الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أخلاقيات التورّط

أخلاقيات التورّط
28 سبتمبر 2011 16:44
لا يبدو التاريخ، بحسب ما يرى إليه المثقف الأميركي نعوم شومسكي، وقد بدا من هذه اللحظة أو تلك، إنما هو نتاج سلسلة متصلة من الأفعال والمواقف والسلوكات التي قامت بها السلطة، أية سلطة، على هذا النحو أو ذاك. وبحسبه أيضا فإن المهمة الأكثر نُبلا للمثقف في الوضع الراهن للعالم لا يتقف عند تحدي السلطة بشجاعة ونزاهة بل يتجاوز ذلك إلى الربط بين تلك الأحداث والمواقف التي أدّت بمجملها إلى كارثية اللحظة الراهنة بكل ما ينطوي عليه ذلك من موقف نقدي لاذع، غالبا، للسلطة وخطابها ومركزيتها العمياء. في هذه المقالة: مسؤولية المثقفين، التي نشرت لمناسبة مرور عشر سنوات على هجمات الحادي عشر من سبتمبر العام 2001 في “بوسطن ريفيو أف بوكس” واخترنا مقاطع منها هنا تعبر ما أمكن عن روح المقالة الأساسية بلغتها الأم، يقوم شومسكي بتفكيك جوهر الخطاب الذي قام عليه سلوك القيادات الأميركية في العالم ثم في المنطقة العربية وموقفها من الإسلام دينا وإيديولوجيا، ليحدد حجم الأخطاء الكارثية التي تمّ اقترافها بحق الآخرين طيلة نصف قرن مضى من الزمان فأفضى تراكمها إلى ما نراه اليوم من الحدة في التنافر بين شعوب العالم وإيديولوجياته. في ما يلي أبرز ما جاء في مقالة تشومسكي: منذ أنْ لم يعُد في وسعنا أنْ نرى ما يحدث قبالة أعيننا، لا يفاجئنا كثيرا، ربما، ذلك الذي ليس مرئيا عند لحظةٍ هادئةٍ ومغايرة. إننا فحسب شاهد عيان على مثال المثقف المانح للإشارات: على نحو جرى التخطيط له بشكل واضحٍ، يرسل الرئيس أوباما تسعا وسبعين من الجنود المغاوير إلى باكستان في الأول من مايو لتنفيذ اغتيال المشتبه به الأول في الفظائع الإرهابية للحادي عشر من سبتمبر. وعلى الرغم من أن المستهدف بالعملية أعزل ودون حماية ومن الممكن اعتقاله، فقد كان قاتلا ببساطة، فأُغرقَ جسدُه في البحر من دون تشريحٍ للجثة. نُظِر إلى هذا الفعل على أنه “فقط وللضرورة” في الصحافة الليبرالية. سوف لن يكون هناك أثر، مثلما كانت تفعل الإجرامية النازية ـ فالحقيقة التي لم يجرِ إغفالها كانت خارج حدود السلطات الشرعية التي صادقت على العملية غير أنها رفضت الإجراء. وكما نبَّهَنا إيلين سكاري، فحظر الاغتيال في القانون الدولي يعود إلى الإدانة الفعّالة لممارسته من قِبَل ابراهام لينكولن، الذي ندَّد بالمناداة بأن يكون الاغتيال “محرّما دوليا” في العام 1863، وذلك بوصفه ـ أي الاغتيال ـ “انتهاكا لحُرمة” مشهد “الأمم المتحضرة” بالترويع وبما تجدر به من “العلاقة الأشد صرامة”. في العام 1976، كُتب الكثير عن غشٍّ وتحريفٍ أحاطا بالغزو الأميركي لفييتنام. ناقَشْتُ مسؤولية المثقفين، مستعيرا العبارة من مقالة هامة لدوايت ماكدونالد بعد الحرب العالمية الثانية. ومع حلول الذكرى السنوية العاشرة للحادي عشر من سبتمبر، والاستحسان الواسع الانتشار في الولايات المتحدة لاغتيال المشتبه به الأول، يبدو الوقت ملائما للعودة ثانية إلى تللك المسألة. إنما قبل التفكير في مسؤولية المثقفين، هناك ما يجدر بشرحه عن الذين أشرنا إليهم. قضية درايفوس نال مفهوم المثقفين أهمية في الوعي الأخلاقي الحديث مع “بيان المثقفين” 1898 الذي تسبَّب به درايفوس، هذا المُلهم برسالة الاحتجاج المفتوحة لإميل زولا إلى الرئيس الفرنسي، التي شجب فيها معا تلفيق تهمة الخيانة بحق ضابط المدفعية الفرنسي ألفريد درايفوس والتستُّر اللاحق للجيش. نقل وضْعُ درايفوس صورةَ المثقفين بوصفهم مناصرين للعدالة، ومواجهة السلطة بجرأة ونزاهة. إنما بمشقةٍ رأوا طريقهم في ذلك الوقت. والقلّةُ من بين الفئات المتعلمة في التيار الأساسي للحيوية المثقفة، أدانت الدرايفوسيين على نحو لاذع، وبخاصة من قِبَل شخصيات أساسية من بين “أعضاء الأكاديمية الفرنسية الأربعين” المناهضين بشدة للدرايفوسية يكتب ستيفن لوكي. وبالنسبة لموريس باري، الروائي والسياسي والقيادي المناهض للدرايفوسية، فقد كان الدرايفوسيين “فوضويي منصة الدرس”. وبالنسبة لآخر من بين أعضاء الكاديمية المعمّرين هؤلاء، فيرناند بروتنيير فإن كلمة مثقف بالذات تدلّ على “أقصى غرابة الأطوار راديكاليةً في زماننا قصدْتُ غرورَ “الكتّاب التنويريين والعلماء والأساتذة الجامعيين والفلاسفة إلى سلسلة من الرجال من ذوي القدرات الاستثنائية” الذين تجرأوا على “التعامل مع أفكارنا العامة بوصفها حماقة ومؤسساتنا الاجتماعية بوصفها منافية للعقل وتقاليدنا بوصفها ضارّة بالصحة”. إذن، مَنْ هم أولئك المثقفين؟ القلّة التي ألهمها زولا (كان قد حوكم بالسجن بسبب القذف والتشهير ومن ثم الفرار من البلاد)؟ أم أعضاء الأكاديمية؟ تردد رجْع صدى هذا السؤال عبر العصور، إنْ بشكلٍ أو بآخر، واليوم يقدّم إطارا لتحديد: “مسؤولية المثقفين”. العبارة غامضة، فهل تُحيل إلى المسؤولية الأخلاقية للمثقفين بوصفهم بشرا محترمين في وضْعٍ يمكِّنهم من الاستفادة من امتيازهم وحالتهم لتحسين أسباب الحرية والعدالة والرحمة والسلام وسائر الاهتمامات الوجدانية الأخرى؟ أم تُحيل إلى الدور المتوقع منهم لَعِبَه، فيخدم المؤسسات ولا يحطّ من قَدْرِها ويقودها ويبرهن أنها المؤسسات الرسمية؟. المثقفون الألمان جاءت إحدى الإجابات خلال الحرب العالمية الأولى، عندما، بحماسةٍ، اصطف مثقفون بارزون على كل الجوانب في دعم دولهم. في “بيان الثلاثة وتسعين مثقفا” ألمانيا، الصادر عن الشخصيات الرئيسية في أكثر دول العالم تنويريةً، طالبوا الغرب أنْ “ثقوا بنا! آمنوا، أننا سنواصل هذه الحرب بوصفنا أمة متحضرة، على شرف مَنْ هم يعتبرون ميراث غوتة وبيتهوفن وكانْط. ذلك الميراث هو المقدس مثلما هي مقدسة مواقدها ـ أي الأمة المتحضرة ـ ومنازلها”. نظراؤهم على الجانب الآخر من الخنادق المثقفة ماثَلوهم الحماسة تجاه القضية النبيلة، لكنهم مضوا أبعد في تملُّق الذات. لقد أعلنوا في الـ “نيو ريببلك” أن “العمل الفعّال والحاسم لمصلحة الحرب قد أُنْجِزَ من قِبَل... تلك الفئة التي ينبغي، بشمولية إنما بتساهل، وصفها على أنها فئةُ (مثقفين)”. فلقد آمن هؤلاء التقدميّون أنهم كانوا تلك الضمانة التي أدخلت الولايات المتحدة إلى الحرب “تحت تأثير رأي أخلاقي أخذ في الاتساع بعد أقصى تداول من خلال أكثر أعضاء المجتمع رصانة”. كان هؤلاء، في الحقيقة، ضحايا تدابير وزارة الإعلام البريطانية التي “حاولت سرّا فرض هذه الفكرة في أغلب العالم” إلا أن تفكير المثقفين الأميركيين، أساسا، هو الذي ساعد على انعطاف بلد مسالم إلى حمى الحرب. كان جون ديوي قد دُمغَ بـ”الدرس النفسي والتربوي العظيم للحرب”، الذي أثبت أن البشر، وبدقة أكثر “الرجال الأذكياء في المجتمع” بوسعهم تولّي الشؤون الإنسانية وإدارتها... على نحو مقصود وذكي” لتحقيق النهايات المقصودة والباهرة من خلال تحديد هذه الشؤون. لم يتْبع كل شخص المجرى بإذعانٍ كبيرٍ، بالطبع. إن شخصيات فذّة من مثل بيرتراند رسل ويوجين دبس وروزا لوكسمبورغ ووكارل ليبكنخت كانوا، مثل زولا، قد حوكموا بالسجن. عوقِب دبس بقسوة استثنائية، مدة عشرة أعوام، بسبب قضية رفعها على “الحرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان” للرئيس ويلسون. لقد رفض ويلسون العفو عنه بعدما الحرب انتهت، مع ذلك رضخ هاردينغ (وورن هاردينغ، الرئيس التاسع والعشرون للولايات المتحدة، جمهوري من أوهايو) في آخر الأمر. وعوقب البعض مثل ثورشتاين فيلبن، إنما عوملوا بصرامة أقلّ؛ فقد فُصِل فيبلن من موقعه في إدارة الأغذية بعد أنْ أعدّ تقريرا تعرّض فيه للنقص في عدد العمّال المزارعين الذي أمكن التغلّب عليه ـ أي النقص ـ بتصفية الاضطهاد الوحشي الذي مارسه ويلسون على هؤلاء العمّال، وعلى وجه التحديد، عمال الاتحاد الدولي. وأُبعدَ رادولف بورن من الصحف التقدمية لتوجيهه النقد لـ”عصبة الأمم الامبريالية المطبوعة على حبّ الخير” ومساعيها الرفيعة. الترهيب والترغيب إن نمطَ الترغيب والترهيب مألوفٌ طوال التاريخ: فأولئك الذين اصطفوا في خدمة الدولة قد هللوا لها في العادة عبر المجتمع المثقف عموما، وهؤلاء الذين رفضوا الاصطفاف في خدمة الدولة قد عوقبوا. وهكذا، ففي الماضي، كان ويلسون والمثقفون التقدميون، الذين عرضوا عليه خدماته، قد شُرّفوا على نحو عظيم، إنما ليس ديبس. ولوكسمبورغ وليبكنخت اللذين قتِلا، باتا بطليْ التيّار المثقف بشقِّ الأنفُس، فيما واصل رسل إداناته اللاذعة حتى بعد موته، ولا يزال كذلك في سِيَرِه الراهنة. منذ أنْ اتجهت السُلطة إلى أن تسود، اعتُبر المثقفون الذين خدموا حكوماتهم مسؤولون. في السبعينات، ميّز علماء بارزون بين صنفين أكثر صراحةً. في درس العام 1975، أزمة الديمقراطية، صُنِّفتْ أطوارُ الغرابة الراديكالية لبروتنيير على أنها “مثقفو القيمة ـ الموجَّهة” الذين طرحوا “تحديا على الحكومات الديمقراطية هو، بشكلٍ مُحتملٍ على الأقلّ، هو تحدٍّ جادّ يُشبه ذلك الذي طرحوه في الماضي من خلال زُمرة الأرستقراطيين والحركات الفاشية والأحزاب الشيوعية”. ومن بين آثامٍ أخرى، ثمة كائناتٌ أخرى، منها أولئك “الذين كرّسوا أنفسهم للانتقاص من القيادة وتحدي السلطة” والذين تحدوا مسؤولية المؤسسات من أجل “تلقين الشباب” حتى أنّ البعض منهم قد غاص إلى أعماق التساؤل عن نُبْل أهداف الحرب، مثلما فعل رادولف بورن. هذا الانتقاد بقسوة من قِبَل المهرطقين الذين ساءلوا السلطة والنظام القائم قد جرى التنازل عنه من قِبَل علماء اللجنة الثلاثية الدولية الليبرالية؛ أولئك الذين اجتذبتهم إدارة كارتر على نحو واسع من طبقاتهم الاجتماعية. التهذيب والتغيير إذا كانت مسؤولية المثقفين تشير إلى مسؤوليتهم الأخلاقية كبشر مهذّبين في موقعٍ يمكِّنهم من استخدام امتيازهم ووضعهم لتحسين شروط الحرية والعدالة والرحمة كذلك للتحدث دون خوف ليس عن انتهاكات الأعداء، إنما، أكثر بكثير وبشكل ملحوظ، عن الجرائم التي نحن متورّطون بها وبالإمكان تحسينها أو الانتهاء منها إذا نحن اخترنا الإجابة عن سؤال: كيف سوف نفكر في الحادي عشر من سبتمبر؟. إنّ نظرية: هجمات الحادي عشر من سبتمبر “قد غيّرت العالم” هي نظرية مستمرة إلى حدٍّ بعيد وعلى نحو من الممكن تفهّمه. لأحداث ذلك النهار النتائج الأخطر بالتأكيد، محليا ودوليا. كان أحدهُم قد قاد الرئيس جورج دبليو بوش إلى إعلان حرب رونالد ريغان على الإرهاب. الأول منهما قد “اختفى” فعليا، باستعارته للعبارة من قتلة أميركا اللاتينية ومعذِّبيها المفضّلين لدينا. وذلك بصورة مُحتملة، لأن تلك النتائج لم تتلاءم جيدا مع صورنا الذاتية الممتازة. كانت النتيجة الأخرى غزو أفغانستان ومن ثم العراق؛ فالكثير من التدخلات العسكرية الراهنة في بلدان أخرى عديدة في المنطقة والتهديدات المنتظمة بالهجوم على إيران (“الخيارات كلها مفتوحة” وفقا للعبارة القياسية). كانت الأكلاف، بكل أبعادها، باهظةً. وكانت الاقتراحات على العكس من السؤال البديهي الذي لم يُسأل طوال المرة الأولى: هل ثمة بديل هناك؟. لاحظ عدد من المحللين أن بن لادن قد حقق نجاحات ضخمة في حربه ضد الولايات المتحدة. “لقد أثبت على نحوٍ متكررٍ، أنّ الطريقة الوحيدة لإكراه الولايات المتحدة على الخروج من العالم الإسلامي وإيقاع الهزيمة بأحذيتها العسكرية كانت بجرّ الأميركان إلى سلسلة من الحروب الصغيرة لكنْ غالية الثمن، تلك التي في النهاية تؤدي إلى إفلاسهم” يكتب الصحفي إيريك مارغوليس. باغتت الولايات المتحدة جيدا، تحت حكم جورج دبليو بوش ومن ثم باراك أوباما، مكيدةَ بن لادن... الإنفاق والولع الشديد بالديْن العسكريين المتضخميْن على نحو غريب... هما ميراث أعظم ضررا بكثير من الرجل نفسه الذي اعتقد أنّ بوسعه أن يوقع الهزيمة بالولايات المتحدة. قدّر تقرير “أكلاف مشروع الحرب” الصادر عن معهد واتسون في جامعة براون أن الفاتورة النهائية سوف تكون 3,2 تريليون ولغاية 4 تريليونات مليون دولار أميركي. تماما، هذا الإنجاز المؤثر (تحقق) عن طريق بن لادن. كانت واشنطن ما تزال منكبّة على مباغتة مكيدة بن لادن الذي كان واضحا أكثر من أي وقت. يكتب مايكل سكوير، المحلل المتقاعد في (السي آي إيه) والذي كان مسؤولا عن تعقُّب بن لادن خلال الأعوام من 1996 ولغاية 1999: “تحرّى بن لادن الدقّة في إخبار أميركا بأسباب شنّ الحرب علينا” إن “قائد القاعدة”، يتابع سكوير “قد خرج كي يبدّل بتطرُّف سياسات أميركا والغرب تجاه العالم الإسلامي”. ومثلما يشرح سكوير فقد نجح بن لادن إلى حدّ كبير: “أكملت جيوش الولايات المتحدة وسياساتها راديكالية العالم الإسلامي، لقد حاول أسامة بن لادن بعض الشيء أن يُنجز ما هو أساسي وجوهري، لكن النجاح لم يكتمل منذ فترة مبكّرة من التسعينات، وكنتيجة لذلك، اعتقد أنه كان من الإنصاف الإبقاء على بن لادن حليفا لا غنى عنه” وإبقاؤه ما يزال قابلا للجدل كثيرا حتى بعد موته. وثمة سبب للاعتقاد بأن الحركة الجهادية كان من الممكن أنْ تتجزأ وتضعف مكانتها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، هي ـ أي الهجمات ـ التي انتُقِدتْ بقسوة داخل الحركة، علاوة على أنها “جريمة ضد الانسانية” مثلما سُمِّيَتْ على نحو يطابق الحقيقة، حيث كان ممكنا مقاربتها كجريمة، من خلال عملية دولية كي يُلقى القبض على المشتبه بهم الرئيسيين مثلما كان متوقَّعا. وكان هذا ما قد تمَّ إدراكه من خلال النتائج المباشرة التي تلت الهجمات، لكن حتى هذه الفكرة لم تُؤخذ بعين الاعتبار من قِبَل صانعي القرار في الحكومة. بدا أنه لم يكن هناك اهتمام قد مُنح لعرض طالبان غير النهائي ـ كم كان العرض جادّا، لا نستطيع أن نعرف – لتقديم قادة القاعدة في مقابل صفقة قضائية. في كل مرة أستشهد بما خلُص إليه روبرت فيسكمن أن الجريمة الفظيعة للحادي عشر من سبتمبر التي ارتكِبتْ “بوحشية مولعة بالأذى والترويع” هي إصدار حُكمٍ دقيق. حتى أن الجرائم كان من الممكن أنْ تكون أسوأ. افترض أنّ الرحلة 93، التي أُسقِطت طائرتها من قِبَل ركّاب شجعان في بنسلفانيا، قد فجَّرت البيت الأبيض، وقتلت الرئيس. افترض أنّ القَتَلة في الجريمة الذين خططوا ونفّذوا قد استغلوا طاغيةً عسكريا قتل الآلاف وعذّب عشرات الآلاف. افترض أن طاغيةً جديدا اعترف به قانونيا بدعم من القتلة ومركز الإرهاب الدولي قد ساعد، في أمكنة أخرى من العالم، على استغلال دول تعذيبٍ وإرهابٍ شبيهةٍ، ومثل غطاء جليدي من سكّر وبيض وحليب فوق قطعة من الحلوى، قد أقنعوا فريقا من الاقتصاديين ـ لنسَّمِهم “فتية قندهار” ـ الذين قادوا الاقتصاد على نحو سريع إلى أسوأ انخفاض له في تاريخه. ذلك من غير تعقيد، سوف يكون أكثر سوءا من الحادي عشر من سبتمبر. تجربة تشيللي ومثلما نعلم جميعا، هذا ليس اختبارٌ لفكرة، فقد حدث. وأنا، هنا، أشير بالطبع إلى ما يُعرف في أميركا اللاتينية غالبا بـ”الحادي عشر من سبتمبر الأول”، الحادي عشر من سبتمبر العام 1973، حين نجحت الولايات المتحدة بمساعيها المكثّفة في إسقاط الحكومة الديمقراطية لسلفادور اللينديفي تشيلي بانقلاب عسكري أدّى إلى تعيين النظام المخزي للجنرال بينوشيه في الحكم. حيث نصّب الطاغية بالتالي “فتية شيكاغو” أولئك الاقتصاديين الذين تدرّبوا في جامعة شيكاغو على إعادة هيكلة اقتصاد تشيلي. تأمّلْ التخريب الاقتصادي والتعذيب والمُختطفين وتضاعُف أعداد القتلى، وسوف ترى كم كان مخرِّبا الحادي عشر من سبتمبر الأول. امتيازٌ يُثمرُ فُرَصا، وفرصةٌ تهَبُ المسؤوليات. كان الهدف من الانقلاب، بكلمات إدارة نيكسون، هو قتْل “الفيروس” الذي يمكنه أنْ يشجِّع كل هؤلاء”الغرباء (الذين هم) بعيدون عن إكراهاتنا من خلال تولي أمر السلطة على مواردهم وأكثر من ذلك بهدف ملاحقة التطوّر المستقل بموازاة الخطوط التي لا رغبة فيها من قِبَل واشنطن. كانت نتيجة مجلس الأمن الوطني الخاص بنيكسون التي في خلفية هذا القرار أنه إنْ لم تستطع الولايات المتحدة إخضاع أميركا اللاتينية للرقابة، فإنه ليس من المتوقع أنْ تحقق نجاح النظام في أي مكان آخر في العالم. ومصداقية واشنطن، كما وضعها هنري كيسنجر، سوف تتقوّض. ليس الحادي عشر من سبتمبر الأول شبيها بالثاني، فهو لم يغيّر العالم. فهو لم يكن “شيئا (يُذكر قياسا) بنتيجته العظيمة جدا” بهذا طمأن كيسنجر قائده بعد عدد من الأيام التالية. والحكم من خلال الكيفية التي يبدو عليها الأمر في التاريخ المألوف هي بكلمات يمكن ان تكون مغلوطة بصعوبة، مع أنّ الناجين يمكن لهم أن يروا المسألة على نحو مختلف. أحداث النتيجة الفقيرة هذه لم تقتصر على الفريق العسكري الذي قضى على الديمقراطية التشيلية وكذلك على توجيه حركة الترويع التي تلت، فمثلما ناقشنا قُبيْل الآن، كان الحادي عشر من سبتمبر الأول دورا واحدا فقط في الدراما التي بدأت العام 1962 عندما غيَّر كينيدي من مهمة الجيوش الأميركية اللاتينية إلى “الأمن الداخلي”، والعاقبة المدمرّة هي أيضا لنتيجة فقيرة، فالنموذج المألوف هو حين يكون التاريخ قد تمّ إخضاعه للرقابة بواسطة مثقفين ذوي مسؤولية. درايفوس.. نموذج للانقسام الثقافي تعود قضية درايفوس إلى القرن التاسع عشر في فرنسا حينما كانت تحت حكم يميني. يومها وردت الى القيادة العسكرية رسالة غير موقعة مرفقة بوثيقة تقول الرسالة ان الضابط اليهودي درايفوس بعث بها الى القيادة الألمانية ويفضح فيها أسراراً عسكرية فرنسية خطيرة. وقد رأت المحكمة ان الخطّ الذي كتب الوثيقة هو خط درايفوس فاعتقل الضابط وحوكم لتنقسم فرنسا، في شأنه، بين يسار يدافع عنه، ويمين يدينه. في النهاية، خلال تلك المرحلة الأولى حكم على درايفوس ونفي الى “جزيرة الشيطان”. ولكن في العام 1896 تبين لضابط الاستخبارات الكولونيل بيكار، ان كاتب الوثيقة ليس درايفوس بل استرهازي، فطلب إعادة المحاكمة. وهنا بدأت حملة تغذّيها مشاعر العداء للسامية وشتى ضروب التهديد والوعيد، من اجل منع إعادة المحاكمة، وزاد انقسام فرنسا. وراح الحزب الاشتراكي المعارض ينظم حملات شارك فيها عدد كبير من المثقفين. وحين جرت محاكمة استرهازي اخيراً، عمد المجلس الحربي الى تبرئته على رغم كل القرائن الدامغة، وهنا كان تدخل الأديب والمفكر إميل زولا، عبر رسالته الشهيرة “إني أتهم” التي سرعان ما صارت عنواناً على دور المثقف. تشومسكي.. يساري الفكر الأميركي أفرام نعوم تشومسكي، من مواليد 7 ديسمبر 1928 فيلادلفيا، بنسلفانيا، هو أستاذ جامعي مدى الحياة في اللغويات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وهو صاحب نظرية النحو التوليدي، والتي كثيراً ما تعتبر أهم إسهام في مجال اللغويات النظرية في القرن العشرين. وقد أسهم كذلك في إشعال شرارة الثورة الإدراكية في علم النفس من خلال مراجعته للسلوك الفعلي لـ ب. ف. سكينر، والذي تحدى المقاربة السلوكية لدراسة العقل واللغة والتي كانت سائدة في الخمسينات. مقاربته الطبيعية لدراسة اللغة أثّرت كذلك على فلسفة اللغة والعقل. ويعود إليه كذلك فضل تأسيس ما أصبح يُعرف بـ “تراتب تشومسكي”، وهي تصنيف للغات الشكلية حسب قدرتها التوليدية. بالإضافة إلى عمله في اللغويات، فتشومسكي معروف على نطاق واسع كناشط سياسي، وبانتقاده للسياسة الخارجية للولايات المتحدة والحكومات الأخرى. ويصف تشومسكي نفسه بأنه اشتراكي تحرري، وكمتعاطف مع التضامنية اللاسلطوية (وهو عضو في نقابة عمال العالم الصناعيين) وكثيراً ما يُعتبر منظراً رئيسياً للجناح اليساري في السياسة الأمريكية. وحسب فهرس مراجع الفنون والإنسانيات، بين 1980 و1992 ذكر اسم شومسكي كمرجع أكثر من أي شخص آخر حي، وكثامن شخص على الإطلاق. نعوم تشومسكي ترجمة: جهاد هديب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©