الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بؤس الكاتب ويقين المكتوب

بؤس الكاتب ويقين المكتوب
22 سبتمبر 2011 02:02
رحل الروائي خيري شلبي بصمت في وقت أصبح فيه خبر الموت عادياً حتى بات يطغى خبر الموت على أي أخبار أخرى. رحل صاحب رواية “وكالة عطية” و”الأوباش” و”السنيورة” وكاتب القصة والمسرحية والنقد المسرحي. رحل بينما كان يستعد لكتابة مقاله الأسبوعي في مجلة الإذاعة والتلفزيون التي داوم على كتابتها لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً. ولعل المفارقة الغريبة أن نهايته توافقت مع انتهائي قبل أيام من قراءة قصص مجموعته “قدّاس الشيخ رضوان” حيث يروي في قصة الصفحة الثانية حكاية علاقته الحميمة مع ذلك الانضباط في كتابة مقاله الأسبوعي في تلك المجلة. يستخدم الكاتب ضمير المتكلم الحاضر في سرد تلك الحكاية التي تبدأ مع حادثة لقائه بأصدقائه القدامى من غير موعد أو ترتيب، وأثناء اللقاء يتذكر فجأة أنه لم يكتب ذلك المقال فيعتذر من الحاضرين محاولا الانسحاب من الجلسة، لكن أصدقاءه يأخذون بالسخرية منه بحجة أن لا أحد في مصر بات يقرأ، وأن انشغاله بالكتابة كان على حساب عائلته ودون جدوى تذكر. يغادر بطل القصة المكان وهو في بلبلة من أمره “كنت ساخطا على نفسي وعلى الرفاق فإذا بالسخط يمتد لينسحب على الكتابة نفسها فعلاً لقد نجحوا في تكسير مجاديفي، لقد اقتنعت بكل كلمة قيلت سيما وقد اتسمت كل الكلمات بالتلقائية والاندفاع العاطفي. في تلك اللحظة كرهت هذه الكتابة، احتقرت أن أكون كاتباً في زمن لا قيمة فيه لأي قيمة على إطلاقها”. يذهب البطل إلى مطعم فيجد كومة من المجلات المرتجعة من مجلته ومجلات أخرى ما يؤدي إلى شعوره بالانقباض، لكنه بعد أن يجلس لتناول طعامه يشاهد رجلاً مجاوراً يقرأ بشغف زاويته المنشورة على الورقة التي لفت بها أقراص طعميته، وعندما ينتهي من الصفحة الأولى يأخذ بالبحث عن بقية المقال في الصفحة الثانية، فيسارع هو في تقديم تلك الصفحة التي كانت تحت أقراص طعميته، ما يعيد له شعوره بجدوى الكتابة، والثقة في وصول ما يكتبه من أفكار إلى الناس “تراقصت جميع أطرافي وأنا أتابع الرجل كأنني عثرت على كنز ثمين يخصني وحدي وأخشى ضياعه”. إن هذا الكنز الثمين للكاتب هو الذي ظل وفياً له حتى لحظة موته التي جاءت، وهو يواصل تلك المهمة بشغف وإيمان وصدق، يعبر عن توحد الكاتب مع الكلمة وجوداً ورسالة وقيمة تغني حياته وحياة الآخرين. الرواية أولاً تلعب عتبات النص أو ما يعرف بهوامش النص من عناوين ومقدمات وتصميم غلاف واستشهادات دورا مهما في عملية التلقي، كونها تشكل مفاتيح النص وبواباته التي يمكن أن نطل منها على عالم النص، الأمر الذي دفع بالمناهج النقدية الحديثة إلى إعادة الاعتبار لها بوصفها علامات دالة تؤسس لعلاقة المتلقي مع العمل الذي تحيل عليه، كما هو يحيل عليها. من هنا فإن العنوان الرئيس والإشارة إلى جنس العمل الأدبي تتحدد وظيفتها في عملية توجيه القراءة والتأثير في عملية التلقي، لكن الغريب أن تكون الإشارة تحمل دلالة مخالفة لجنس العمل المقدم، كما هو الحال في العمل الأخير للروائي والكاتب المصري خيري شلبي، فقد كتب على غلاف العمل أنه رواية، في حين أنه عبارة عن مجموعة قصص قصيرة تختلف من حيث الطول والقصر فيما بينها. وهنا يكون السؤال لماذا لجأت الجهة الناشرة للكتاب إلى هذا العمل دون أن تخشى افتضاح الأمر بالنسبة للقارئ.. فهل هي لا تستطيع التمييز بين القصة القصيرة والرواية، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي كتبه الروائي خيري شلبي على مخطوطة الكتاب عند تقديمه للنشر؟ مهما كان مصدر الخطأ فإنه خطأ مقصود تقف وراءه غايات معروفة، إذ بعد أن باتت الرواية تتمتع بجماهيرية ملحوظة جعلتها تتسيد المشهد الأدبي الراهن، وتلقى إقبالا من القارئ العربي أرادت جهة النشر أن تقوم بتزوير جنس العمل لأهداف تتعلق بالتسويق من قبل الجهة الناشرة. وبقدر ما يشير هذا العمل إلى ما يعاني منه واقع النشر من مشاكل تحتاج إلى موضوع خاص لمناقشتها، فإنه يكشف عن الوضع الذي انتهت إليه القصة القصيرة بعد موجة الانتشار الواسعة التي حققتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بصورة خاصة، على خلاف ما كانت عليه الرواية باستثناء أعمال الروائيين الكبار. ولعل هذا التحول في مزاج القارئ هو ما يفسر ظاهرة تحول عدد لا بأس به من الشعراء إلى الكتابة الروائية. القصة الواقعية تضم مجموعة خيري شلبي ثماني قصص أطولها هي قصة “قدّاس الشيخ رضوان” التي حملت المجموعة عنوانها، والتي افتتح شلبي المجموعة بها. وسيلاحظ القارئ أن اختيار هذا العنوان ليكون عنوانا رئيسا للمجموعة يتجاوز كونها أطول قصص المجموعة وأولها، إلى ما ينطوي عليه العنوان في بنيته الدلالية من مفارقة، فالقداس هو طقس كنسي خاص بالمسيحيين، والشيخ لقب يطلق على رجل الدين الإسلامي، ما يجعل التداخل في بنية العنوان يحمل بعداً رمزياً وإيحائياً يقصد منه الدلالة على التمازج والانسجام الحاصل في حياة المجتمع الذي تتحدث عنه القصة الأولى للدلالة على حالة التعايش والتفاعل التي يعيشها سكان الريف المصري من المسلمين والمسيحيين، إضافة إلى ما تحفل به حياة تلك القرية من مفارقات وغرائب وتحولات قلبت حياة القرية وسكانها رأسا على عقب إثر الفورة النفطية وتوجه العمالة المصرية للعمل في دول الخليج. تتميز شخصيات القصة بالطيبة والبساطة والإيمان دون تعصب وفي مقدمتهم الشيخ رضوان الذي كان الجميع ينادونه بهذا اللقب دون أن يكون شيخاً، ودون أن يعرف أحد متى دعي به. تنطوي تلك الشخصية على قناعة ومرح وطيبة تجعل الجميع يتقربون منه حتى تحول إلى فاكهة بشرية، إضافة إلى صفات أنثوية في الحديث تجعل النساء لا تشعر بالحرج من مجالسته، وتجعله يعرف أسرار كل البيوت. تتسم شخصيات بالتحول والتبدل في صفاتها وسلوكها وعلاقتها بالعالم، إذ هي سرعان ما تنخرط في حياة الرفاهية وتقبل على التعامل مع الأشياء الجديدة والغريبة التي بدأت تغزو حياة القرية بعد التبدل الطارئ الذي حدث بعد أن أخذ مال عمالة الخليج يتدفق على القرية. أما حادثة القدّاس التي ارتبطت بالشيخ رضوان فقد ظلت سراً بعد أن قام بدور رجل الدين المسيحي في ترتيل الأناشيد الدينية في القداس الذي أقامته كنيسة البلدة بعد ترميمها، إذ لم يكن هناك رجل دين مسيحي يقوم بهذه المهمة، فاستعين بالشيخ رضوان للقيام بهذا الدور، خاصة أنه صاحب صوت جميل، ولذلك ارتدى ثوب الكاهن سراً وانخرط في أداء هذا الدور الذي برع به. وبقدر ما تعبر هذه القصة عن التسامح والتآلف والمودة بين سكان البلدة، فإنها تستعيد قيم التسامح والتعاطف والانفتاح بين أبناء الأديان المختلفة في زمن تبرز فيه ظواهر التعصب والانغلاق والتزمت، ما يجعل من استعادة تلك المواقف وقيم الحياة المعبرة عن التضامن والمحبة ضرورة لمواجهة تلك الظواهر الغريبة التي تفرِّق بين الناس وتعزلهم عن بعضهم البعض على أساس هوياتهم الدينية بحيث تغيب مبادئ التسامح والمودة والتآلف الإنساني الذي هو أساس الوجود الإنساني في أي مجتمع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©