السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كلما ضاق الوطن اتسع الحبس!

كلما ضاق الوطن اتسع الحبس!
22 سبتمبر 2011 02:00
تمثل قصائد عبدالكريم الرازحي (تعز 1952) حلقة في سلسلة الشعر الساخر الحديث المتصل بثيمات جرى تأشيرها من قبل، منها التمرد والافتراق عن الجماعة ونقد السلطة والمؤسسات، بمزيج من الصور المؤثرة والدالة ذات المنحى التهكمي العميق الذي يصح وصفه بأنه سخرية سوداء. ويعرف ذلك عن نثر الرازحي أيضا في أعمال شائعة وشعبية له مثل “قبيلي يبحث عن حزب” وفي قصائد لها في الذاكرة ذلك الموقع المميز بما تلامس من موضوعات بأسلوب تهكمي. بينما تغرق صنعاء ـ حيث يقيم الشاعر ـ في ظلام متواصل بسبب انقطاع الكهرباء عنها ساعات طويلة، يلتقط الرازحي هذه الواقعة اليومية؛ ليشير من خلالها لمعاناة إنسانية مكتوب على الفرد في عالمنا أن يتعايش معها. في مديح الظلام وبدل ان يكتب شأن السياسيين والصحافيين عن الظاهرة الظلامية هذه، كتب نصا أسماه “في مدح الظلام وذم الكهرباء” تعطي مقاطعه ال35 القصيرة أو جمله الشعرية إحساسا بأنه يختار الظلام ليرافق الإنسان، وعلى الإنسان أن يرى فيه حياته ومراياه وعشقه ومعرفته متهكما وساخرا، يذكرنا بنصوص عالجناها هنا للماغوط في مفارقاته الطبقية، يملكون المشانق ونملك الأعناق، والرصافي في الحرية: يا قوم لا تتكلموا، والجواهري في تنويمة الجياع: نامي جياع الشعب نامي، فيقدم ما يشبه الحِكم عن فضيلة الظلام الممتدَح ظاهريا فيقول عنه: “في البدء كان الظلام/ وكان الإنسان فراشة مضيئة/ وبعد اختراع الكهرباء/ أصبح الإنسان حشرة عمياء”. فكأنه سارد مفارق لمرويه، لكنه يحافظ على سياق السخرية بالتزهيد بالنور والرضا بالظلام الذي يهيمن؛ فلا يملك الفرد له ردا. في الظلام وعبر جمل شعرية قصيرة يجد الرازحي ما يسلي الناس عن النور الذي تمنحه الكهرباء، وهي في واقعها تعلات صاغها بذكاء في بنيتين: ظاهرية أو سطحية تنقل قناعة مموهة بأن للظلام فضائل، على الناس الرضا بها والاستمتاع بما تمنحه من أجواء للتفكير والتأمل، فيما تكون البنية العميقة والمسكوت عنه غير المذكور بلفظه هو المقصود الدلالي الحاصل أو النهائي للقصيدة، ولا يخفى أنه التنبيه على الحرمان والعناء اللذين يسببهما العيش في الظلام ساعات طويلة. ولإنجاز ذلك يتوسل الشاعر بقراءاته من الحِكم القديمة في الدعوة للتأمل والتفكير في الظلمة، وينحو صوب الأدبيات الصوفية ممازحا ليجد أن (الضوء حجاب) بينما الظلام مرآة نرى فيها نفوسنا. كما استعار من الكتب المقدسة قولها: في البدء؛ لينزاح عنه ويكمل بقوله: كان الظلام، ويتضح أن اية قراءة غير سياقية ـ لا تضع النص في سياق الأزمة اليومية، والتعبير عنها بالمساخرة الشعرية ـ لن تستدل على مرمى النص، ولا تتعرف على شعريته، فيرى قارئ محدود الثقافة أن النص تمجيد للظلام وهجاء للضوء، وهو ما لايراد دلاليا أسوة بتلك النصوص التي قاربت موضوعها انتقاديا، فتحدثت عما يفكر به الضد، كالقول بأن الفوز للنائمين في قصيدة الرصافي: ياقوم لا تتكلموا/ إن الكلام محرمُ/ ناموا ولا تستيقظوا/ ما فاز إلا النوّمُ. وكمساخرات الماغوط في قصائده عن بردى وسلمية وباب توما. مزايا أسلوبية يمكن للقراءة النقدية ان تؤشر ملاحظتين في أسلوب الرازحي تحف بسياق قصائده المعروفة بجرأة تناولها للموضوعات، وانغماسها في اليومي والمعيش ما يقربها. وهذه هي الملاحظة الثانية من الشعبوية بالمعنى الفكري والتعبير الفني، فهو يختار مسميات دارجة، ويقارب موضوعات ساخنة وحياتية فتجتذب قراءه لواقعيتها الواضحة، وحفاظها على خصوصيتها في المعالجة، سواء أجاءت وزنية ومقفاة أحيانا، أو بطريقة قصيدة النثر، كما في مدح الكهرباء وفي نصوصه القصيرة الأخرى التي منها قصيدته “مواقف الرازحي”، التي اخترناها هنا لما اشتملت عليه من تهكم مزدوج: من العسف والقمع وازدراء الحريات، وكذلك من الخطاب الصوفي لا بعناصره ومراميه بل لما ابتذله الشعراء والكتاب في مباراته والاستعارة منه، وأذكر أن للرازحي تصريحا بمثل ذلك النفور من تقليد المرجع الصوفي لا سيما مواقف محمد بن عبدالجبار النفري ومخاطباته التي افتتح أدونيس التناص معها، وعرّف بها؛ فاقتبس مقولته “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” في مطلع ديوانه “كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل” 1965، فشاعت لسببين رئيسين في ظني هما: مجيؤها في سياق البحث عن مراجع مغايرة للقصيدة الحديثة، ومنها ما ضمته كتب المتصوفة وأشعارهم وأخبارهم من تجاوز، ولسمة التمرد والرفض والإشراقية التي تميزت بها الأدبيات الصوفية، وهكذا صارت للشعراء المعاصرين ـ والحداثيين منهم خاصة ـ مواقفهم ومخاطباتهم واستعاراتهم من الشذرات المشعة بالإشراقات الروحية في كتابات المتصوفة، وتوهج الصور والتراكيب اللغوية فيها.. حتى صارت تقليدا فجاً مكررا ومفرغا من الدلالة؛ لأنه اتباع واحتذاء غير نابع من حاجة روحية أو احتراقات ومكابدات جوانية، تقرّب أصحابها من الخطاب الصوفي الذي تعرض للاستهلاك مرتين: من الشعراء التقليديين فترة الإحياء والنهضة بالاقتصار على الغزل والفناء في المحبوب، ومن شعراء الحداثة على اختلاف مراحلها؛ لأنهم رحّلوا مصطلحات الصوفية ومفاهيمها، ولافتاتهم العامة التي جرى انتزاعها من سياقها؛ لتغدو ثورية ووجودية بحسب إيديولوجية مستخدمها. وصارت معاناة أعلامها من الثوار والشعراء ومصائرهم مادة للقصائد والأعمال الأدبية والمسرحيات.. التوقيف والزنزانة يضع الرازحي لقبه في عنوان القصيدة مكايدة ومناكفة للمرجع، فإذا كانت للنفري مواقفه، فالرازحي له هذه المواقف. لكن مواقف الشاعر المعاصر لا تنفك عن اللحظة القدرية التي صادف أن يعيشها، فهي تتحدث مكانيا عن (مواقف) بالمعنى المتداول عصريا حيث جرى تعديل دلالي على الكلمة لتشير إلى الأمكنة التي يوقف فيها الناس وتُحجر حريتهم. وهذا ما سترينا إياه المواقف الثمانية القصيرة التي تتألف منها القصيدة، والتي جعل لكل منها عنوانا أو موقفا، ستؤلف عند ترتيبها تدرجا متصلاً من البداية حتى النهاية لسيرورة اعتقال او تعسف يمر به المتحدث في النص، وسنفترض ذلك مستدلين بأدلة لسانية في القصيدة التي تبدأ بموقف التوقيف في قسم الشرطة، ثم التحقيق، فالتعذيب، ثم التحرير والحرية كمطلبين للمعتقل يجري التهكم منهما، وصولا إلى القلعة ـ اسم السجن الذي يذكر الشاعر في ملاحظة ختامية انه دخله مرتين: الاولى لمشاركته في مظاهرة والثانية لأنه رفض المشاركة في مظاهرة! ـ ويأتي موقف الحبس لتنتهي المواقف بموقف الزنزانة التي تتسع لجسده بعد أن ضاق به الوطن!، ولكن المتحدث يقول له إنه أصبح الآن حرا داخلها؛ لأن الحرية خارجها قيد!. ذلك التدرج المكاني من التوقيف حتى الزنزانة يسرد رحلة المعذب في أيدي سجانيه وجلاديه، وبديلا عن المحاورة الإشراقية التي تشع من مواقف النفري وتفيض على الروح، يجد الشاعر من يقول له بعد ان يوقفه في تلك المحابس إنه سيصبح حرا؛ لأن الحرية خارج السجن وهمٌ. قام الرازحي إذن بمكايدة مرجعه ـ مواقف النفري ـ وأقحمه في التوقيف الذي تعرض له، وعرض المقولات التعسفية التي يبرر بها الجلادون والسجانون حجب حرية ضحاياهم. فالشرطة في خدمتي: يقول له الصوت المتعالي الذي يرسل له تلك المقولات، والهراوة لغتي، ويحذره من الاقتراب من باب الحرية؛ فكل الأبواب ستؤدي لا إلى روما بل إلى (سجن القلعة) ويقول له وهو داخله: كلما ضاق الوطن اتسع الحبس، مناورا وتفكها مع مقولة النفري: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وفي توسع الحبس ما يشبه التورية؛ فالمقصود أن المحابس هي التي تتسع بينما الوطن يضيق على الناس، ويمكن استدلال معنى آخر يقودنا إليه أسلوب الشرط الذي بنيت به العبارة، فكلما ضاق الوطن واشتد جحيمه اتسعت السجون؛ لتستوعب أهله المضطهدين. وفي الحبس يكون للشاعر (كامل الحرية في اختيار الزنزانة) فقد صار حرا داخل الموقف، حريته في اختيار الزنزانة التي تناسبه ليكون نزيلها، فالحرية ـ يقول له ـ قيد! إيقاعية النص خدمت دلالته، فقد أفاد الشاعر من عبارة النفري الافتتاحية في مواقفه ليجعلها مفتاح مواقفه، وكررها بانتظام في كل موقف، وحافظ على التوازن الإيقاعي بجعل كل موقف من بيتين فقط: تبدأ بـ(أوقفني في.. وقال لي) وتتكرر في الموقف التالي. أما الموقف الوحيد الذي زاد عن بيتين فهو الأخير بإضافة بيت واحد، يبلغ به الشاعر ذروة المفارقة التي تسم شعره بقوله بعد أن ألقاه في الزنزانة: أنت الآن حر! مواقف الرازحي 1 موقف التوقيف أوقفني في قسم الشرطة. وقال لي: الشرطة في خدمتي 2 موقف التحقيق أوقفني في غرفة التحقيق. وقال لي: الهراوة لغتي 3 موقف التعذيب أوقفني على حجر الكهرباء .وقال لي: لماذا كل هذا الظلام في الشوارع؟ 4 موقف التحرير أوقفتي في (ساحة التحرير). وقال لي: إياك والاقتراب من (باب الحرية)! 5 موقف الحرية أوقفني في (باب الحرية). وقال لي: كل الأبواب تؤدي إلى (سجن القلعة). 6 موقف القلعة أوقفني في بوّابة القلعة. وقال لي: كلما ضاق الوطن اتسع الحبس. 7 موقف الحبس أوقفني في باب الحبس. وقال لي: لك كامل الحرية في اختيار الزنزانة. 8 موقف الزنزانة أوقفني في باب الزنزانة. وقال لي: الحرية قيد وأنت الآن حر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©