الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة قرية فلسطينية

سيرة قرية فلسطينية
15 ديسمبر 2010 19:43
سيرة النكبة الفلسطينية لم تبدأ بالعام 1948، ولا بالخامس عشر من أيار من ذلك العام، حين انسحبت القوات الإنجليزية بعد تمهيد المناخات لقيام الكيان الغاصب، بل كانت لها بدايات وتحضيرات منذ القرن التاسع عشر، بدأت بالهجرة “الخجولة”، إن جاز القول، لليهود إلى فلسطين و”الاستضافة” الفلسطينية الطيبة لهذه الهجرات التي سرعان ما راحت تتحول مع مؤتمر 1897 إلى مخططات عدوانية، فتحول اليهودي الضيف وجار الفلسطيني وربما شريكه في بيته وحقله، تحول إلى مشروع عدو يخطط للاغتصاب والقتل والتهجير الذي تصاعدت فصوله منذ العشرينات من القرن العشرين، وصولا إلى النكبة التي كشفت عن الوجه القبيح لهذا الشعب. كتب الكثير حول هذه الرحلة والمخططات في الأطر السياسية والاقتصادية والعسكرية، لكن قلة من الكتاب الفلسطينيين هم من كتبوا هذه الرحلة من منطلقات تجمع الشخصي والوطني، وتجمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ومن بين هذه القلة تأتي سيرة كاتب وناقد فلسطيني، وسيرة قرية فلسطينية حول النكبة وما سبقها بعقد من السنوات، هي سيرة الناقد الفلسطيني المقيم في مخيم اليرموك في دمشق يوسف سامي اليوسف التي أعطاها اسم “تلك الأيام”، وجاءت في ثلاثة أجزاء (ووعد بجزء رابع، وربما يتبع). الجزء الأول يتناول المرحلة الممتدة من 1938 حتى 1948، الثاني من 1948 حتى 1975، الثالث من 1975 حتى 2007. ونتوقف هنا عند ملامح ومحطات من المرحلة الأولى. إحدى الغايات الكبرى لهذا الكتاب- كما يحدد المؤلف- أنه “يبتغي أن يكون واحدا من الآثار التي تملك أن تساعد الزمن المستقبل على “إيعاء” (حفظ) الزمن الذي عشت فيه.. وتخليد صورة القرية التي ولدت فيها، والتي رأيت بيوتها تتهاوى بيتا إثر الآخر، لتتحول إلى حطام، بعدما عاركتهم طوال بضعة أشهر. ولكي تصان تلك الصورة لا بد من عرض الكثير من التفاصيل ذات الصلة بالموقع والأرض المحيطة والبناء والعادات الاجتماعية.. وسواها”. هي سيرة الطفل الذي يفتح عينيه على قرية وادعة وجميلة حد السحر، لكنه ما يكاد يبلغ العاشرة من عمره حتى يجد نفسه منفيا في الشتات اللبناني والسوري. وهاهو في كهولته في المخيم، وبعد التقاعد من التدريس، يسرد روايته لما شاهد و”رأى” خلال رحلة العمر، قائلا “لقد رأيت حتى أصابني الذهول”. ذهول سينتج قراءة في عالم القرية بما تنطوي عليه من ظروف وأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تلخص حال القرية الفلسطينية خصوصا، وحال فلسطين عموما، كما رآها اليوسف. القرية الفلسطينية ثرية بالتفاصيل، تاريخا ومكانا. هنا لوبيا القرية الكنعانية: خط طبريا- الناصرة يلامس قريتنا من جهتها الشمالية. ومما هو مؤكد أن السيد المسيح كان يسير عليه في تجواله بين الناصرة وبحيرة الجليل، إنه الحد الذي يحد قريتنا من تلك الجهة نفسها، إذ كانت لوبيا كلها إلى الجنوب منه ما عدا بيتا واحدا حديث البناء. كما أن الدرب الممتد بين طبريا والناصرة يمر بين سهل الحمى وبين تل حطين، الذي يقال إن السيد المسيح قد صعد إلى مكان فيه وألقى على أتباعه خطبة مشهورة تسمى خطبة الجبل، وهي التي ورد ذكرها في العهد الجديد. والقرية معالم وملامح وتفاصيل، وهذه تتجسد في أجزاء من البيئة القروية، بيئة تنطق اجتماعيا ومكانيا، فتبرز التقاليد والقيم، ومن ذلك نتوقف مع “حجر الغمّارة” والغمارة هي: الفتاة التي تلم أكداس القمح بعدما يحصدها الحصادون. والحجر مخصص للنساء الشابات، يقفن عليه حين يردن الركوب على حميرهن عندما يذهبن إلى العمل في الحقول، إذ لقد كان من المعيب أن تركب المرأة الشابة على أية دابة في أزقة لوبيا، فقد كان يتوجب عليها أن تقود دابتها وأن تسير على أقدامها حتى تصل إلى حجر الغمارة، وهنالك تركب وتنطلق إلى السهل حيث العمل، بعدما تستفيد من الحجر كمرقاة. وفي السياق نفسه يأتي الحديث عن “حكورة السبيل”، التي هي كرم صغير جدا، ويقول عنها المؤلف “لا أحسبها إلا كلمة سريانية”. وكذلك الأمر في ما يتعلق مثلا بتفصيل مثل عين من عيون الماء يسمى “ماء دامية” حيث يرى المؤلف السبب وراء هذه التسمية ويقول: أرجح أن تكون قد سميت بهذه التسمية التي تؤشر إلى الدم لأن صداما جرى بين الإفرنج وبين الجيش الأيوبي من أجل السيطرة على تلك العين.. فما هو مؤكد أن الإفرنج أنهكهم العطش يوم حطين، وأنهم كانوا يلوبون على الماء ولكن دون أن يصلوا إليه. وعلى هذا النحو نجد عناصر وتفاصيل مختلفة، فننظر كيف يزرع الفلسطيني حقله، نجد كيف اعتاد الجد أن يزرع “حقل العوينة” المطل على طريق طبريا- الناصرة والقريب منها، بالبطيخ والشمام والقثاء والخيار وعباد الشمس، وذلك في الموسم الصيفي الذي تبدأ زراعته في نيسان. ونرى أن الأرض كلها هنا تروى بالأنداء طوال الصيف. وأن “تساقط الندى يبدأ زهاء التاسعة مساء. وفي الصباح ترى الأرض وكأنها مغسولة بالماء المقطر، ويظل الندى يغشّيها حتى العاشرة صباحا..”، وبحسرة شديدة نرى كيف “خسرنا أرضا نفيسة لا تبزها أية أرض سوى أرض الفردوس وحدها”. وفي الحالة الخاصة بالبيئة والطبيعة في القرية الفلسطينية، لا بد من التوقف عند فصول السنة وما تنتجه “ففي الربيع تكثر الأعشاب البرية الصالحة للأكل أو للغلي فالشرب (العكوب والقرصعنة والعلت والخبازي والشومر والرشاد والسنارية والعوصلان والحليان والبابونج والميرمية والعتر البري..الخ)، تخرج النساء، ولا سيما الشابات، إلى المروج والحقول في دفء الشمس ولطف النسيم، بحثا عن تلك الهبات الطبيعية السخية”. وهنا ننظر إلى الأرض كما يصفها اليوسف بوصفها “أرض الغبطة والسعادة في ذاكرتي أو في مخيلتي”. وهنا نميز أيضا بين الأرض الواقعية وأرض الحلم أو الخيال، إنها الأرض كما ينظر إليها من جرى تهجيره عنها، فهو سيتحدث من ذاكرة محتشدة بالحب والشجن والحنين، لذلك فهو سيكتب عن “لوبيا الواقع” التي رأينا بعض ملامحها الحقيقية، وعن “لوبيا الداخل التي تخص الفؤاد وحده. إنها المكان الذي تصون الروح رعشته في جوفها الدافئ الحنون”، وهذه الصورة تنطوي على قدر من الصوفية، فهي صورة “تستمد فحواها من الأزلي الساكن في نواة الباطن السحيق”. تفاصيل وعناصر كثيرة تمثل عالم القرية، خيرها وشرها، فمن جهة يتجرأ المؤلف على القول إن “لوبيا لا تخلو من اللصوص والزناة والمقامرين والمحتالين وهواة الشجار والعدوان”، ومن جهات أخرى يتوقف مطولا أمام بعض التفاصيل، ويستخدم أسلوبا خاصا في الوصف يتحفنا به، ففي العادات والتقاليد “يبدأ الزواج عادة بـ..”، وفي وصف البيت “يبدأ البيت بباحة..”، وفي وصف الأطعمة يتحدث عن “طبخ الطعام في الفرن الطيني”، ويقول “مأكولاتنا كثيرة ومتنوعة”، ولا ينسى تقاليد “الكتاتيب” و الخراريف “المسرودات” في “حضارتنا الريفية بسيطة”. ولهذا فهو يستخلص أن الفلسطينيين “مؤصلون في المكان، أما أعداؤنا فعرضيون زائلون وزائفون، لأنهم بغير جذور ولا أصول، والغيتو الذي بناه لهم الغربيون “لا يساوي قشرة بصلة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©