الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استعادة الهرم الرابع

استعادة الهرم الرابع
28 سبتمبر 2011 16:40
تجربة الفنان أسعد عرابي من التجارب النادرة عربيا في الفن والنقد التشكيليين، فمن النادر اجتماع هذين الحقلين لدى شخص واحد، وأن يبدع فيهما معا، فالمعروف أن بعض الفنانين انشغلوا بالنقد الفني، لكنهم كانوا يعطون المساحة والاهتمام الأكبر لواحد من الحقلين. كما أن أسعد عرابي ليس مجرد ناقد فني، أو قارئ انطباعي للعمل التشكيلي الذي يشاهده في المعارض، إنه يتجاوز ذلك إلى البحث الجمالي المتخصص، عبر دراسته الأكاديمية للعلاقة بين الصورة والموسيقى في الفن العربي الإسلامي. وهو يجسد هذا اللقاء في معرضه “حنين” (نوستالجيا) المخصص للفنانة أم كلثوم وفرقتها وزمنها الجميل. نحن إذن أمام تجربتين في تجربة، ما يجعلنا نتوقف لنضع ملحوظة أساسية تتعلق بمدى تشابه أو تقارب العمل الفني للفنان وعمله البحثي والنقدي، وهو سؤال يطرح على الشعراء الذين اشتغلوا بالبحث الجمالي والنقدي كأدونيس والدكتور الشاعر والناقد والباحث عز الدين المناصرة مثلا، وكذلك الدكتور الشاعر والباحث والناقد شربل داغر، وإلى أي حد اختلفت وابتعدت طروحاتهم النقدية والفكرية عن توجهاتهم الشعرية؟ أو كما هو الحال في المسرح في تجربة كل من عبد الكريم برشيد أو عبد الإله عبد القادر مثلا اللذين كتبا النص المسرحي واشتغلا جديا في النقد والبحث الجمالي. والأمر نفسه نجده في عالم الرواية مع الروائي والناقد الدكتور محمد برادة على سبيل المثال. هو سؤال يتطلب بحثا مستقلا بالتأكيد، لكننا نستطيع إيجاد إجابة أولية عليه في تجربة أسعد عرابي. عرابي اختار منذ البداية الجمع بين العالمين، في وقت كانت تشيع فيه مقولة أن الدراسة الأكاديمية تفسد الفن، بل يكفي الفنان الاهتمام بموهبته وصقلها بالثقافة الفنية والعامة، أما التخصص فهو بحسب البعض يجلب الجفاف للتجربة. وهكذا فنحن لا نجد سوى قلة من الفنانين ممن درسوا وتخصصوا في حقل الفن، وبلغوا فيه الدرجات العلمية العليا. لكن عرابي خاض التجربة ووصل بها نجاحات مشهودة في المشهد التشكيلي العربي. الفن والتنظير في معرض “حنين” تحضر التجربتان، الرسم والتنظير معا، الرسم هنا انعكاس لوعي فني عميق لموضوعه، وللأبعاد التي ينطوي عليها. ومن يقرأ دراسة عرابي لعمله يدرك العلاقة الوثيقة بين النص والعمل الفني. فهو يتحدث عن البعد العرفاني الذوقي السماعي الوجدي في معرضه، بدءا من وعيه لتربية أم كلثوم وبيئتها الدينية وتسميتها باسم البنت الثالثة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام‏، فقد كان والدها إمام المسجد والمؤذن والخطيب ومرتل القرآن الذي نقل حساسيته العرفانية إلي ابنته الموهوبة، التي أنشدت في مدح الرسول وأشرف على تدريبها الشيخ أبو العلا محمد تلميذ عبده الحامولي‏، وهو إمام ومؤذن وشاعر وملحن‏، ومع تطور مراحل حياتها أطلق عليها وصف الهرم الرابع، وكان لها دورها في “كلثمة” عصر النهضة، ما بين منتصف العشرينات حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين‏،‏ تحمل أعمالها قدسية لا يمكن بسببها تقويم هذه الأعمال، وتمثل قوة شخصيتها وسحر جمال وجهها وأناملها الطالعة من حسن ألف ليلة وليلة جزءا من طقوسها المتميزة‏.‏ نقطة أساسية يتوقف عندها الفنان في عمل أم كلثوم، وانعكست في عمله، هي دخول الآلات الغريبة على التخت الكلثومي، آلات غريبة الصوت والطبع عن الذائقة الموسيقية الشرقية، وهي البيانو الإلكتريك والأكورديون والغيتار الكهربائي والساكسفون، الأمر الذي كما يقول عرابي “شوش على العود وبقية الوتريات.. وإذا كانت أم كلثوم رفضت منذ الثلاثينات أن تغني ألحان محمد عبد الوهاب فلأنها كانت تخشى، رغم عبقريته، من زج صوتها في زحمة الحداثة الآلاتية. وكلنا نعرف أن الزعيم عبد الناصر طلب منها ومن عبد الوهاب، بما يملك عليهما من دالة ومحبة، أن يعملا معا ولو أغنية واحدة، ورغم قبول أم كلثوم ولو على مضض، فقد سوفت في الموضوع سنة كاملة قبل أن توافق على أن تغني “أنت عمري” في العام 1964”. الأنثى الفرعونية يدخل عرابي إذن في عوالم تجمع الفن والطرب والسياسة والتحديث وعصر النهضة، ومن هنا يجيء معرضه المخصص لهذا الغناء والطرب، لذلك فهو عندما يصور أم كلثوم في لوحاته فإنه يستعيد من ذاكرته كل ملامحها وحركاتها وسكناتها وتعبيراتها وتسامح الزهاد وتقطيبة الفراعنة وقوة شخصيتها وسحر جمال وجهها بطهرانيته وطفولته وأنوثته الطاغية التي تذكره ببورتريهات بنات بحري للفنان محمود سعيد‏، يتذكر إيماءاتها وملاحظاتها لأعضاء فرقتها وحتى كراسيهم خاصة كرسي القصبجي حتى بعد رحيله عندما احتفظت بعوده على وجهه داخل حضن الكرسي، وعندما تسقط من ذاكرة الفنان أسعد عرابي بعض اكسسوارات أم كلثوم الرمزية وعناصر صورتها المألوفة، فإنه يفسر ذلك بأنه يترجم مناخها الروحي أكثر من الوصفي‏.‏ ومثلما قام إدوارد سعيد بدراسة شخصية الراقصة كاريوكا، قام عرابي بدراسة شخصية أم كلثوم من جوانب تميزها المختلفة، صورة وصوتا وحضورا مدهشا، ولهذا كانت أعماله تجسيدا لروح كبيرة في عالم الفن، وليست مجرد جسد من خطوط وحركات وألوان، فكانت الروح في هذه العناصر تمنحها إشراقها وأبعادها الفنية العميقة. وهو في أعماله لا يجسد حنيناً إلى الماضي، بقدر ما يتوقف عند رمز من رموز النهضة الثقافية خلال النصف الأول من القرن العشرين، فأم كلثوم هي أحد هذه الرموز الكبيرة التي نفتقدها في عصرنا الحاضر، بعدما تراجعت قاطرة النهضة (وخصوصا الفنية الغنائية) إلى الوراء وخيّمت على الأجواء ظلال الركود والتردي. وفي هذا المعنى فأم كلثوم تمثل إرثاً فنياً للعرب جميعاً. فقد تجاوزت حدود مصر لتسكن في قلوب الملايين من المحيط إلى الخليج، بل هي إرث فني للعالم أجمع من دون مبالغة. هكذا ينظر إليها أسعد عرابي ويعبّر عنها في لوحاته ذات الحجم الكبير التي يغزلها بالذكريات وارتعاشة الفرشاة وضربات من اللون بدت متفاوتة بين النعومة والقوّة في محاولة على ما يبدو لمحاكاة هذا الصوت الآسر الذي شكل وجدان الملايين عبر السنوات. المشهد الأساس في لوحة عرابي، هو الذي تقف فيه أم كلثوم شامخة بمنديلها الشائع الصيت، وبكل تفاصيلها وحركاتها وسكناتها، بينما يصطف أفراد الفرقة من ورائها. لم يكتف عرابي بكل هذه التفاصيل الظاهرة، والمشاهد المباشرة، بل هو يكسب المشهد شيئاً من روحه وخياله وأحلامه وتصوفه أيضاً. تتشكل كل هذه العناصر على خلفية بدت هادئة تماماً، إلا من بعض خربشات هنا وكشطات هناك معطياً المجال كاملاً لأم كلثوم وفرقتها تتحرك عبر مساحة اللوحة كما تشاء. المعرض وصفه البعض بأنه “حفلة جديدة لكوكب الشرق أم كلثوم، تتغنى فيها بكلمات لم نسمعها من قبل؟ كلمات ممزوجة باللون، مختلطة بارتعاشات الفرشاة. تستمر وصلاتها الغنائية عبر مشاهد متدفقة، ينضح كل مشهد منها بآهات الوجد وترانيم العشق”. وأخيرا يتحدث عرابي عن اختياره وتميزه في هذا الإطار فيقول: لست الوحيد الذي يحيي ذكرى أم كلثوم بلوحته، يجمعني هذا الحنين والتقدير مع كثيرين، ولكني قد أكون أقربهم تشكيلياً من هاجسها البرزخي التوليفي، فهي مثل نجيب محفوظ وزكريا تامر وجمال الغيطاني والسعدني وإدريس وسعيد العدوي والجزار، تتجه نجواها الشرقية إلى جمهورها العريض الذي يعيش ما يشبه كفاف يومه، ويمثل أمثال أم كلثوم غذاءه الروحي، وهنا ندرك توافق شتى الطبقات على الالتفاف حول فنها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©