الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر.. نشوة المعرفة

الشعر.. نشوة المعرفة
15 ديسمبر 2010 19:51
في مجموعته الشعرية الصادرة حديثاً “تعبير”، يعود بنا الشاعر السعودي عيد الخميسي إلى تلك اللغة الصوفية ذات الحكمة والعبارة الضيقة والرؤيا المتسعة، سواء بالمفردات التي لم تعد مستخدمة اليوم في الشعر الحديث، أو بفكرة الغوص في عوالم اعتقدنا أن الشعر قد تجاوزها، ذلك الكون الصوفي المفتوح والقابل للكثير من التأويل، والذي يعتمد على ثراء اللغة وتوالدها وعمق مجازها. يكتب عيد الخميسي هذه التجربة “تعبير” منسحباً من اشتغاله السابق في مجموعاته الشعرية السابقة، مثل “البوادي” و”جملة لا تناسب القياس”، تلك المجموعات التي ظل يشتغل عليها زمناً، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن الشاعر قد قاطع تلك التجربة، التي كانت تهتم بتفاصيل اليومي والمعاش وبالشعر كحالة شخصية ينطلق فيها الشاعر من ذاته وتماسه مع واقعه، بل أرى أنه امتداد لتجربته ولكن بحلولها ـ بحسب التعبير الصوفي ـ نحو البحث عن فضاءات شعرية باتت مشروعة للشاعر ونحو توسيع الأسئلة الشعرية بالتنقيب في المهمل من الموروث الإبداعي، وهذا ما يؤيده إهداء المجموعة الشعرية إلى رمز كالشيخ عبد الغني إسماعيل النابلسي (المتوفي سنة 1143 هـ) ثم يردف بكلمة شكراً. ولعلنا ننظر إلى مجموعة “تعبير” حسب عدد من السمات التي تشكل إضافة في تجربة عيد الخميسي، فهو يكتب بطريقة حديثة، ولكنه يستلهم انزياحاً وتغييراً في المعنى والمضمون، ويوظف مضموناً وتقنية ومفردات تميزت بها التجربة الإبداعية الصوفية، كذلك سيظهر اهتمامه بضبط الكلمات في كل النصوص بالحركات، وهذا يحمل دلالة أخرى تتصل بالعوالم التي يخوضها في “تعبير”، وتكمل تمثله للحالة تماماً، فنحن على صعيد المضمون أيضاً لا نكاد نعثر في الكتاب على مفردة واحدة من عصرنا الحديث، فلا يوجد تلفزيون ولا إنترنت ولا سيارات ولا شوارع ولا مقاهٍ، ولا انزياحات نحو مفردات حديثة أبداً، كما كان يحدث في مجموعاته السابقة، إنه يستلهم الحالة ويدخلها ويمتزج بها ويصبح اتصالاً خفياً مع مكنون ذلك الشيخ النابلسي، بل يتمثل في هيئة مريد ولكنه مريد شاعر لقطب ما، هو قطب الشعر وعشق البحث الشعري، لذا ينتفي ويصبح مشوهاً وجود ما لا يتقاطع مع تلك التجربة بسماتها، وهذا ما وصل بتلك المقاطع التسعة والثلاثين في الكتاب إلى مقاطع منحوتة جيداً، فهو يقص زوائدها ويشذب ما يفيض منها وهو بالتالي، وحسب ما تقتضيه هذه التجربة، لا يفتح العبارة والمعنى على مصراعيهما، بل يميل إلى الاقتصاد وإلى التركيز على فكرة يتوحد بها كما في هذا السطر: “كل حادث لا يزول” والذي جاء كنص مستقل، وكذلك في هذا المقطع الذي يكاد يكون تعريفاً للكتاب وفلسفته: “هذه القصيدة لا وزن لها يضبط هذرها ويجعلها تتوقف فيما تقول هي في كتابها صرير باب في ساحة يعبرها السابلة”. كما أن التجربة اقتضت أن يستخدم مفردات قديمة من المعجم العربي، يعيد لها الحيوية بشكل أو آخر مثل: صرة ودواة وبخس والحصباء والبق، بل لم يشرح الشاعر هذه المفردات ليترك ذلك للمتلقي سواء بالبحث عنها من جديد أو اكتشافها بواسطة الدلالات الموحية عليها. ومن السمات التي تشكل تلك الإضافة أن الشاعر فتح النص كفضاء متسع نحو إعادة صياغة الموجودات، فهو يتحدث عن الباب والبشارة والسور والوقوف، وهو خيار اقتضته خصوصية وخطاب التجربة كذلك، علاوة على ذلك فإن عيد الخميسي لم يكن حاضراً ولا يمكن العثور عليه تماماً في ثنايا النص، ولا يمكن القبض على أسلوبه، فهو يتمثل الحالة إلى حد ذوبانه فيها، بل لا يترك أثراً ذاتياً يخص الشاعر، ويظل مشغولاً ومشتغلاً في نسج الحكمة ودوزنة الرؤيا. يقول في هذا الاشتغال البعيد عن الذاتي “هو أمر طبيعي يفرضه مناخ هذه التجربة وضابطها، فلا بد أن يكون هناك معجماً خاصاً وعالماً رمزياً وبنية مغلقة”، ولكن عيد الخميسي لم يعتزل الحياة ليكتب نصه ولم يرتد الجبه، بل هو يمارس الحياة بكل تفاصيلها، ولكنه يدخل في لحظة ما يسمى الاندماج الكلي والتعبير عن نشوة المعرفة هو أساسها، ولعل هذا سبب وجيه لتسمية المجموعة الشعرية “تعبير” فيقول “التعبير انتقال من حال إلى حال وفي إنشائه ضيق إن توقفت عند المشاهدة وارتويت من موضع العين، فالضمير في الرؤيا أقوى من النظر”، هذه اللغة العالية الرهافة والمكثفة ذات المعجم المتوالد لغة تحيط بالعقل والعقل والحس بعيداً عن الصورة الشعرية والخيالية وعن تفاصيل اليومي، بل تسير حسب سلطة اللغة في التعبير عن الحالة بدقة عالية تلك الحالة التي أدخلنا إليها عيد الخميسي مجدداً ليقرأ عوالمها بطريقته الخاصة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©