الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تمايز المسرح (2)

تمايز المسرح (2)
15 ديسمبر 2010 19:48
أحاول الآن استحضار شعور طغى علي في مطلع الصبا فترة الستينيات تجاه أمرين متباعدين في الظاهر، أحدهما عند استغراقي في دراسة التراث العربي بشعره ونثره وكتبه الموسوعية، كان لاينقصه من وجهة نظري كي يضارع أعظم الثقافات الإنسانية سوى فجوة واحدة لم ينتبه لها العرب الأقدمون ولم يسارعوا لتداركها وهي الخاصة بالمسرح. أما الأمر الثاني فقد يبدو بالغ السذاجة اليوم، فقد وقعت مثل غيري من الشباب في قبضة أوهام الدعاية الناصرية الجبارة فخيل إليّ أن مصر دولة عظمى تناهض الامبراطوريات الكبرى وأنه لا ينقصها كي تبلغ الذروة من هذه القوى سوى امتلاك الطاقة النووية من هنا كان حماسي الشديد لما يقال عن صواريخ “الظافر” و”القاهر” التي تجعلني على وشك اليقين من اقترابنا من النصر العظيم، لاحظ هذا التوازن المدهش في استكمال أسباب العظمة في التراث القديم والواقع المعاصر بين المسرح والطاقة النووية، وكان سفري إلى اسبانيا في بعثة علمية، هو بداية انقشاع هذه الأوهام. حيث قررت الحكومة المصرية إلغاء بعثاتها العلمية تخفيضا لنفقاتها من العملات الصعبة فوجهت البعثات التي كان من المفروض أن تذهب إلى الدول الكبرى إلى دول أصغر تقدم منحا للطلاب المصريين، ذهبت إلى إسبانيا وكان من المفروض أن أذهب إلى فرنسا، وبدا لي الفارق شاسعا في المستوى بين البلدين، لكن زميلا لي كان في مؤسسة الطاقة الذرية في مصر تحولت بعثته من انجلترا إلى اسبانيا، علما بأنها في عهد فرانكو لم تكن تملك أية مشروعات في البحث النووي، مما انتهى بزميلي إلى التدريب في مصنع سيارات في مدريد، الأنكى من ذلك أن علاقاتنا العائلية قد توطدت، فباح لي بأنهم كانوا في المؤسسة يقومون بتوجيه مباشر من رئيسها بتلوين زجاجات من ماء الحنفيات بالألوان التي يصبغ بها البيض في شم النسيم ليوهموا كبار الزوار بأن لديهم “ماء ثقيل” وأن صلاح هدايت، الضابط المسؤول عن ذلك، أوهم عبد الناصر نفسه بذلك. ولست أدرى الآن مدى صحة هذه المعلومات، لكن أثرها في نفسى حينئذ كان خطيرا للغاية، تبخر حماسي تماما وفقدت الثقة في مصداقية النظام، وجاءت نكسة 1967 لتؤكد لي انهيار الأحلام والأوهام وبشاعة الواقع الذليل. أذكر أننا عشنا أياما مريرة، وجاء الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة حينئذ إلى مدريد، فكان أن تجرأت على سؤاله عن منع الرقابة في مصر لمسرحية تنتقد الهزيمة. حاول الدكتور ثروت أن يقنعنا بأن الحرب مازالت قائمة والعدو متربص فعاندته بإصرار شديد مدافعا عن ضرورة حرية التعبير وكشف الحقائق وعدم الخوف من النقد لآنه الوسيلة الوحيدة لاكتشاف الضعف في بنية المجتمع والنظام دون خداع أو تزييف، اعتذرت بعدها عن السفر لمصر لحضور مؤتمر عن المبعوثين خوفا من احتجازي في المطار، تأكد يقيني من ضرورة التشبث بفلسفة الحرية قبل أن نبحث عن استزراع المسرح في أوطاننا أو نشرع في تخصيب الطاقة النووية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©