الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحمد السلامي: السياسة جرافة المشهد الشعري

أحمد السلامي: السياسة جرافة المشهد الشعري
15 ديسمبر 2010 19:41
يطرح الشاعر اليمني أحمد السلامي سؤالاً إشكالياً في التصنيف الجغرافي داخل المشهد الثقافي العربي هو: ماذا نستفيد عندما نضع مساحات شاسعة من الخريطة العربية في خانة الهامش الذي يهيمن عليه مركز؟ وللسلامي دلالات على أن ثنائية المشرق والمغرب، لم تعد موجودة بالشكل الذي اعتاد المثقف العربي على طرحه. في هذا الحوار يتحدث السلامي عن قضايا الشعر العربي، التي ما زالت مطروحة في الساحة الثقافية، وعن تجربته في كتابة قصيدة النثر التي يعد من أبرز كتّابها في اليمن وكيف ينظر إلى تشابه نصوص أبناء جيله وتكرارهم لأنماط جاهزة. ? مع أن نصك الشعري لا يؤطّره إيقاع موزون إلاّ أن القارئ لمجموعتيك “حياة بلا باب”، و”دون أن ينتبه لذلك أحد” يلحظ احتفاءك بما يمكن تسميته بموسيقى الجملة أو السطر الشعري، من خلال تركيب إيقاعي منسّق ينبني عبره وفي هيئته النص. ما هي هواجسك الكتابية في تشكّل النص؟ ? هناك عولمة شعرية أنجزتها قصيدة النثر العربية داخل وعي من ينتجونها على مدى العقود الماضية، وكان عليّ أن أكون ابناً لهذه العولمة منذ أن بدأت علاقتي الجادة مع القصيدة. هذا المستوى من التركيب الإيقاعي الذي تشير إليه في سؤالك لا يخصني وحدي. يمكنك أن تعتبره ثيمة أو لكنة تؤطر قصيدة النثر منذ ثلاثة عقود، وأصبحت هذه اللكنة تمثل إشكالية تعمل على تعطيل خصوصية الأداء الشعري. حتى أن الأصوات الشعرية عندما تكون على منصة الإلقاء تستنسخ ما يشبه الأداء الجماعي للنص. لا أنكر أن استهلاك نصوصي لهذا الملمح كان يروقني. غير أن هواجسي الكتابية الآن تتأسس على إدراك أن قصيدة النثر لم تتفرغ لما يتجاوز الصراع من أجل إثبات شرعيتها، وفي سبيل هذه المعركة الطويلة لم يكن بوسعها إلا البحث عن إيقاع شبه جماعي يتوازى مع محددات خطابها الشعري ومقترحاته التي صارت هي الأخرى مألوفة. لكن هذا لا يعني أن القصيدة الجديدة استنفذت ممكناتها الشعرية، والهواجس عندي تذهب الآن في اتجاه مغايرة الصوت الذي يكرس قصيدة النثر على هذا النحو. أثقال الوصايا والمحفوظات ? تبعاً لهذه الهواجس، هناك ما يشبه النص العام المكرّس، ينتجه العديد من الشعراء العرب تحت مسمى قصيدة النثر، نص يعاد إنتاجه بإيقاعات لغوية وتركيبية مشابهة. ألا تخشى أنت من الرتابة أو التكرار. ماذا تعمل لإنقاذ نصّك؟ ? أتفق معك بشأن توصيف الأزمة من هذا المدخل. ويبدو لي أن السبيل إلى إنقاذ قصيدة النثر من الوقوع في الاجترار يتطلب الوعي بحقيقة بديهية مفادها بأن استمرار الكتابة الشعرية في استدعاء النماذج المكرسة يجعلها تفقد الكثير من الخيارات. وهذا مأزق جماعي أرى أن تخطيه بحاجة لاستعادة أفق التعدد والخيارات التي تمنح النص هوية شخصية. أظن أن مهمة قصيدة النثر الآن هي الانتقال من الكتابة تحت هاجس تثبيت الشكل إلى الكتابة داخل الشكل بمقترحات جديدة تتكئ على التخفف من أثقال الوصايا والمحفوظات التي أرساها النقاد والمنجز الشعري المتراكم. ذلك أن الكتابة الشعرية الآن تحيلك إلى أن اللحظة الإبداعية لم تعد اكتشافاً شخصياً بقدر ما أصبحت معنية بتحقيق تلازم شرطي بين شكل القصيدة والتوصيفات المستهلكة حول جمالياتها. ? لجأت في كتابك “الكتابة الجديدة” إلى التنظير للنص الجديد المكتوب تحت مسمى قصيدة النثر. هل على الشاعر أن يقوم أحياناً، إذ لم نقل دائماً، بتقديم رؤى وشروح للمنجز الكتابي الذي يتضمّن أعماله. أهي رغبة في وصل [النص والشاعر] مع القارئ؛ أم دفاع عن وجود [الشاعر أم النص]؟ ? لم أكن في هذا الكتاب معنياً بتقديم ذاتي. بل كنت أحاول القيام بدور الناقد الغائب وأنجز مهمة دفاعية عن تجاربنا الجديدة التي ظهرت في التسعينات ولم تكن مسبوقة بأيقونات محلية نستند إليها. فالتجارب المبكرة التي سبقتنا في اليمن لم تكن جادة وظلت تزاوج بين قصيدة النثر والأشكال الأخرى، وهذا لا ينفي وعيها بالتحولات الشعرية، لكنها لم تؤسس في الذائقة المحلية على صعيد الكتابة والتنظير ما يعفي جيلنا من القيام بهذا الدور التأسيسي. وبالطبع لم أقم بهذا الدور بمفردي فهناك العديد من المقالات المنشورة في الصحف، لكني جمعت مقالاتي في كتاب، وأعترف لك أنني حين أطالعه الآن بمقدمته الحماسية أشعر أننا كنا ثوريين أكثر مما ينبغي وأكثر مما يحتمله منطق الفن والقصيدة الجديدة. كتبت بانفعال وقلت إننا في اليمن “جيل بلا آباء” محليين، وكان انفعالي محملاً بطاقة أيديولوجية زائدة عن الحاجة، لكنها بدت لي مناسبة في وقتها بالقياس إلى الهدف المتمثل في استحضار التبشير بقصيدة النثر، وهذه معركة تجاوزها الآخرون منذ عقود. لكنك تعرف أننا نعيش في بلد يستهلك السياسة أكثر من أي شيء آخر، لذا فشلت الأجيال السابقة في بلورة مشهد ثقافي يواكب من حيث اشتغالاته ما يعتمل في المشاهد الأخرى. ? في هذا المنحى، يبدو أن الصراع حول الشكل الشعري قد تراجع كثيراً في الحياة الثقافية العربية. وصار للشعر الحديث، كما لقصيدة النثر والنص الجديد، مهرجانات ومؤتمرات ومسابقات ومنابر شتى، جنباً إلى جنب مع الشعر الكلاسيكي والشعبي: القصيدة العمودية والنبطية. كيف تقرأ هذا المشهد؟ ? لا أعتقد أن تراجع الصراع حول الشكل الشعري أفضى إلى خلق هذا التجاور المخادع بين المنابر الشعرية. وسواء توقف الصراع أو استمر فإنه لن يخلق أسئلة جديدة. نحن نتشبث بحداثة لديها جذور كانت تؤسس مقترحات للهدم والبناء في أنماط التعبير والفن والحياة، ولديها مواقف تتجاوز ذاتها ولا تقف نظرياً عند حدود شكل القصيدة، لكنها ظلت عاجزة عن حرث الواقع وتشكيل الامتداد الحسي المعبر عن التلازم بين الخطاب وتمثيلاته. ولا بد أن مضي أكثر من نصف قرن منذ الوقوع في هذا المأزق الحداثوي كفيل بإنضاج اليأس ورغبة البعض في تحقق تجاربهم ولو بالتخلي عن المستحيل مقابل التأسيس لتعايش النص مع الواقع وتدشين التماهي مع أي نوع من الأداء من شأنه أن يعزز استقرار حداثة لم تكف عن كونها مجازية. ويبدو لي النزوع إلى الحضور في المشهد الراهن عبر التماهي مع كرنفالاته بمثابة نوع من البحث عن الاستقرار داخل أزمة. ومشكلة قصيدة النثر أنها بلا معادل موضوعي في الواقع يؤسس لمقروئية وحالة كتابة تتجاوز كونها حالة نضالية دائمة دفاعاً عن الشكل إلى حالة إبداعية متجذرة. والحضور بالتوازي بين الأشكال التي ذكرت له ما يماثله في الواقع من تجاور المتناقضات على امتداد الجغرافيا العربية. ستجد الثروة والعلمانية والحزبية تتعايش بدرجات متفاوتة مع السلفية والفقر والقبلية والاستبداد. لقد أردنا توطين النص الحديث ونحن ندفع ثمن كونه يمثل التجلي اليتيم للحداثة في مجتمعات ما قبل حداثية. لدينا الآن وهم نشأ من الاعتقاد بأن تجاوز الجدل حول قصيدة النثر يدشن مرحلة جديدة من التفرغ لكتابة نصوص تستند إلى المشروعية الفضفاضة التي منحناها للنثر. وسبق أن قلت في مناسبة أخرى إن تجاوز الجدل حول شرعية قصيدة النثر لا يعني أن العقل العربي قد توقف عن تقديس الماضي بتمثيلاته الأخرى المتصلة بتحديد إقامتنا الجبرية داخل طريقة واحدة للتفكير. أما التنازل عن ثوابت الموروث الشعري ممثلاً بتفعيلات الخليل فإنه لا يضمن الولوج إلى الحداثة إلا من بوابة المجاز. وتعلم أن لدينا ما يكفي من التراث المحلق في المجاز، وحضارتنا تكاد أن تكون حضارة مجاز، وهذا ما يجعل من قصيدة النثر في ثقافتنا مكسباً معلقاً. أقصد أن الصراع حول الشكل الشعري كان يحمل ضمنياً الصراع حول الحداثة كقيمة كلية في موازاة بنية ثقافية تقليدية، لكن الجدل في الغالب ظل محكوماً بهذا السقف الشكلي، وظل كذلك نخبوياً ولم يجذب الجمهور كما لم يؤرق سلطة أو مؤسسة. ? ماذا عن اليمن، كيف يتشكل هذا المشهد؟ ? مؤشرات قياس مستوى التعبيرات الإبداعية في اليمن مفقودة. إذ لا يوجد مشهد ثقافي إلا بالمعنى المتخيل. فالإبداع صار حالة فردية بامتياز وكذلك هو التلقي. وكلما بدأ المشهد يتبلور يعود من جديد إلى نقطة البداية، أي إلى الممارسات الفردية المعزولة حتى عن المناخ المحلي المشلول بالأزمات السياسية والأوضاع الاقتصادية المهترئة. وفي هذه الحالة يمكن القول إن الأديب اليمني لا يختبر تجربته إلا خارج اليمن. وبالطبع لدينا أسماء عديدة تكتب الشعر والرواية، لكن السياسة تعمل هنا مثل جرافة بشعة لا تمنح أحدنا فرصة للحديث عن مشهد ثقافي. عجز الهامش ? وماذا عن الشكوى من هيمنة الدول الموصوفة بالمراكز الثقافية على الدول التي تعتبر في الهامش، أو ينظر إليها على هذا النحو. هل تغيّرت أو انتهت. كيف تنظر للحال بالنسبة لليمن؟ ? أخشى أن يكون لدينا ولع جماعي بتقمص مشاعر المظلوم حين نستمر في التفكير على هذا النحو. وتعرف أن الشماعة عندما تصير مألوفة تظل تؤدي وظيفتها في الوعي بسهولة، فتحمل الأخطاء وتخفي الحقيقة التي لا نريد مواجهتها. اليمن لم تتغلب حتى الآن على التفاوت الثقافي والاجتماعي الذي يفصلها عن مساحات أخرى توصف بالمراكز، وأنا أصفها بالمناطق المتحررة نسبياً من بنية التخلف، وهي تقطف استحقاق تمركزها ثقافياً بمعزل عن تموقعها الجغرافي. أما حديث المركز والهامش فإنه يتكئ على أوهام ومغالطات عديدة منها وهم الجغرافيا؛ حيث النظرة الاستاتيكية التي تعتبر هوامش الخريطة بمثابة الأطراف المشلولة في الجسد الحي، وهنا ينتقل الوهم من تبرير عجز الهامش إلى الإيحاء بأصالة العجز فيه والتسليم بديموته. الأمر ذاته ينطبق على نظرتنا للغرب، حتى أن انبهار البعض بمركزية أوروبا المعاصرة يكاد أن يتجاهل حقائق التاريخ والعوامل التي مهدت لهذا التحول. ما من شك في أن الجغرافيا بمعناها الشامل تلعب دوراً خطيراً في السياسة والاقتصاد ويبرز تأثيرها بوضوح على كفتي هذين الحقلين. لكن التفوق الاقتصادي في مجتمع تقليدي لا يصنع سينما ولا يبني مسرحاً وبالتالي لا يخلق حالة ثقافية. ثم إن القاهرة أو بيروت أو بغداد لم تؤسس حركتها الثقافية على المطابع والمهرجانات الأدبية فقط. لدى هذه المراكز أيضاً تاريخ من التراكم الذي صنع جمهوراً للثقافة. ويمكنك مشاهدة الحفلات القديمة لأم كلثوم لتعرف معنى أن تكون القاهرة مركزاً ثقافياً ومحطة لصناعة نجوم الفن والأدب والصحافة. لديها أيضاً السينما والمسرح والمجتمع الذي أصبح الفن ضمن أجندة استهلاكه اليومي. ولا بد أن المدينة التي ينتظم فيها الناس في طوابير لشراء تذاكر السينما جديرة بأن تكون مركزاً ثقافياً. أما الصيغة المتداولة عن المراكز والهوامش فإنها تجسد وهماً كبيراً. أسألك في المقابل: ماذا نستفيد عندما نضع مساحات شاسعة من الخريطة العربية في خانة الهامش الذي يهيمن عليه مركز؟ أظن أن هذه الثنائية لم تنجز شيئاً سوى التبرير لما هو غائب أصلاً. فلو أن لدى الهامش صناعة ثقافية قابلة للتسويق كانت فرضت نفسها، بدليل أن الالتماعات الذكية التي ينجزها أفراد من دول الهامش تصبح معلومة لدى المتلقي العربي من دون أن تقف خلفها وزارات ثقافة أو مؤسسات إعلامية محلية. بل إن بعض المبدعين يحظون بالشهرة خارج بلدانهم التي لم يتخلق فيها حتى الآن جمهور ثقافي. لاحظ أن الأسماء التي غادرت الهامش اليمني وأصبحت معلومة خارج اليمن هي التي أنجزت مثل هذه الالتماعات. هناك الزبيري والبردوني والمقالح في الشعر ومحمد عبد الولي وزيد مطيع دماج في الرواية، وهناك أسماء جديدة عليها أن تبدع أيضاً لكي تغادر الهامش. حتى في ثنائية المغرب والمشرق العربيين تجد أن التنظير حول مركزية المشرق يقع ضمن هذا الالتباس، بدليل أن القارئ المشرقي يعرف الجابري والخطيبي وأركون والعروي والمنجرة وقرأ لمحمد شكري وبن جلون وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي. لا أود هنا الوصول إلى نفي هذه الثنائية، لكني أرى أن الهامش لا يصير هامشاً بسبب هيمنة مركز يختطف الأضواء، بل إنه يصير كذلك لأنه يهمش ذاته من داخله نتيجة لغياب العوامل التي يتكون في ظلها أي مشهد ثقافي تكتمل فيه معادلة الإنتاج والتلقي، الفن والجمهور. وتبدو لي ثنائية المركز والهامش غير مبررة أيضاً حين تكون داخل ثقافة واحدة يصب منتجها الإبداعي في وعاء لغوي واحد، والأرجح أن صناعة النشر لم تلتفت بعد إلى هذه الميزة ولم تستثمرها كما تفعل شركات الإنتاج الفني، وكما يحدث في الدراما والسينما وعالم الطرب. وبالتالي أرى أن اللغة التي نتلقى بها كفيلة بجعل القيمة الجمالية وحدها هي المركز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©