الكلام، ويكبر عشق دادا لصمتها العالي الذي يعانق المطر وينزلق على أوراقها الهائلة والتي تحمل كل ورقة منها صورة واسما وعنوانا لشهيد أو عاشق أو حتى لمخبول أخذته متاهة الحب واللوثة إلى منتهاها! يستشف المستمع للشاعر حسين داده هذا الهمّ كوني تجاه الطبقة المعدمة المشمولة بالفقر والبؤس والتشرد والضياع الكبير، هذه الطبقة التي تبحث عن السعادة المفقودة، نقل داده خلال شعره العاري حقيقة القسوة التي تتربص بها وسط تضاريس طويلة ومتعرجة لدرب الآلام والصرخات والأصداء الحارقة. وحول العشق ولذائذ القلب، يقول داده إنها تنشأ وتبعث من كهف العتمة، أو من المكان البعيد الذي يقارب الروح والجسد، ودائما ما يصف العشق بأنه الأكسير تتقاسمه البشرية، لأنه لا حواجز تعيقه ما دامت هناك روح متوثبة وجائعة للجمال، وما دامت هناك عاطفة تضيء مسارات العمر وتنير وحشة العالم. يحمل داده فانوس الحب أينما ذهب، ويزيح الظلمات الجاثمة على أرض المهمشين والفقراء والصعاليك، إن فلسفته المفسرة للعالم تذهب مباشرة نحو العزلة الذهبية التي تمدح وتمجّد الزاهدين والمحلقين فوق أطلال الحياة الزائفة والطارئة والخائنة أيضا. تمتلئ قصائد داده بالأساطير والرموز والملامح الفنية التي تسعى لترك بصمة زمنية ومؤثرة، ويحتاج المرء لعدة زيارات إلى كاهن الجمال هذا كي يكتشفه ويفهمه جيدا ويستمع لكل ما يقول بدقه، لأنه أشبه بفيلسوف مشّاء يجعلك منبهرا بروحه الشاسعة، والأقرب لروح طائر النورس المثقل برائحة البحر والسماء وبيوتات اسطنبول المأهولة بالسحر والأسرار والحكايات والخرافات النابعة من نبل الماضي وجنون الحداثة. يحمل داده في صدره كل الرحابة التي يمنحها الشاعر لأصدقائه المقيمين وضيوفه العابرين، ويمتزج ظله بالظلال المحيطة به، وكأنه ربّان الفصول ومحرّك دفة الأيام والتواريخ نحو بوصلة الروح التي لا تخطئ مسارها نحو الألفة التي يمنحها الشعر، ومن غير الشعر قادر على الاستئناس بالفقد وبكل الغيابات القاحلة والمرة التي تقدمها لنا الحياة على طبق من غضب! عند غروب الشمس يرحل داده ويترك مكانه الأثير وسط مكتبات ساحة مسجد با يزيد، ويقترن لون الغروب طيفه الذائب المنسحب ببطء وسط الأزقة والممرات التي خدشها التاريخ وكدّس فيها ميراث العذوبة والعذاب معا، مشيرا بذلك إلى سيرة المدينة نفسها والتي ترنحت طويلا وثملت كثيرا من شراب الحزن المتجذّر فيها، والذي لوّن قصورها ومآذنها ومقابرها بكل هذا الأنين العميق والمندس والذي لا ينتبه له سوى الشعراء والمصابين بلوثة الكتابة وخبالها. يترك داده المكان حاملا كيس الخبز على ظهره ويختفي وسط المارة المنهكين وصراخ الاطفال وخطوات الغرباء ورائحة المدينة العتيقه. أنه أخيرا داده، التائه في عاصفة من الوضوح، وآخر الشعراء البوهيميين في اسطنبول؟ حسين داده آخر الشعراء البوهيميين في اسطنبول وقنّاص الممرات الخفية مسمار ذهبي في نعش بيزنطة بين كل أشكال الحياة الشرسة والهانئة في مدينة اسطنبول والتي تبدو للمشتبك في تفاصيلها، وكأنها خارجة للتو من ضباب الأسطورة، يقف الشاعر حسين داده في الهواء الطلق محاطا بأغنية bohemian rhapsody غير مكترث بضجة الكائنات والموجودات من حوله، وكأنه ينظر للعالم من زاوية تنعدم فيها المسافات والأطر الاعتيادية لحياة عابرة ومتبخرة مثل دخان سيجارته التي تلازمه طوال الوقت. أحمد المطروشي * في معية ظلال الوجد والتأملات، ووسط حفيف الشجرة الهائلة في ميدان (با يزيد) في اسطنبول القديمة والتي تغذت من أنهار الدم والعذابات والتأوهات البعيدة، ينظر داده للكون المجرد من كل شيء، وكأنه يقشر اللحاء الميت للأمكنة كي يصل لجمالها الخاص ويفهم رموزها ويتخلص من تناقضاتها. يقف داده مثل سلطان عثماني زاهد، يمسّد الأضرحة الصامتة، يلامس روح الدراويش الخارجين من معطف النسيان، ويمتزج كليا مع طيف الكلمات الصافية لجلال الدين الرومي، متجاوزا بذلك كل تعقيدات الحياة الزائفة، والتبدلات العنيفة التي عصفت بالمكان وشوهت ملامح اسطنبول العتيقة. وداده الأشبه بقديس منهك، تتدلى خيالاته وتفيض، تماما مثل لحيته الطويلة وشعره المسدل، وكأنه منذور لرحيل دائم بحثا عن لغز دائخ أو كنز خفي يمنح الحياة سرها الدائم ودفقها الروحاني الذي لا يعرف التوقف. داده شاعر العزلة والغياب، وقنّاص الممرات الخفية التي نحتت كلماتها على حجارة الظل والعتمات، يكتب داده معاناته من خلال شعر حي ومشتبك بأحلامه اليقظة والسارحة في ذات الوقت مع أمواج البوسفور الحزين، والمثقل بأصوات الماضي والتكسرات الهائلة لانهيار وغرق إمبراطورية كاملة في غمض عين! تعيش اسطنبول وتتغذى من شعره، رغم أنها مدينة عنيدة وماكرة، ولكنه رغم ذلك يروضها بنزوات الكتابة ويضعها في قفص ذهبي من الأحلام الشفيفة والرائعة، لأنها المدينة التي أصابها مس الجمال وظلت لقرون طويلة تبحث عمّا يخلّد ويؤبد هذا الجمال والذي يبقى دائما عصيا على التفسير والانكشاف، رغم عنف التاريخ وقسوته المتوارثة. يقول الشاعر جيلر سوكار: “إن الشجرة هي أعظم بكثير من كونها شجرة”، ولعل في هذا القول ما ينطبق على القامة الإبداعية لشاعر مثل حسين داده، المرتبط بعلاقة حميمة مع كل الأشياء اللامرئية والذي يحمل تساؤلات مرّة تجاه ما اقترفته الإنسانية من جرائم ضد الحب والحرية والفطرة الصافية. لقد دفن داده تحت شجرة الحياة الكبيرة، ستة وأربعون عاما من سيرة حياته المحملة بالأسرار وهذيانات الليل، يلجأ داده لهذه الشجرة لأنها الكائن الوحيد الذي يحبه ويلجأ إليه منذ طفولته، وكأنه يتبع بذلك نداء غامضا وممتلئا بالحزن ليصل من خلال طقوسه الشعرية إلى منظومة حياة مختلفة ومتجاوزة لشراسة وعبث الوجود، فآلية تفكيره متوحدة بشجرة الخلاص والسلام الداخلي رغم اضطراب كلماته وتوقه العارم للدهشة الممزوجة بالقلق، إنه أيضا الزمن المتوحش الذي ينحت خرائبه على جسد الشجرة وجسد الشاعر في آن، إنه القرين الذي يوغل في ذاكرة وروح شبيهه ونظيره، كي يصل لذروة التوحد مع الطبيعة الكلية والشاملة. تكبر شجرة الكلام، ويكبر عشق دادا لصمتها العالي الذي يعانق المطر وينزلق على أوراقها الهائلة والتي تحمل كل ورقة منها صورة واسما وعنوانا لشهيد أو عاشق أو حتى لمخبول أخذته متاهة الحب واللوثة إلى منتهاها! يستشف المستمع للشاعر حسين داده هذا الهمّ كوني تجاه الطبقة المعدمة المشمولة بالفقر والبؤس والتشرد والضياع الكبير، هذه الطبقة التي تبحث عن السعادة المفقودة، نقل داده خلال شعره العاري حقيقة القسوة التي تتربص بها وسط تضاريس طويلة ومتعرجة لدرب الآلام والصرخات والأصداء الحارقة. وحول العشق ولذائذ القلب، يقول داده إنها تنشأ وتبعث من كهف العتمة، أو من المكان البعيد الذي يقارب الروح والجسد، ودائما ما يصف العشق بأنه الأكسير تتقاسمه البشرية، لأنه لا حواجز تعيقه ما دامت هناك روح متوثبة وجائعة للجمال، وما دامت هناك عاطفة تضيء مسارات العمر وتنير وحشة العالم. يحمل داده فانوس الحب أينما ذهب، ويزيح الظلمات الجاثمة على أرض المهمشين والفقراء والصعاليك، إن فلسفته المفسرة للعالم تذهب مباشرة نحو العزلة الذهبية التي تمدح وتمجّد الزاهدين والمحلقين فوق أطلال الحياة الزائفة والطارئة والخائنة أيضا. تمتلئ قصائد داده بالأساطير والرموز والملامح الفنية التي تسعى لترك بصمة زمنية ومؤثرة، ويحتاج المرء لعدة زيارات إلى كاهن الجمال هذا كي يكتشفه ويفهمه جيدا ويستمع لكل ما يقول بدقه، لأنه أشبه بفيلسوف مشّاء يجعلك منبهرا بروحه الشاسعة، والأقرب لروح طائر النورس المثقل برائحة البحر والسماء وبيوتات اسطنبول المأهولة بالسحر والأسرار والحكايات والخرافات النابعة من نبل الماضي وجنون الحداثة. يحمل داده في صدره كل الرحابة التي يمنحها الشاعر لأصدقائه المقيمين وضيوفه العابرين، ويمتزج ظله بالظلال المحيطة به، وكأنه ربّان الفصول ومحرّك دفة الأيام والتواريخ نحو بوصلة الروح التي لا تخطئ مسارها نحو الألفة التي يمنحها الشعر، ومن غير الشعر قادر على الاستئناس بالفقد وبكل الغيابات القاحلة والمرة التي تقدمها لنا الحياة على طبق من غضب! عند غروب الشمس يرحل داده ويترك مكانه الأثير وسط مكتبات ساحة مسجد با يزيد، ويقترن لون الغروب طيفه الذائب المنسحب ببطء وسط الأزقة والممرات التي خدشها التاريخ وكدّس فيها ميراث العذوبة والعذاب معا، مشيرا بذلك إلى سيرة المدينة نفسها والتي ترنحت طويلا وثملت كثيرا من شراب الحزن المتجذّر فيها، والذي لوّن قصورها ومآذنها ومقابرها بكل هذا الأنين العميق والمندس والذي لا ينتبه له سوى الشعراء والمصابين بلوثة الكتابة وخبالها. يترك داده المكان حاملا كيس الخبز على ظهره ويختفي وسط المارة المنهكين وصراخ الاطفال وخطوات الغرباء ورائحة المدينة العتيقه. أنه أخيرا داده، التائه في عاصفة من الوضوح، وآخر الشعراء البوهيميين في اسطنبول؟ عتمة أسند رأسي قليلا رأسي الذي يلمس النجوم الحب في الخارج يتدفق من نخاع العتمة وينمو بانسجام من تلقاء نفسه ذاهبا نحو الداخل أيضا حرية تعال يا شعبي أدخل قبو الشعراء وأشرب النبيذ في كل مكان هناك رنين لأغنية الحرية لا تخف يا شعبي فأنا لم أقتل أحدا من اجل تفاحة أنا شاعر عندما اشعر بالنعاس لا احتاج إلى سرير ولا بطانية في الصيف أتمدد على العشب في الشتاء امضي كل الليالي في المقاهي صدقوني الشعر مثل الملابس الملائمة أنا شاعر نصف جائع وقد أشعر بالتخمة أحيانا أنا شجرة مزهرة وأحيانا أنا سهم مسموم! * قصائد للشاعر التركي حسين داده من مجموعته “مسمار في نعش بيزنطة” ترجمة: أ. م. * شاعر وفنان من الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©